الاقتصادمفكرة الأسبوع

سلطة النقد صمام امان للسلطة الفلسطينية

لم تحجب المعاناة التي يعيشها الفلسطينيون في الضفة والقطاع كوة النور التي تمثلها سلطة النقد الفلسطينية، التي شكلت صمام الامان للسلطة الفلسطينية، وحمت البنوك الفلسطينية من تداعيات الازمة المالية العالمية، والادوات المركبة التي اطلق عليها حاكم مصرف لبنان رياض سلامه «الادوات المسمومة» التي استطاع هو ايضاً ان يحمي مصارف لبنان منها.

شاءت سلطة النقد الفلسطينية ان تكون نموذجاً يمثل ذروة المساعي الفلسطينية الرامية الى بناء مؤسسات مناسبة لدولة مستقبلية، وهذا ما عبرت عنه في غير مجال، اذ عملت العام الماضي على تسريح معظم موظفيها لتعين مكانهم خبراء وحملة شهادات عليا بناء على معيار الكفاءة، وهي رفاهية لا يمكن للوزارات المتضخمة بالموظفين تحملها في ظل التوترات الاجتماعية الراهنة.
ولعل من اهم اسباب نجاح سلطة النقد استقلاليتها عن الوضع السياسي الفلسطيني المتقلب، والمأزوم في بعض الحقبات، وتكاد تكون المؤسسة الوطنية الوحيدة التي نجت من الانقسام الحاد في 2007 بين حركة المقاومة الاسلامية (حماس) في غزة، وحركة فتح في الضفة الغربية. ولم يبد اي من الفريقين استعداداً لبسط نفوذه على سلطة النقد، وتعريض ودائع انصاره للخطر.

الراعي المصرفي
واذا كان رئيس سلطة النقد جهاد الوزير، نجل خليل الوزير، الزعيم الفلسطيني البارز الذي اغتالته اسرائيل في تونس عام 1988، يقول مازحاً «غرفتنا مرتبة ومنظمة تماماً، لكنها قد تكون على متن السفينة تيتانيك»، فان ذلك لا يعني قط امكان غرق السلطة بقدر ما هو التعبير عن صعوبة الظروف التي تواجه سلطة النقد.
ورغم هذه الظروف الصعبة التي تجمع بين العقوبات الاسرائيلية وشبح المساعدات الخارجية، استطاعت سلطة النقد ان ترعى القطاع المصرفي الفلسطيني خير رعاية من خلال نظام اقراضي متحفظ، يبقي الديون الرديئة عند ادنى مستوى ممكن، ويضمن توافر السيولة بكفاءة.
ويعترف رئيس السلطة ان البنوك الفلسطينية وصلت الى اقصى ما تستطيعه من الاقراض الحصين للحكومة، الذي لا يزيد المخاطر على النظام المصرفي، بحيث بلغت الديون المصرفية المستحقة على الحكومة وموظفيها وشركائها من القطاع الخاص نحو 2،5 مليار دولار، اي اكثر من 20٪ من اجمالي اصول البنوك.
والحقيقة ان هذه الديون تكدست نتيجة تقلص المساعدات الخارجية بمقدار الثلثين مقارنة بما كانت عليه قبل اربع سنوات لتصل الى 600 مليون دولار فقط في العام 2012،بفعل انشغال الدول الخليجية المانحة بالتباطؤ الاقتصادي العالمي، والانتفاضات العربية، وتضاؤل التمويل الاميركي، علماً ان الحكومة تعتمد بشدة على المساعدات الخارجية والائتمان المصرفي لتغطية نفقاتها.
وبحسب تقرير مالي مصرفي، ارتفعت الديون العامة المستحقة للبنوك التي تشرف عليها سلطة النقد (بنك فلسطين، بنك القدس وسواهما) الى اكثر من ضعفيها في الفترة نفسها. وبلغ العجز في ميزانية الحكومة 1،3 مليار دولار، اي ما يزيد على 12٪ من اجمالي الناتج المحلي.

مقاومة مصرفية
وعلى الرغم من الصعوبات الاقتصادية التي تواجهها الحكومة فان اختبارات التحمل التي اخضعت لها البنوك دلت بما لا يقبل الشك على ان القطاع المصرفي لا يمكن ان ينهار الا في سيناريو كارثي يشهد اقبالاً شديداً على سحب الودائع مصحوباً بتوقف شبه كامل للقطاع الخاص.
فرأس المال الاساسي للنظام المصرفي الفلسطيني – وهو المعيار الرئيسي لقوة البنوك – بلغ، بحسب صندوق النقد الدولي، 24٪ من اجمالي الاصول العام الماضي وهي نسبة عالية بشكل ملحوظ. وتتراوح نسبة رأس المال الاساسي للبنوك الاوروبية المتعثرة بين 7 و10٪، بينما تبلغ 8٪ لدى البنوك الاسرائيلية.
وتشكل نسبة القروض المتعثرة في البنوك الفلسطينية اقل من 3٪ من اجمالي القروض، وما زالت نسبة الديون الى الودائع لديها افضل بكثير من نظيرتها في الاردن واسرائيل.
وبفعل عدم تعامل البنوك الفلسطينية مع المنتجات المالية المعقدة مثل المشتقات (الادوات المسمومة) بتوجيهات صارمة من سلطة النقد عزلت نفسها عن الاسواق المالية العالمية الى حد كبير، ما جعلها تنجح في مواجهة الازمة المالية العالمية عام 2008 من دون ان يلحق بها اي ضرر.
ويعود الفضل في حيوية البنوك الفلسطينية ايضاً ومقاومتها الى مكتب الائتمان التابع لسلطة النقد، والذي يرصد الديون المشكوك فيها وينصح بتجنبها. ويقول اودو كوك، الممثل المقيم لصندوق النقد الدولي الذي يقدم المساعدة الفنية لسلطة النقد الفلسطينية: «وان مكتب الائتمان الذي تفحص فيه جميع القروض وحالات العجز عن السداد، والجدارة الائتمانية للعملاء يعتبر واحداً من افضل المكاتب في المنطقة، ومثالاً يحتذى لدول اخرى».

الوجه الآخر
غير ان هذه المناعة المصرفية ونجاح سلطة النقد يتناقضان مع معاناة الحكومة مع موظفيها، وعجزها عن دفع رواتبهم الشهرية البالغة 300 مليون دولار بسبب حرمانها من رسوم جمركية بقيمة 100مليون دولار تجمعها اسرائيل نيابة عن السلطة الفلسطينية شهرياً، وقد حجبتها اسرائيل كعقوبة للفلسطينيين بعد حصولهم على اعتراف فعلي من الامم المتحدة بدولة فلسطينية في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي.
وكان من جراء عدم دفع الرواتب تنظيم اضرابات عن العمل، واحتجاجات امام الدوائر الرسمية تكررت بشكل متصاعد في الاسابيع القليلة الماضية، كما ادت هذه الظاهرة الى مضاعفة الاقراض المصرفي للافراد في الاراضي الفلسطينية بمقدار خمسة اضعاف في العامين الماضيين.
وبالاضافة الى العوامل التي اشرنا اليها آنفاً والتي ساهمت في عجز الحكومة عن دفع رواتب الموظفين، ثمة تباطؤ في قطاعات الصناعات التحويلية والبناء والزراعة ساهم ايضاً في حرمان الحكومة من الايرادات غير المباشرة

الكساد انسحب على غزة
الازمة المالية التي تمر بها السلطة الفلسطينية والمتمثلة بعدم دفع رواتب الموظفين، انعكست سلباً على اوضاع غزة الاقتصادية، التي طبعتها حالة من الكساد التجاري الذي انسحب على مختلف القطاعات.
وتسببت حالة الكساد بتراجع حركة البيع والشراء وتراكم البضائع رغم حملات التنزيلات التي تقوم بها المحال التجارية، وقد شمل هذا التراكم البضائع التي كانت غزة تشكو من نقص فيها بسبب الحصار كالسيارات وقطع الغيار.
واكد احد المحللين الاقتصاديين ان الازمة المالية اجبرت الموظفين ومن يعتاش على هذه الشريحة الكبيرة الى تغيير انماطهم الاستهلاكية، بحيث بات الاهتمام ينصب على تلبية الحاجات الاساسية، والعزوف عن المستلزمات الاستهلاكية الاخرى كالملابس والاحذية وغيرها.
وشاار المحلل نفسه الى انه رغم عدم خضوع اسعار السيارات والعقارات لموضوع الرواتب بشكل مباشر، فان هذين القطاعين يعانيان من تكدس في العرض مقابل قلة في الطلب نتيجة ارتفاع اسعارها من جهة، وضعف القوة الادخارية للمواطنين من جهة اخرى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق