سياسة عربية

مصر – تركيا… القطيعة

بلغت العلاقات المصرية – التركية اخيراً اعلى درجات التصعيد والتوتر، فطردت القاهرة سفيرها من العاصمة، رداً على ما اعتبرته تدخلاً في الشأن الداخلي للبلاد المصرية، وردت انقرة بالمثل، واعلن رئيس وزرائها رجب طيب اردوغان ان حكومته لن تحترم ابداً من يصل الى السلطة اثر انقلاب، وعليه تنفتح صفحات الحدث على حاضر ومستقبل العلاقة بين هذين البلدين العريقين في المنطقة.

يبدو جلياً ان انقرة التي بدأت في الاسابيع القليلة الماضية عملية ممنهجة رفعت منسوب التوتر في علاقاتها مع دول الجيران والمنطقة عموماً، بدءاً من الجارة الاقرب العراق، ثم مع ايران واخيراً مع روسيا، في خطوات رأى فيها البعض توبة ضمنية على مسلك سياسي سلكه حزب العدالة والتنمية ذو العقيدة المنبثقة من تنظيم «الاخوان المسلمين» في اعقاب ما صار يعرف بـ «الربيع العربي»، تأبى الا المضي قدماً في توتير علاقتها مع القاهرة ومواجهة الحكم الحالي هناك مواجهة «الند للند».
كثير من المراقبين اعتبروا انه سلوك طبيعي من كل  من القاهرة او من انقرة على حد سواء، لا بل ان الخبير في القضايا التركية الدكتور محمد نور الدين يرى ان القطيعة بين البلدين تأخرت اربعة اشهر عن موعدها، اذ كان يتعين تنفيذ هذا الحدث منذ ان اطاح العسكر المصري مدعوماً بقطاع جماهيري واسع، نظام الرئيس محمد مرسي اي نظام «الاخوان المسلمين» بعد ما يقرب من العام الواحد على بلوغ هؤلاء رأس هرم السلطة في البلد الذي شهد نشأتهم في نهاية العقد الثاني من القرن الماضي على يد المؤسس حسن البنا.

 اسقاط الاخوان
فهذا الحدث الدراماتيكي الذي شهدته العاصمة المصرية في منتصف الصيف الماضي اي حادث اسقاط نظام «الاخوان المسلمين» اصاب النظام التركي في الصميم، اذ افقده حليفاً قوياً كان يمكن معه ان يعيد الى السلطة العثمانية التي تداعت بعد الحرب الكونية الاولى مباشرة، بعضاً من مجدها الآفل من جهة، ويحقق حلم «الاخوان المسلمين» التاريخي بالوصول الى رأس السلطة في دولة او اكثر اسلامية وعربية على نحو يعيد تجربة حكم اسلامي مبني على منظومة عقائدية وفكرية تنبثق عن فكر «الاخوان المسلمين» من جهة ثانية.
يوم وصل مرسي الى رأس السلطة في القاهرة، كبرت احلام انقرة ورجلها القوي اردوغان، خصوصاً ان نجم «الاخوان المسلمين» كان بدأ يصعد صعوداً سريعاً في تونس وليبيا ويأخذ حيزاً كبيراً في الانتفاضة في سوريا. ووجد الاتراك في قاهرة الاخوان جسر عبورهم الى العالم العربي، ووجدوا فيها ركناً اساسياً لدور اكبر وافعل.
ولا ريب في ان كثيراً من المراقبين ما زالوا حتى اليوم يذكرون الحفاوة التركية التي شعر بها الحكم الاخواني الصاعد في قاهرة العز، ويذكرون ولا ريب العديد من الزيارات والاتفاقات المتبادلة على المستويات السياسية والامنية والاقتصادية بين البلدين.
ولا ريب ايضاً في ان القاهرة المتحررة لتوها من حكم العسكر وارثي الاتجاهات والممارسات العلمانية في الحكم، سرها جداً ان تجد في انقرة حضناً وعضداً ومدى حيوياً يمكن الركون اليه لاحقاً، وتشكيل ثنائي اسلامي متقدم على المستويين العربي والاسلامي العام.

 الضالة المنشودة
«الاخوان» في مصر وجدوا في الحكم الاسلامي في تركيا، ضالتهم المنشودة، فثمة حزب اخواني المنشأ وصل الى رأس الحكم بواسطة تجربة ديموقراطية لا غبار عليها قبل اعوام بعدما اجبر عسكر هذه الدولة العريق والقوى ع
لى الانكفاء وحال بينه وبين اسقاط التجربة الاسلامية الوليدة قبل اقل من عقد من الزمن خلافاً لتجارب سابقة، كان فيها العسكر التركي المتجذر في دولة علمانية يشكل عصبها منذ اكثر من 6 قرون، يبادر الى اجهاض تجارب حكم اسلامية او يمكن ان يشتم منها خروجها عن الطابع العلماني المتشدد كما فعل مراراً.
واكثر من ذلك، وجد اخوان مصر المنتشون بفوزهم النادر والعزيز والصعب في تجربة اخوان تركيا، تجربة لا ترعب ولا تخيف الغرب عموماً الذي تقبلها كأمر واقع بعدما وجد فيها اسلاماً وسطياً متنوراً يتساكن مع قيم العلمانية في دولة خلعت عنها رداء الاسلام الحاكم على مدى اكثر من 5 قرون في امبراطورية عثمانية ممتدة تكاد الشمس لا تغيب عن بقعتها الجغرافية الوارفة.
في ذلك الحين، وبالتحديد قبل نحو ثلاثة اعوام، كان اردوغان في ذروة مجده السياسي يرى انظمة معادية تنهار، واخرى صديقة ومن اللون الايديولوجي عينه تنهض، ويرى عالماً عربياً يعمل بإرهاصات اسلامية. وبناء على هذا الاساس «لذ» اردوغان في دعم من يجده املاً واعداً وحليفاً موعوداً، كمثل نظام مرسي الصاعد في سماء القاهرة.
ولذّ في المقابل، في عداوة الانظمة التي كان يحرص على مد جسور العلاقة الوطيدة معها مثل نظام الرئيس بشار الاسد في سوريا ونظام نوري المالكي في العراق.
وعليه يقول الخبير في الشؤون التركية الدكتور نور الدين، ان اردوغان تصرف مع مصر، تصرف السلطان العثماني على ولايات امبراطوريته الممتدة قبل نحو قرن من الزمن.

ردة فعل عنيفة
وعليه، كانت ردة فعل انقرة وحزبها الحاكم عنيفة الى درجة الشراسة في الدفاع عن نظام مرسي لحظة الشروع في اسقاطه على يد شريحة واسعة من الشعب المصري نزلت الى الشارع ووجدت في العسكر المصري عضداً وساعداً بعدما بادر الى سجن مرسي واركان حكمه وتسلم هو مقاليد السلطة المؤقتة.
اذ سرعان ما بادر اردوغان الى وصف عزل مرسي بأنه «انقلاب غير مقبول» وشرع لاحقاً في التنديد بشكل دائم بممارسات نظام اللواء السيسي وبكل خطوة كان يخطو بها في اتجاه طي صفحة «الاخوان المسلمين» وازالة ما رسخوه في السلطة خلال تجربة حكمهم القصيرة العمر.
واللافت ان اردوغان استخدم لوحده من بين زعماء العالم تعبير «انقلاب» على عملية ازاحة مرسي. وقد فتح ذلك الكلام باب التوتر، في العلاقات بين انقرة والقاهرة.
وبعد فض اعتصامي تنظيم «الاخوان المسلمين» الشهير في ميداني رابعة العدوية والنهضة في قلب القاهرة في 14 آب (اغسطس) المنصرم، والذي ادى الى سقوط نحو 600 شخص، صدرت عن انقرة سلسلة تصريحات ومواقف استدعت من القاهرة اولاً استدعاء سفيرها في العاصمة التركية تحت عنوان «التشاور» فبادرت السلطات التركية الى الرد بالمثل، ولاحقاً عاد السفير التركي الى القاهرة لكن السفير المصري لم يعد الى مقر عمله في انقرة، مما اوحى ان نظام اللواء السيسي ظل على توجهه من نهج حكومة اردوغان ولم يشأ ان يعيد العلاقة الى مسارها الطبيعي بين البلدين خشية وتحسباً، رغم ان الرئيس التركي عبدالله غول حاول جاهداً مراراً ان يقلل من اهمية هذا التوتر من خلال اعتباره ان الوضع «مؤقت» معرباً عن امله في ان تستعيد العلاقات بين البلدين مسارها.
وامام مشهد التوتر في العلاقة بين البلدين، ثمة من بين الخبراء من يرى ان القاهرة تبدو هي المبادر الى التصعيد انطلاقاً من اعتبار اساسي فحواه، انها عازمة فعلاً على اطفاء جذوة الاعتراض المستمر لجماعة «الاخوان المسلمين» الذين ما زالوا يجددون حراكهم في الشارع بين فينة واخرى لمناهضة الحكم الحالي في مصر وللحيلولة دون اعطاء فرصة ليثبت قدميه في الحكم وعدم اعطاء انطباع فحواه ان تنظيم «الاخوان المسلمين» انكفأ وابطل اعتراضه على اسقاط تجربته في حكم مصر.

 سباق محموم
وهكذا، ثمة من يستنتج بأن القاهرة دخلت في الاسابيع القليلة الماضية في سباق محموم مع الوقت بغية وأد الحراك المضاد لجماعة «الاخوان المسلمين» وسعيهم الدؤوب الذي ما انخفض منسوبه ووتيرته بعد لاستعادة ما فقدوه في دست الحكم في القاهرة، او بغية تكريس امر واقع يعيد لهم اعتبارهم في مسرح الحياة السياسية في مصر على نحو لا يعودون معه الى الوضع الصعب بل والمزري الذي كانوا يعيشون تحت وطأته لعقود عدة خلت.
وهكذا فإن السلطة الحالية في القاهرة تريد «محاصرة» «الاخوان المسلمين» ومنع اي قنوات دعم او رفد مادية او معنوية تأتيهم من هذه الجهة او تلك، وفي مقدمها انقرة التي بقيت شبه وحيدة في ميدان دعم «الاخوان المسلمين» في مصر، وعدم الاعتراف بالنظام الحالي الذي قام على انقاض تجربة حكمهم الذي لم يدم الا اشهراً.
وعلى هذا الاساس فإن الحكم الحالي في القاهرة يعمل على ثلاث جبهات لمواجهة خصمه الذي بدا واضحاً انه عنيد ويرفض الاستسلام للامر الواقع الذي استجد بعد تموز (يوليو) الماضي:
الاولى: رفع منسوب المواجهات الامنية الرسمية لتحركات جماعات «الاخوان المسلمين» المتجددة في القاهرة وسواها في المدن المصرية والتي يحاول عبرها هؤلاء اثبات ان يدهم ما زالت الاعلى في الشارع المصري.
الثانية: تكثيف المواجهات العسكرية للمجموعات المتشددة المسلحة سواء في صحراء سيناء او في غيرها من الاماكن، وذلك في محاولة واضحة من القيادة العسكرية المصرية لمنع هذه المجموعات المتشددة والمتجذرة من استدراج الجيش المصري الى معركة استنزاف طويلة الامد تكون فيها هي الرابحة على المستوى البعيد.
الثالثة: ان الحكم الحالي في القاهرة يريد ان يظهر بمظهر القوي الممسك بزمام المبادرة وليس الضعيف الواقف موقف ردة الفعل لذا تأتي مبادرة القاهرة في تصعيد الموقف من انقرة، جزءاً من سباق حراك عام بدأته القاهرة منذ فترة، سواء في رد الوديعة المالية القطرية الموضوعة في مصر الى الدوحة كرد على تأييد العاصمة القطرية للحكم السابق في مصر ودفاعها المستميت عنه.
وامتد هذا الحراك الى بعث الروح في العلاقات بين القاهرة وموسكو والذي توج اخيراً بزيارة وفد روسي رفيع المستوى الى القاهرة، فضلاً عن اداء سياسي اخر اتسم دوماً بالمبادرة.
ومهما يكن من امر، فإن القاهرة هي الان في طور اثبات الذات لذا لم يكن غريباً تصعيدها للمواجهة الديبلوماسية مع انقرة.

ابرهيم بيرم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق