تحقيق

دور الازياء تنقذ اثار روما

من «تودز» الى «فندي» الى «ديزل»… دور الازياء الايطالية الشهيرة تطلق آخر صيحات الموضة في سباقها «غير المسبوق» الى حماية اشهر معالم ايطاليا  الاثرية وانقاذها من الاندثار بتمويل ترميمها بعد اقدام الحكومة الايطالية على اختصار الميزانية الثقافية الراعية للآثار فيها، واول الغيث، دار «فندي» الايطالية للأزياء الراقية التي ترمي ما يزيد عن 2،5 مليون دولار أميركي في النافورة الايطالية الشهيرة «تريفي» وقبلها «الكولوسيوم» وبعدها «جسر ريالتو»…

نافورة تريفي، تحفة الفن الباروكي ونجمة  فيلم «دولتشي فيتا» للمخرج فديريكو فيلليني، ستخضع لعملية ترميم كلفتها 2،12 مليون يورو، تمولها دار الأزياء الشهيرة «فندي» في روما، ســاعيةً إلى تقديم مثال على رعاية الفن والتراث في العاصمة الإيطالية. وتقدمت دار «فندي» للأزياء والمنتجات الفاخرة خلال الأسبوع  الفائت بعرض للمساهمة في ترميم النافورة الشهيرة في وسط مدينة روما، ومن المتوقع أن تبدأ أعمال الترميم في شهر آذار (مارس) المقبل وأن تستمر لعام كامل، ولم يعلن إن كان ذلك سيؤدي الى حجب النافورة عن منال السياح خلال تلك الفترة.

الى عهدها الذهبي
رئيس بلدية روما، جياني اليمانو، صرح خلال مؤتمر في متحف «كابيتول» في حضور مصمم الأزياء الألماني كارل لاغرفيلد وسيلفيا فينتوريني فندي، وهما المدير الفني ومديرة الابتكارات في دار «فندي»، بأن «ترميم نافورة تريفي مثال على أهمية التعاون بين القطاعين العام والخاص». وشدد على أنه، في مواجهة الأزمة الاقتصادية، «ثمة حاجة إلى أعمال جديدة من هذا النوع»، مبدياً رغبته في إعادة النافورة إلى سابق عهدها.
والنافورة الشهيرة التي شكلت ديكوراً لمشهد شهير في فيلم «دولتشي فيتا» (1960)، عندما رمت آنيتا ايكبرغ، المرتدية فستاناً أسود ضيقاً، نفسها في المياه أمام مارتشيلو ماستروياني المذهول، وتعتبر من ابرز معالم روما الاثرية حيث يتقاطر إليها السياح بأعداد لا تحصى، تبدو اليوم في وضع سيىء. وقد بنيت بتكليف من البابا كليمنت الثاني عشر في عام 1732 وهي من أكثر الأماكن التي يحرص السياح على زيارتها وممارسة طقس شهير أمامها بإلقاء قطعة نقود معدنية فيها أملاً في تحقيق أمانيهم، لتجمع مخلفات السياح وتصب في الميزانية المخصصة لرعاية الآثار في إيطاليا.
وتحتضن روما 44 أثراً عالمياً مسجلاً في قائمة التراث العالمي باليونيسكو و5000 متحف و60 موقعاً أثرياً، يتصدرها المدرج الروماني الكولوسيوم ونافورة تريفي.
وعلى الرغم من تداعيات الأزمة الاقتصادية حول العالم الا أن سيل السياح القادمين لزيارتها لم يتأثر بها، وفي المقابل لم يتقلص حجم الضرر الذي يخلفونه في الأماكن السياحية التي يرتادونها، تاركين «بصماتهم  الملموسة» عليها، كما أثرت الأحوال الجوية على بعض أحجار النافورة وتساقط منها بعض قطع الجص والحجر في العام الماضي بعد موجة صقيع أصابت روما، وهي ستخضع لعملية تجديد شاملة، من تنظيف وترميم للمنحوتات الحجرية والرخامية وإصلاح طبقة الرصاص في الإفريز، ونصب نظام جديد للمراقبة بالكاميرات.

شعار وشكر لاربع سنوات
وإذ ستتكفل دار «فندي» بالنفقات كاملة، سيوضع شعارها، بحجم صغير، على لوحة الورشة، على أن تستفيد أيضاً من لوحة شكر صغيرة توضع على النصب لمدة أربع سنوات.
ويؤكد كارل لاغرفيلد أنه أتى أكثر من 700 مرة إلى روما كان أولها في الخمسينيات مع والديه، ويقول: «إنها فكرة رائعة ومشروع كبير، فالنافورة رمز لروما، تماماً مثل الكولوسيوم وساحة القديس بطرس». ويتعاون لاغرفيلد منذ عام 1965 مع دار «فندي» المعروفة بسلعها المصنوعة من الجلد والفرو وحقائب «باغيت».
ويتوقع أن تستمر الأعمال 20 شهراً، على أن تنتهي في موعد أقصاه العام 2015، إلا إذا لاقت النافورة مصير الكولوسيوم الذي لم تنطلق أعمال ترميمه حتى الآن، في حين كان يفترض أن تنطلق في آذار (مارس) 2012. وهذه الأعمال التي يمولها، بمبلغ 25 مليون يورو، صاحب دار الأحذية الإيطالية «تودز»، معطلة بسبب لجوء شركة خسرت استدراج العروض إلى القضاء.
وقال رئيس بلدية روما إن «الكولوسيوم شكّل حقل تجارب لإحياء الرعاية الثقافية»، معرباً عن أمله في اللجوء أكثر فأكثر إلى هذا النوع من الرعاية، لترميم إرث المدينة الغني، خصوصاً أن بلديتها تعاني ضائقة مالية.

على روما أن تستفيد!
وهذه الدعوة للاستعانة بالقطاع الخاص لا تصدم لاغرفيلد الذي يقول: «شعاري في الحياة هو: مَن يملك المال يدفع، بكل بساطة. قطاع الموضة محظوظ لأنه يمتلك الأموال لأن الأعمال ممتازة، وأكثر من أي وقت مضى، وعلى روما أن تستفيد!». وسيستغل مصمم الأزياء الفرصة لإصدار كتاب عن نوافير روما، مستخدماً أسلوب «التصوير الداغيري» الذي وضعه لوي داغير عام 1837. وفي إطار مبادرة «فندي فور فاونتينز»، وقعت دار «فندي» اتفاق رعاية مع بلدية روما، تتعهد بموجبه، إلى جانب ترميم نافورة تريفي، بتمويل ترميم «النوافير الأربع»، وهي مجموعة ضخمة أسدل عليها التلوث ستاراً أسود وتقع في القصر الجمهوري، وذلك بكلفة 320 ألف يورو.
فالى جانب الميادين والمسارح الرومانية، تشتهر روما أيضاً بنوافير المياه التي تعبر عن مهارة نحت فنية متقدمة، منها نافورة «تريفي» وهي أكبر نافورة مياه في روما بارتفاع 25 متراً وقطر يصل إلى 20 متراً. وتم تصميمها بشكلها الحالي في عام 1732 واستكملت في العام 1762. وتظهر النافورة في الكثير من الأفلام التي تم تصويرها في روما مثل «عطلة رومانية» و«الحياة الجميلة» (لا دولشي فيتا) من إخراج الإيطالي البارع فريدريكو فيلليني. وهناك أيضاً نافورة الأنهار الأربعة التي تقع في ميدان نافونا.

صرخة عمدة روما… وصفقة!
يذكر انه مع اقتطاع ثلث ميزانية الثقافة في ايطاليا عام 2011، باتت الآثار التاريخية وحيدة في معركتها مع الزمن والبشر، وعموماً لا تتوقف أفواج السياح عن زيارة المعالم في إيطاليا وهو ما يعد امراً جيداً في هذا البلد الأوروبي الذي يعاني من ضائقة مالية يتشارك فيها مع باقي دول الاتحاد الأوروبي. لكن تدفق السياح يحمل معه أيضاً بعض الضرر لتلك الآثار مما يعني إنفاق المزيد من المال لترميمها وصيانتها. ولمواجهة تلك الأضرار وجد جياني أليمانو عمدة روما حلاً عملياً قريباً يتمثل في دعوة الشركات الإيطالية الكبرى الى المشاركة في نفقات ترميم وصيانة تلك المواقع، كما ان الصفقة فيها أيضاً ما يحمس الشركات للموافقة عبر اتفاقيات لحملات إعلانية داعمة.
العرض الذي بدا مغرياً نجح في إقناع عدد من الشركات الإيطالية ورجال الأعمال في المساهمة. فالنخبة الايطالية المتذوقة للفن والصانعة له لم تقف على الحياد بل وجدوا حلاً فيه الخير والمنفعة المتبادلة لجميع الأطراف. وبناء عليه، شهد العام الماضي تقدم شركات أزياء ومنتجات فاخرة مثل «تودز» و«ديزل» و«فندي» بعروض لترميم أماكن أثرية وتاريخية معينة، لتتحول ظاهرة حماية الآثار في ايطاليا الى آخر صيحات الموضة فيها، وليس الأمر تبرعاً «لوجه الله» وانما صفقة تبدو مربحة لكل الأطراف، حيث تضخ الشركة المكلفة بأعمال الترميم ملايين الدولارات لإنقاذ الآثار التاريخية من الاندثار مقابل احتكار شعار هذا الصرح الحضاري على مدى أعوام اضافة للحصول على حق وضع شعار الشركة على الملايين من تذاكر الزوار.

«تودز» ترمم الكولوسيوم
ومن الشركات المتقدمة لعروض مهمة كانت شركة المنتجات الجلدية «تودز» بعرض 25 مليون يورو لعملية ترميم لأثر روما الأشهر، المدرج الروماني (الكولوسيوم)، مقابل فرص للدعاية، الا أن  خلافات وقعت  حول اختيار شركات المقاولة ما عطل بداية أعمال الترميم. وذكر وزير الثقافة الإيطالي المنتهية ولايته لورينسو أورنجي  مؤخراً أن أعمال تجديد «الكولوسيوم» بروما التي تأجلت لفترة طويلة يمكن أن تبدأ في شباط (فبراير) الجاري شريطة تسوية المعركة القضائية والبيروقراطية التي تعرقل المشروع بحلول هذا الموعد.
وكانت مؤسسة حماية المستهلك الإيطالية قد لجأت الى القضاء لإيقاف الاتفاق مع شركة «تودز» طارحة تساؤلاً حول شرعية اللجوء للشركات الخاصة لدعم عمليات الترميم والصيانة، وأثارت في شكواها أيضاً عدم وجود شفافية في إرساء المناقصات على شركات المقاولات التي ستقوم بالعمليات الترميمية. ولكن المحكمة قررت رفض الدعوى لتزيح بذلك آخر العراقيل أمام البدء في المشروع.
ومن المتوقع أن تتم عملية ترميم الكولوسيوم على مراحل عدة، أولاها ستستغرق 915 يوماً وتشمل الأقواس في مدخل المدرج الروماني.
تكلفة مشروع الترميم تقدر بحوالي 25 مليون يورو، وسينفذ على مراحل لضمان بقاء المدرج مفتوحاً أمام الزوار.
وكانت الصحف الإيطالية كتبت عن رصد خبراء الآثار، ميلاً في كولوسيوم روما بواقع نحو 40 سنتيمتراً في اتجاه الجنوب، لكن مديرة الكولوسيوم، روسيلا ريا نفت وجود خطر حقيقي يهدد المدرج: «الكولوسيوم هو في حالة استقرار، لكن أعمال الترميم ضرورية وسنعمد إلى إدخال فعاليات جديدة على عمل المدرج السياحي». ويعاني المدرج من سقوط أحجار منه بشكل مستمر وخصوصاً في منطقة الحلبة التي شهدت معارك المصارعين الرومان، كما يعاني من تأثير عوادم السيارات التي أضفت عليه طبقة من اللون الأسود. وتشمل الصفقة إقامة مركز للسياح خارج المدرج وأيضاً ترميم المنطقة الداخلية للحلبة وللغرف الحجرية تحت الأرض.
أما بالنسبة الى شركة «تودز» وطبقاً للاتفاق فإن الصفقة الضخمة ستعود عليها بحق استخدام شعار المدرج الروماني الذي بني بين عامي 70 و72 بعد الميلاد تحت حكم الإمبراطور فيسباسيان، على حملاتها الإعلانية لمدة 15 عاماً وأن تضع شعارها على تذاكر الدخول. والجدير بالذكر أن عدد زوار المدرج الروماني الذي كان مخصصاً لقتال المصارعين الرومان حتى الموت، يصل إلى ستة ملايين زائر في العام. ويذكر ان آخر أعمال الترميم التي خضعت لها الكولوسيوم جرت في العام 1938 أي قبل أكثر من 73 سنة «ولقد حان الوقت لترميم جديد» كما يؤكد رئيس بلدية روما.

و«ديزل» يتكفل بـ «جسر ريالتو»
وعدا عن هذا  ستستفيد مدينة البندقية من هذا التوجه الجديد إذ تكفلت شركة «أو. تي. بي» التي يرأسها رينزو روسو مؤسس ورئيس شركة «ديزل» للأزياء بتكاليف ترميم جسر ريالتو الشهير. وتبلغ قيمة العرض خمسة ملايين يورو تخصص لتنظيف وترميم الجسر الشهير على القناة الكبرى بالبندقية. ومن المتوقع أن يستغرق العمل 18 شهراً حسب  صحيفة «التلغراف».
جسر ريالتو صممه المعماري أنطونيو دا بونتي وانتهى بناؤه في العام 1591 ويعد من أشهر وأقدم معالم مدينة فينيسيا. ولا شك في أن عمر الجسر أكثر من 400 عام  ويرتاده سنوياً أكثر من 20 مليون سائح، ما خلخل بنيته وتسبب في تهدم أعمدة فيه بل وبإغلاق جزء منه مؤخراً بعد أن تكسر بعض درجاته الرخامية.
وبدا واضحاً ان روسو وديل فالي ينضمان الى قائمة من رجال الأعمال والشركات التي رأت فرصة سانحة في تلبية دعوة عمدة روما لدعم التراث الإيطالي، بينهم اصحاب بيوت أزياء «غوتشي» و«بالانسياغا» فالى دار «بولغاري» و«شركو ريبلاي» و«شوبار» و«بينيتون» حيث قاموا بشراء قصور تاريخية على جانبي القناة الكبرى او استخدام هذه القصور لوضع وبسط اللافتات الاعلانية عليها، رغم حركة احتجاج قوية ضد وضع هذه اللافتات على مباني البندقية واستغلالها تجارياً، فبعض الإيطاليين يرون في ذلك تعدياً على معالم بلادهم الأثرية ولكن البعض الآخر اقنعه منطق عمدة روما لما فيه من انعاش لحركة السياحة في البلاد من جهة، وانقاذاً لمعالم اثرية من الاندثار.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق