تحقيق

الزواج المدني في لبنان… لا أمل بذلك!

هي حتماً ليست قصة خلود ونضال كما صورها الاعلام، لكنها حتماً حكاية كل شخصين قررا الارتباط خارج الأطر الدينية المتعارف عليها في قانون الأحوال الشخصية في لبنان. وهذا حق مكرس في كل دساتير العالم، الا في الدول المتدينة ولبنان على رأسها. خلود ونضال تزوجا مدنياً أمام كاتب العدل لكن حكايتهما بدأت منذ تلك اللحظة، وكأن البلد كانت تنقصه قصة مماثلة لتدخل على خط القضايا التي يعوم عليها بدءاً من أزمة النازحين السوريين والأزمات المعيشية، وصولاً الى قانون الانتخاب. لكنها ليست المرة الأولى التي يطفو فيها موضوع الزواج المدني على السطح، ومن تأمل خيراً من تغريدة رئيس الجمهورية ميشال سليمان لجهة قوننة عقد الزواج المدني، شعر حتماً بالخيبة من موقف رئيس الحكومة ووزير العدل. لكن لا هذا ولا ذاك يشكلان العقدة الحقيقية، فهي تتوقف أولاً وآخراً على الذهنية والتربية. هل حجزتم على أول رحلة الى قبرص؟

تحت راية الأطر الدينية والكنسية تربينا، وهكذا نربي. وعلى أنغام «ما جمعه الله لا يفرقه إنسان»، وآيات رجل الدين القرآنية، يتم الزواج كما هو متعارف عليه في لبنان، ويبدأ مشوار العمر. هكذا حفظونا حكاية الإرتباط أو ما يعرف بسر الزواج. لكن الواضح أن للحكاية أسراراً أخرى، تبدأ بقانون الأحوال المدنية وصولاً إلى عقد الزواج المدني. والواضح أيضاً أن هذا المشهد بعيد عنا، إن لم نقل إنه مستحيل، لأننا ببساطة نعيش في دولة متدينة، ولا مكان للعلماني فيها بحسب المادة 9 من الدستور. إذاً الفرحة التي تجلت على وجه خلود سكرية ونضال درويش اقتصرت فقط على شاشات التلفزة، بدليل أنه ما إن وصلت وثيقة زواجهما الى مديرية الاحوال الشخصية حتى احالتها هذه الاخيرة الى هيئة الاستشارات في وزارة العدل للبت بصلاحية من صلاحيتها من الناحية القانونية، فكان الجواب ان القانون كما هو لا يسمح بتسجيل الزواج. وبحسب وزير العدل شكيب قرطباوي  فإن القانون كما هو لا يسمح بتسجيل عقد الزواج المدني، لكنه ترك باباً مفتوحاً امام المشترع اللبناني لاقراره  وكشف عن جهود سوف تبذل مع الجهات المعنية لمواجهة صريحة وجدية وجعل الزواج المدني نافذاً لمن يرغب في لبنان. تفاءلوا خيراً.

لا نقاش!
الجدال الذي فتح لاحقاً، أظهر أن هناك طاقة أمل. لكن كل شيء يبقى رهناً باصدار قانون واضح للزواج المدني وارساله الى المجلس النيابي. فهل يكون كلام رئيس الجمهورية ميشال سليمان بـ «وجوب قوننة عقد الزواج المدني في لبنان» بمثابة مقدمة لإصدار قانون يتيح لأبنائه اختيار الزواج دينياً كان ام مدنياً؟ الرئيس الراحل الياس الهراوي سبق ووقع على القانون، لكن رئيس الحكومة آنذاك الشهيد رفيق الحريري اعترض عليه، أما الرئيس نجيب ميقاتي فطلب سحبه من التداول.. يعني لا مجال حتى للنقاش فيه.
نعود إلى تاريخ قانون الزواج المدني، ففي العام 1951 طرح الموضوع للمرة الأولى في لبنان، مما أثار جدلاً كبيراً. وهذا ليس بمستغرب طالما أننا اليوم ومع كل دورات العصر وتطوراته لا يزال يشكل عقدة ومحطة للجدل البيزنطي المفتوح. وبين مؤيد للمشروع ومعارض له انقسمت الآراء، فرفضه رجال الدين بشكل قاطع، في حين لقي تأييداً من قبل الساعين لبناء دولة مدنية علمانية ديمقراطية. وارضاءً لرجال الدين، عدل مشروع الزواج المدني وجُعل إختيارياً وليس إلزامياً كما هو متعارف عليه في كل دول العالم التي تعترف بقانون الزواج المدني، شرط ألا يتم على الاراضي اللبنانية. فكرة لا بأس بها وإن كانت تعود بالفائدة المادية والسياحية الى دولة قبرص التي تحولت إلى مكان مقصد لطالبي الزواج المدني. لكن لماذا فتح الملف اليوم وهل تكون خطوة خلود ونضال بمثابة الشرارة التي لن تنطفىء قبل إقرار القانون أو على الأقل تسجيل زواجهما من خلال فتوى معينة؟

اشبه بمساكنة!
قد تكون مسألة تعويم قانون الزواج المدني في هذه المرحلة بمثابة التنفيسة نتيجة التراكم التفكيري تماماً كما الحال في كل مرة. لكن مسألة سريان مفعوله شبه مستحيلة طالما أننا لا نزال نعيش في نظام طائفي. الأمر محسوم وإن كان المتحمسون له قولاً، أكثر ممن أقدموا عليه فعلاً. وهذا طبيعي لأن علم الإحصاء في لبنان لا يزال مطموراً في أقبية شركات الإحصاء واستنسابيتها. والدراسات التي أجريت وأظهرت أن نسبة المؤيدين لقانون الزواج المدني بلغت 60 في المئة ليست دقيقة لأنها لم تكن محصورة بفئة عمرية. وبحسب الخبير النفساني لدى المحاكم روجيه بخعازي فإن المؤيدين لهذا القانون هم ممن لم يتجاوزوا حتماً عمر الـ 25، ومن تخطاه يفكرون بعقلانية  أكثر ويسلمون بالمنطق الذي يقول بأن فكرة الزواج المدني لن تلقى الترحيب سواء في أوساط عائلته أو عائلة الشريكة. ولفت بخعازي إلى أن الغالبية التي أيدت فكرة الزواج المدني إنما جاءت على خلفية التوفير المادي لأنها تكون لا تزال عاجزة عن دفع مصاريف الزواج الديني أو الكنسي.
«ما جمعه الله لا يفرقه إنسان». تحت هذه الآية الواردة في كتاب الإنجيل ووفق الشريعة الإسلامية يتم الزواج في لبنان. ولا شيء قابلاً للتعديل. وللرأي تفسيره بحسب بخعازي. «نحن محكومون بالمادة التاسعة من الدستور التي توصي بما معناه الخضوع والإجلال لله تعالى. وهذا يعني أننا خاضعون لدولة متدينة، ولا مكان للعلماني فيها، أو حتى لمن لا يؤمن بالله او من له إيمان خاص به. إذاً نحن نعيش في ظل دولة متدينة. وهذا الأمر ينطبق على كل الأطر البروتوكولية. هذا في الدستور. أما على المستوى القانوني فلا يوجد قانون يرعى الزواج المدني أو يسمح به في السفارات الأجنبية الموجودة على الأراضي اللبنانية، في حين يسمح للراغبين في ذلك في مطلق أي دولة أوروبية على اعتبار أن السفارة أرض أجنبية. أما القرار الصادر فهو قرار إنتدابي وينص على إصدار قانون. من هنا فإن كل زواج مدني بحسب القرار لا يحل أي خلاف قد ينشأ لاحقاً بين الزوجين. وأكد بخعازي أن مطلق أي كاتب عدل لا يملك صلاحية إعلان زواج مدني «وقد يكون تم إعلامه بالأمر من خلال ورقة رسمية موقعة من قبل نضال وخلود. من هنا فإن حال المتزوجين مدنياً في لبنان من الناحية الإجتماعية أشبه بمرحلة مساكنة أكثر من كونه زواجاً في مكان ما».

مفاعيل وضوابط اكبر
وللشق الديني مساحة في مسألة إقرار قانون الزواج المدني، ويقول بخعازي: «معلوم أن الزواج المدني لا يخضع لسلطة دينية أو كنسية وهذا الأمر غير وارد عند أكبر طائفتين في لبنان. فالزواج عند المسيحيين يتم تحت رعاية الله، وله صفة القدسية وليس عقداً متبادلاً بين الطرفين، لأن ما جمعه الله لا يفرقه إنسان. أما عند المسلمين فالزواج هو بمثابة عقد، والطلاق عندهم محلل لكنه يخضع لمفاعيل منزلة في كتاب القرآن». ولفت إلى أن المفاعيل تتغير عند المسيحيين على عكس ما هو حاصل في العقد، في حين يتغير العقد عند المسلمين أما المفاعيل فثابتة. ولفت إلى أن الذهنية اللبنانية التي تعتبر أن الطلاق في الزواج المدني أكثر سهولة مما هو في الإطار الديني خاطئة لأن هناك قضايا تمتد لأكثر من 8 أعوام، خصوصاً إذا دخل عامل المال، وقد تنتهي المسألة بتسوية بين الطرفين. ويضيف بخعازي: هناك أيضاً العقلية اللبنانية التي تتميز بالنمطية وتفضل الزواج الخاضع للإطار الديني على اساس أنه يفرض بعض الضوابط في حين أن الزواج المدني متفلت من الضوابط وتكمن فيه قطبة حرية الطلاق. لكن هذه المعادلة خاطئة بحسب القانون وهناك ضوابط أكبر مما يظن البعض في عقد الزواج المدني.

ثورة
ما لا يقبل الجدل أن طرح موضوع الزواج المدني يهدف إلى نوع من الثورة على تقاليد المجتمع أكثر مما هو على الإطار الديني «لأن الأخير يرافقنا منذ الولادة حتى الموت». حتى الكلام عن إيجابيات المشروع وسلبياته لا تجوز «لأن السؤال الأهم هو: هل الشعب اللبناني مستعد لتقبل الزواج المدني؟ الإحصاءات تؤكد أن نسبة المتحمسين تخطت الـ 50 في المئة» لكنهم حتماً لا يتجاوزون الـ 25 عاماً لأنهم غير قادرين مادياً، لكن عندما يصبحون مؤهلين فإنهم لن يختاروا الزواج المدني لأن المجتمع غير مهيأ والثبات الإجتماعي لا يكون إلا في الإطار الديني. وختم مؤكداً أن التحرر يجب أن يبدأ في الذهنية والتربية والتركيبة الطائفية وهذا حتماً يحتاج إلى «ثورة».
ليس مشروع الزواج المدني في لبنان طارئاً، فهو يعود الى العام 1951 عندما تمت  مناقشته في البرلمان ورفض. وفي العام 1960 بدأت جمعيات علمانية تطالب به من جديد عبر التظاهر. وعاد ليطرح في البرلمان من جديد في العام 1975 من قبل الحزب الديموقراطي، ولكنه أثار جدلاً كبيراً عندما طرحه الرئيس الياس الهراوي وأخذ اصداء كبيرة بين موال ومعارض. ويأتي مشروع الزواج المدني الأخير في لبنان واحداً من مشاريع عدة تطاول الخطوبة والزواج والإرث وحضانة الأطفال والطلاق والنفقة. لكن هذا المشروع لم يصل بعد حتى الى البرلمان اللبناني.

اختياري
لكن التعديل الوحيد الذي طاول مشروع الزواج المدني في لبنان هو الذي جعله إختيارياً وليس إلزامياً كما في الخارج، بهدف إرضاء رجال الدين. وبما أن غالبية المعارضين للزواج المدني في لبنان يرون فيه دماراً للعائلة فقد جاء في بنود عقد الزواج المدني الذي يتم في المحكمة على الحب المتبادل والرغبة في تأسيس اسرة تتمتع بكامل حقوقها الإجتماعية والمدنية والإقتصادية أمام القانون، ويتم تسجيل هذا العقد في سجلات الدولة، ويخضع بشكل كامل للقواعد القانونية التي حددها المشترع والتي لا يجوز للافراد مخالفتها. وفي القانون أيضاً اشارة الى وجوب عدم اقتران أي من الطرفين بزواج سابق ووجوب الإبلاغ عن الرغبة في الزواج قبل 15 يوماً من ابرام عقد الزواج المدني. ويفترض على طالبي هذا النوع من الزواج الانتظار ثلاث سنوات قبل ان يقدموا طلباً للطلاق الذي لا يقبل الا في حال الخيانة ويلغى الزواج في حال الخطأ في الشخص والغش والاكراه.

اعتراف ورفض
دينياً رفضت الكنيسة الزواج المدني، لان الزواج في الكنيسة ليس عقداً بشروط دنيوية بل هو سر من أسرارها، ويجب ان يتم بمباركة من رجل الدين المسيحي الذي يمثل المسيح على الارض. ولأن الزواج في الدين المسيحي هو رابط ابدي فإن الطلاق في الكنيسة الكاثوليكية غير وارد إنما هناك إبطال زواج، علماً ان الكنيسة تعترف بالزواج المدني لغير المسيحيين. اما بالنسبة الى رجال الدين المسلمين، فقد رفضوا الزواج المدني رفضاً قاطعاً لأن عقد الزواج يخضع لقانون القرآن، ولأن تعدد الزوجات لا يتعارض مع الإسلام، والطلاق مسموح وفق شروط القرآن. ومع أن الزواج المدني لا يتم رسمياً فــي لبنان، الا ان الدولة اللبنانية تعترف بالزواج المدني الذي يتم في الدول المجاورة. وعليه فمن الممكن ان يتقابل اللبنانيون فــي مكتب الأحوال الشخصية في قبرص. ويذكر أن الزواج المدني غير مطبق أيضاً في اسرائيل والاردن وسوريا.
ورد في نص للكاتب والروائي أمين معلوف: «انا احترم من يختار ان يتزوج في اطار ديني وأحترم من يختار أن يتزوج فــي اطـار مدني. الشيء الوحيد المرفوض هو حرمان المواطن من حق الاختيار لان ذلك يحرمه مــن حقوقه كمواطن، وكانسان»،  اما رئيس الجمهورية الراحل الياس الهراوي الذي قام في العام 1998، كمحاولة رسمية ثانية، فــي طـرح مشروع الزواج المدني على مجلس الوزراء وحصوله على 21 صوتاً من اصل 30 وزيراً، فقال في حينه: «كان ممنوعاً علينا نحن الموارنة ان نصافح الارثوذكس، لكن الاحوال تغيرت اليوم، وحتى تحت قبة روما في الفاتيكان اصبح هناك زواج مدني». فهل لا يزال منعه حقاً مكتسباً؟ وهل يجوز الكلام عن زواج مدني قبل تغيير الذهنية والثقافة الإجتماعية؟ وإذا كانت الدولة اللبنانية تعترف بالزواج المدني الذي يتم على غير أراضيها، فلماذا الرفض؟ وارضاءً لمن، وعلى حساب من ولمصلحة من؟

صعوبات
تترتب على عقد الزواج المدني آثار إيجابية من شخصية ومالية. أما الآثار السلبية فتتمثل في الهجر أو الإنفصال الجسماني. ويشرح محام في المحكمة الروحية «“في كلا الحالين فإن القانون المدني المعمول به في هذا البلد الأجنبي هو القانون الواجب تطبيقه على العقد. ويعود اختصاص النظر به للمحاكم المدنية في بلد إبرامه. أما في لبنان، فقد يواجه اللبنانيون المعقود زواجهم مدنياً في الخارج بعض الصعوبات في معرض تنفيذ عقود زواجهم داخل لبنان، بسبب عدم وجود قانون مدني للأحوال الشخصية كما في بعض الدول».
وإذا كانت ميزة النظام التشريعي اللبناني في مادة الزواج أنه لا يميز في الحلول على صعيد تنازع القوانين في المكان بين آثار إيجابية وسلبية في عقد الزواج، فالقواعد المطروحة في الحالين هي نفسها، إلا أن هذه الميزة يقابلها طابع التعدد في تلك الحلول والقواعد بالنسبة الى الحالة الواحدة. إلا أن هذا التعدد التشريعي والقضائي لا يعني وجود تلازم مطلق بين القانون الذي يحكم شروط الزواج والقانون الذي يحكم آثاره، أو بين المحكمة الناظرة في النزاع والقانون الذي يحكم ذلك النزاع.
قانوناً المسألة معقدة، والدخول في زواريبه يطرح الكثير من الفتاوى. لكن الحل واحد. تغيير الذهنية وقلب موازين قانون الأحوال الشخصية بحيث يكون هناك قانون شخصي على غرار كل دول العالم المتحضر. وحتى نصل إليه، على الراغبين في الزواج المدني تجهيز كل اوراقهم الثبوتية وأولها جواز السفر لقطع تذكرة نحو أول دولة تسمح بالزواج المدني. والمسافة لا تتطلب أكثر من ساعة ونصف الساعة
 

جومانا نصر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق