تحمية أمنية أنضجت «طبخة» أفضل الممكن

… «ميني» حرب في طرابلس حصيلتها عشرات القتلى والجرحى، صاروخا «غراد» على تخوم الضاحية الجنوبية لبيروت، احتكاكات في صيدا «القابلة للاشتعال»، ثلاثة شهداء للجيش اللبناني سقطوا في جرود عرسال، وصواريخ عابرة للحدود على الهرمل تسفر عن ضحايا.
… صناديق رصاص يلعلع في غير مكان، صناديق موت تعود بمقاتلين لـ «حزب الله» من سوريا، صناديق إقتراع تفتح على المجهول قبل ان تقفل على قنابل موقوتة، وصناديق فرجة من الكوميديا السوداء على طول المشهد السياسي وعرضه في بلاد يحكمها الهذيان.
هكذا كان حال لبنان في اللحظة التي بلغ مأزقه السياسي مستويات الذروة، حين إقترب من الانهيار الذي لا قرارة له، قبل ان «يستدرك» فيندفع نحو تجرع حلول قيصرية للحيلولة دون اغلال آخر مظاهر الدولة ومؤسساتها، عبر التمديد للبرلمان المصاب بـ «الخواء».
كأنها «كبسة زر» ضاعفت من التوترات الامنية لإمرار «التمديد» على الحامي، بعد اشهر مديدة من «طواحين الكلام» للتعمية على قرار إتخذ في «مكان ما» للحؤول دون التفاهم على قانون جديد للانتخاب، وتطيير الاستحقاق النيابي تالياً، في لعبة الهروب الدائم الى الامام.
أرثوذكسي، مختلط، ستين، دوائر صغرى ودوائر كبرى… هكذا دارت الدوائر على لبنان الذي عجز عن الالتزام بواحد من الاستحقاقات الدستورية في عملية تداول السلطة، ووجد نفسه مدفوعاً نحو التسليم بـ «قدر» التمديد، خشية الانزلاق نحو الفراغ القاتل، كأقصر الطرق لإعلانه دولة فاشلة.
على وقع الكلام الخطير للأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله، الذي اعلن عبره بدء مرحلة جديدة من الصراع وجهتها سوريا، وعلى وقع ازيز رصاص القنص المميت في طرابلس التي بدت وكأنها «تسبح في دمها»، وعلى وقع دوي انفجار صاروخي الضاحية وغبارهما السياسي، وعلى وقع تحمية الارض في صيدا المشرعة على إحتمالات خطرة، وعلى وقع سيناريوهات غامضة تقف خلف إستهداف الجيش اللبناني في عرسال… وعلى وقع كل ذلك تحركت «مطرقة» رئيس البرلمان نبيه بري، معلناً «صدق، صدق» على قرار التمديد للبرلمان و«ترحيل» الازمات وفوهاتها المفتوحة الى اجل قد لا يكون بعيداً.
لعبة مقايضات
لعبة من المقايضات الكثيفة جرت، كاسحات ألغام تحركت في اكثر من اتجاه، عصا وجزرة، مد وجزر، مناورات وبالونات إختبار، تهديد ووعيد و«شرّ مستطير»… بهذا «التدافع الخشن» جرى إخراج تسوية «أفضل الممكن» بعدما لاحت في الأفق خيارات تراوح بين السيىء والاسوأ و… الكارثي، نتيجة إنسداد الأفق السياسي في البلاد التي تقيم في عين العاصفة السورية وفي قلبها، بعدما زُجّ بها في الاتون المفتوح حتى إشعار آخر.
نقطة التحول «الاستراتيجية» في الصراع الداخلي كإمتداد لما يجري في لبنان، تمثلت في الدور الجديد لـ «حزب الله» في الداخل السوري وعلى جبهة الجولان، وهو التطور المفصلي الذي يتجاوز في أخطاره ملابسات الانتخابات والتمديد في دولة، اعلن نصرالله نعيها في إطلالته الاخيرة، بعدما قدم نفسه بديلاً عن «الجيش والشعب» في الدفاع عن لبنان وحمايته.
فقد اعلن نصرالله في الذكرى 13 لتحرير الجنوب «اننا أمام مرحلة جديدة بالكامل بدأت في الاسابيع الاخيرة بالتحديد» في ما خص الوضع السوري، مشيراً الى «ان عنوان المعركة هو تحصين المقاومة وحماية ظهرها، وتحصين لبنان وحمايته»، ومعتبراً «ان سيطرة الجماعات التكفيرية ذات الغلبة على القوى المسلحة في سوريا على محافظات محددة وخصوصاً المحاذية للبنان هي خطر كبير على لبنان وكل شعبه»، ولافتاً الى «ان الوباء التكفيري الذي وُعدنا بان يأتي الينا يضع مستقبل لبنان وسوريا وفلسطين وشعوب المنطقة في خطر، فاذا سقطت سوريا في يد اميركا واسرائيل والجماعات التكفيرية فان شعوب ودول المنطقة مقبلة على عصر مظلم».
وغداة كلام الامين العام لـ «حزب الله»، فركت الضاحية الجنوبية لبيروت «عيونها» على صاروخين استهدفاها وبديا محمّليْن برسائل ترتبط مباشرة بمعركة القصير.
صاروخا الضاحية
خمسة جرحى (بينهم اربعة سوريين وسيدة لبنانية) كانت حصيلة صاروخي «غراد 107» اللذين سقطا في محلة الشياح، الأول في معرض للسيارات في محيط كنيسة مار مخايل والثاني في محلة مارون مسك على مبنى سكني وأدى الى أضرار مادية وكاد ان يودي بعائلة حجازي.
ولم يكد ان يُسمع دوي الانفجارين في الضاحية الجنوبية التي تُستهدف للمرة الاولى منذ حرب تموز (يوليو) 2006 الاسرائيلية، حتى ساد «حبْس الأنفاس» بين أبنائها الذين يعيشون منذ فترة في مناخ ان منطقتهم صارت في «دائرة الخطر» على خلفية مجريات الصراع في سوريا والتهديدات التي توجّه الى «حزب الله» نتيجة انخراطه في معركة القصير.
وللوهلة الأولى اعتقد سكان المنطقة المحيطة بمكان وقوع الانفجارين اللذين تردد دويهما في دائرة واسعة نسبياً خارج الضاحية، ان الامر ناجم عن سيارة مفخخة، قبل ان ينقشع الغبار على صاروخين قيل انهما من نوع غراد 122 ميلليمتراً، قبل ان يتبيّن انهما من نوع غراد 107 بدائية تم إطلاقها من منطقة عيتات (في عاليه) الواقعة على بُعد حوالي 13 كيلومتراً الى الجنوب الشرقي من الضاحية.
وفي حين كانت علامات استفهام كبرى ترتسم حول ما اذا كان إطلاق الصاروخيْن هو في اطار تكريس معادلة «القصير مقابل الضاحية الجنوبية»، برز تضارُب داخل «الجيش السوري الحر» حيال هذا التطور الذي تبنّاه أمين سرّ هذا الجيش عمار الواوي، معتبراً اياه «إنذاراً اول» في حين سارع مسؤول إدارة الإعلام المركزي في القيادة المشتركة للجيش الحر فهد المصري الى نفي اي علاقة له بصواريخ الضاحية متحدثاً عن اتجاه لـ «توبيخ» الواوي ومذكراً بـ «المخطط» الذي سبق ان اشار اليه قبل ايام عن نية «حزب الله» استهداف مناطق محسوبة عليه لـ «شيْطنة الثورة».
وبينما كان الجيش اللبناني يعثر في الاحراج الواقعة في خراج بلدة عيتات على المنصتيْن الخشبيتين اللتين أطلق منهما الصاروخان، وعلى منصة ثالثة لصاروخ نقلت قناة «المنار» انه سقط في احد الاودية جنوب شرق بيروت، استعرت المخاوف من تداعيات على الارض لهذا التطور ولا سيما ان المنطقة التي استُخدمت لاستهداف الضاحية تقع في عاليه ذات الغالبية الدرزية والمحسوبة على النائب وليد جنبلاط واتضح انها استراتيجية لانها «تكشف» معقل «حزب الله» أمنياً.
وبينما كانت مواقف نواب «حزب الله» الذين نزلوا الى مكان وقوع الصاروخين تحرص على تأكيد «رفض الانجرار الى الفتنة واستباق التحقيقات»، كان همس يسري محملاً مسؤولية الصاروخين الى فصائل فلسطينية «ذات خبرة» في هذا النوع من الصواريخ، علماً بأن «مزاج» اهالي الضاحية كان «مشتركاً» في تفسير استهداف منطقتهم على انه في اطار الرد على خطاب الأمين العام للحزب في ذكرى تحرير الجنوب.
وصواريخ على الهرمل
وفي موازاة ذلك، شهدت منطقة الهرمل (البقاع – احد معاقل «حزب الله») سقوط صواريخ غراد مصدرها الاراضي السورية على مدى ايام متتالية، ما ادى الى وقوع ضحايا بين قتيل وجريح، قبل ان تنتقل «العدسة» الى منطقة عرسال التي سرعان ما صارت في قلب المشهد اللبناني مع استهداف حاجز للجيش سقط عليه 3 عسكريين بنيران مجموعة فرّت الى داخل الاراضي السورية المتاخمة، في حادثٍ عكس وجود هذه البلدة التي ترابط في البقاع الشمالي في «عين» العاصفة السورية.
فلم يكن الفجر قد بزغ حين اقدمت سيارة رباعية الدفع من نوع «هامر» دون لوحات على اطلاق نار باتجاه حاجز للجيش اللبناني تابع للواء السادس في وادي حميد في خراج عرسال، ما ادى الى مقتل العسكريين الثلاثة و«تفجير» أسئلة عن ملابسات هذا التطوّر وهذه الجريمة التي نُفذت بـ «دم بارد» في بلدة ذات غالبية سنية ومؤيدة للثورة السورية وتعيش «انتكاسة» في علاقتها بـ «المحيط الشيعي» الغالب في البقاع الشمالي والداعم للنظام السوري والتي ترتبط بـ «الحريق» السوري بحدود صارت كـ «خط نار» بامتداد حوالي 55 كيلومتراً من محافظة ريف دمشق الى محافظة حمص، وتسود علاقتها بالمؤسسة العسكرية «حساسية» منذ الحادث الذي وقع في جرودها في شباط (فبراير) الماضي بعد قتل وحدة عسكرية (بلباس مدني) المطلوب خالد حميّد خلال توقيفه ونصب مكمن محكم لها قُتل فيه عسكريان وجُرح آخرون.
واذا كانت «حيثيات» حادث شباط (فبراير) رُبطت بتوقيتها السياسي آنذاك بعناوين لبنانية ابرزها محاولة استدراج التطرف السني الى الواجهة إرباكاً للرئيس سعد الحريري وتهشيماً للصورة الاعتدالية التي ظهر عليها عشية ذلك الحادث حين أطلّ تلفزيونياً بنبرةٍ شكّل الاعتدال خطّها البياني، سواء حيال المسيحيين او «مدْنية» الدولة، فان ما شهدته عرسال (في 28 ايار – مايو) التي تُعتبر خزاناَ لتيار «المستقبل» بدا هذه المرة «موصولاً» بالنزاع السوري الذي تطلّ عليه هذه البلدة التي تحتل نحو 5 في المئة من مساحة لبنان (حوالي 400 كيلومتر مربع)، من خلال تموْضعها الجغرافي الذي يربطها من خلال حدودها الجنوبية بيبرود والنبك التي تطل عبرها ايضاً على طريق دمشق الدولي وصولاً إلى العاصمة السورية، في حين تتصل من خلال جردها الشمالي بأطراف ريف القصير، وعبر مشاريع القاع، «التوأم» لها في السياسة والديموغرافيا، بقرى الشريط السني في ريف القصير.
وبهذا المعنى بدا صعباً للغاية في نظر دوائر مراقبة الفصل بين استهداف الجيش اللبناني في عرسال والمعارك الضارية الدائرة في المقلب الآخر من الحدود ولا سيما في القصير بين الجيش النظامي مدعوماً من «حزب الله» و«الجيش السوري الحر».
حادث عرسال
وتبعاً لذلك، رسمت الدوائر المراقبة سيناريوهين لحادث عرسال الذي تقاطعت المعلومات عند الاشارة الى ان غالبية مَن كانوا وراءه هم سوريون. والسيناريوهان هما:
– سعي النظام السوري الى استكمال محاولة «تأديب» عرسال وليّ ذراعها على خلفية دعمها للثورة السورية وتشكيلها ممراً لوجستياً وخط إمداد للثوار في القصير، وذلك عبر تصويرها «قاتلة» للجيش اللبناني وتالياً وضعها في مواجهة مع المؤسسة العسكرية وجرّ الاخيرة الى «محاصرتها» لقفل هذا الدفرسوار المفتوح على مناصرة المعارضة في القصير وريفها.
وكانت تقارير صحافية اشارت قبل نحو شهرين الى سيناريو عسكري يجري العمل وفقه على الحدود مع لبنان ويقوم على محاولة الجيش السوري النظامي و«حزب الله» السيطرة على الخط الذي يربط مشاريع القاع بمنطقة عرسال لقطع التواصل بين الاخيرة وجردها وبين ريف القصير الشرقي بعدما تمت السيطرة على ريف القصير الجنوبي، وان النجاح في تحقيق هذه الخطة يتيح للجيش السوري وضع «فكي كماشة» من الجنوب والشرق والشمال على مدينة القصير تمهيداً لإسقاطها.
– اما السيناريو الثاني، فهو ان يكون الحادث في إطار الرد من الثوار السوريين على قيام مسلحين من آل جعفر عشية الهجوم بقطع طريق اللبوة (قرب عرسال) على سيارة اسعاف تنقل الجريح السوري (من الجيش الحر) عدنان محمد إدريس من الداخل السوري وخطفه إلى جهة مجهولة، الامر الذي اشارت تقارير في وسائل اعلام قريبة من 8 آذار الى انه قد يكون وراء استهداف حاجز الجيش نتيجة تحميل المؤسسة العسكرية مسؤولية التواطؤ وتسهيل عملية الخطف.
ولم تحجب هذه التطورات «دخان» الـ «ميني حرب» التي اندلعت في طرابلس وأفضت الى أكثر من 30 قتيلاً و260 جريحاً في جولة العنف رقم 18 منذ العام 2008 والتي أعيد في النهاية «الجمر» الى «تحت الرماد» بعد إجراءات الجيش اللبناني الذي تحوّل قوة فصل بين المتقاتلين على ضفتي باب التبانة وجبل محسن المنخرطين في مواجهة مفتوحة وإن بتقطّع، تشكّل امتداداً لجرح نازف منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي وصولاً الى العام 1986 حين وقعت المجزرة التي ارتكبتها القوات السورية (في التبانة) وراح ضحيتها المئات.
واذا كان الاصطفاف قبل ثلاثة عقود تم على خلفية النزاع بين المسلحين الفلسطينيين (كانوا في طرابلس التي انتقل اليها «ابو عمار» بعد اجتياح 1982 الاسرائيلي) والقوات السورية حيث وقف أبناء جبل محسن مع النظام السوري ورئيسه الراحل حافظ الأسد في حين انحاز أهالي التبانة إلى جانب الفلسطينيين، فان النظام السوري بقي في العام 2013 محور «الانشطار» بين منطقتين «تتقاتلان» سياسياً وأمنياً على خط «الانقسام المذهبي» حيال الموقف من دعم الثورة او الرئيس بشار الاسد والذي يتقاطع مع الاحتقان اللبناني المتصاعد منذ العام 2005 لتتحوّل طرابلس مرآة لحال «بلاد الأرز» المنقسمة في الداخل وحول الخارج.
الانهيار او التسوية
وتحت ستار هذا الوابل من التوترات الامنية، عاش لبنان سباقاً فعلياً بين الانزلاق نحو خطر الفتنة او الفوضى، ومحاولات «تصفيح» واقعه السياسي من خلال ايجاد حلّ للأزمة المستفحلة على صعيد قانون الانتخاب على قاعدة التمديد بـ «شق النفس» للبرلمان في جلسة تنعقد على «حافة» انتهاء الدورة العادية لمجلس النواب وتفضي الى تمديد لـ 15 شهراً.
وعشية هذه التسوية التي خُفضت معها مدة التمديد من سنتين كما كان يصر «حزب الله» وحركة «امل»، كان السباق وصل الى ذروته بين المسار الامني الذي شكل واقعياً ذريعة ودافعاً مباشراً الى التمديد لمجلس النواب، والمسار السياسي الذي ازدحمت فيه تعقيدات الشروط والفيتوات التي كان يصطدم بها مشروع التوافق على التمديد للبرلمان.
وقد خضع التمديد قبل اقراره للمزايدات بين القوى المسيحية من خلال تمسك العماد ميشال عون برفضه من جهة وتشدُّد البطريركية المارونية ورئاسة الجمهورية في رفض تمديد طويل المدى وبلا أفق لقانون جديد من جهة اخرى.
الا ان هذا الواقع كان ينذر بوضع الافرقاء الآخرين جميعاً امام شلل يصبح متعذراً معه اي مخرج توافقي فتكبر تالياً اخطار الفراغ ولا سيما ان عدم التوافق على التمديد كان سيدفع حتماً نحو اجراء الانتخابات في 16 حزيران (يونيو) بعدما ازالت حكومة تصريف الاعمال العقبات الاجرائية امام انجاز الاستحقاق النيابي، كما انه كان ينذر بإسقاط البلاد في الفراغ مما يتسبب بمرحلة مختلفة من النزاع السياسي على وقع اضطرابات امنية.
وتبعاً لذلك، عرف لبنان ساعات حاسمة من الاتصالات قبل ان تلتئم هيئة مكتب البرلمان وتنعقد الجلسة العامة ويولد التمديد «القسري».
فؤاد اليوسف