تركيا: «العثمانيون الجدد» يحتفون بـ «التفويض الشعبي» ويعلنون «حرب التصفيات»
هل يمكن وصف الفوز الذي حققه حزب العدالة والتنمية التركي في الانتخابات البلدية بانه «فوز ساحق»؟ يبدو ان القراءات تختلف في ما بينها على تلك النتيجة، الا انها تعمد اخيراً الى القراءة النسبية، والتسليم بان من حاز على الاكثرية «النسبية» هو الفائز. ذلك استناداً الى فرضية مفادها ان الآخرين ليسوا تكتلاً موحداً.
الارقام الخاصة بنتائج انتخابات المجالس البلدية التركية، والتي يجري التعامل معها من زاوية انها استفتاء على الثقة برجب طيب اردوغان، يمكن ان تقرأ من اكثر من زاوية.
وما تشير اليه نتيجة الانتخابات النهائية المعلنة هو ان حزب اردوغان اي حزب العدالة والتنمية حصل على نسبة حوالي 45 % من مجموع اصوات الناخبين، مما يعني ان من صوت ضد اردوغان «لصالح احزاب المعارضة مجتمعة» يشكلون اكثر من نصف عدد الناخبين، مع الاخذ بعين الاعتبار بان نسبة المشاركة في الانتخابات كانت عالية جداً وقياسية، حيث بلغت أكثر من 80 % من عدد الناخبين الاتراك الذين يحق لهم التصويت.
من هنا يمكن التوقف عند ما تراه المعارضة من ان فوز حزب اردوغان بهذه النسبة لا يعتبر فوزاً حاسماً ومبشراً لتحقيقه نصراً مؤكداً في انتخابات الرئاسة التركية المقبلة، كما انه لا يعني بالضرورة بأن المعارضة لو بقيت على حالتها المتشرذمة هذه، وبدون شخصية قيادية موحدة، سوف تستطيع هزيمة اردوغان وازاحته.
غير ان تلك القراءة يمكن ان تكون نظرية الى حد كبير اكثر من كونها حقيقية. ذلك ان تشرذم المعارضة وتعدد مشاربها ومرجعياتها تجعل من مسألة توحيدها امراً صعباً، بل ومستحيل. وبالتالي لا مجال الا للتعامل مع القراءات العادية التي تتحدث عن فوز حزب العدالة والتنمية بالاكثرية وبتحقيقه فوزاً متميزاً.
قراءات
من هنا، وبقدر ما تشير احدى القراءات السياسية حول تطورات الموقف في تركيا الى ان ازمة اردوغان مع خصومه انتهت، بقدر ما تشير قراءات اخرى الى ان جولتها الاخرى الجديدة بدأت، وانها اشد ضراوة من سابقاتها. وبقدر ما يعتقد البعص ان السياسة الخارجية لتركيا ستكون اكثر توازناً، بقدر ما تشير قراءات اخرى الى اعتقاد قيادات حزب العدالة والتنمية بان ما حدث كان اقراراً بسلامه النهج السياسي للحزب الحاكم داخلياً وخارجياً.
اردوغان الذي يتصرف من زاوية انه حصل على تفويض شعبي واسع يمكنه من تكريس سياسته، تجاوز هذا البعد، وركز على مسألة تصفية الحسابات، وجعل همه الاول، اطاحة خصومه السياسيين، وتصرف ضمن ذلك الفهم، حيث وجه جملة من رسائل التهديد المباشر لهم، وكال لهم المزيد من التهم اقلها وصفه لهم بـ «الخيانة»، و«التآمر» وغيره. ما اعاد مشهد «السلطان» الذي كان البعض يصفه به تندرا. والذي يراود مخيلته من زاوية الحلم باعادة انتاج الامبراطورية العثمانية، ولعب دور السلطان فيها.
في المقابل، ما زال الخصوم يواصلون محاولات احراجه واضعاف شعبيته، وذلك استمراراً لمخطط «حرقه» الذي بدأ منذ عام تقريباً، وبلغ ذروته منذ ثلاثة اشهر، وسط اتهامات له ولانصاره بالفساد. وحشد ملايين المعتصمين والمتظاهرين وتصوير ذلك بانه حراك شعبي يستهدف ابعاده عن الحكم.
اللافت هنا ان حمى المعركة زادت عشية الانتخابات الاخيرة، وتواصلت في مرحلة ما بعد اعلان النتائج، حيث تبادل الطرفان «الضربات»، واعلن اردوغان الحرب على حلفائه السابقين اعضاء جمعية فتح الله غولن، واتهمهم بالخيانة، وباقامة «دولة موازية» وبث تسريبات هاتفية على الانترنت لتشويه سمعة نظامه.
تسريبات
الحرب بين الحليفين السابقين بلغت اوجها بعد تسريب تسجيل لمضمون اجتماع كان مصنفاً على اساس انه «سري للغاية» تحدث فيه اربعة مسؤولين كبار منهم وزير الخارجية احمد داود اوغلو ورئيس جهاز الاستخبارات حقان فيدان عن مبرر لتدخل عسكري في سوريا دون اخفاء اهدافهم الانتخابية.
وردت الحكومة على هذه التسريبات بحملات تطهير واجراءات متسلطة وخصوصاً حجب موقعي التواصل الاجتماعي يوتيوب وتويتر، مما اثار موجة انتقادات حادة وخصوصاً في الخارج. وبالرغم من الدعوات الى الهدوء التي رددها رئيس الدولة عبدالله غول، من المتوقع ان تتواصل الازمة السياسية التي تهز تركيا حتى موعد الانتخابات الرئاسية، صيف هذا العام، ولا سيما بعد ان اعلن اردوغان رغبته في الترشح لها.
في تفاصيل المشهد التركي كم كبير من التناقضات. فالفوز الذي حققه حزب العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب اردوغان، تم التعبير عنه بطرق مختلفة، ابرزها خروج اللاعب «العثماني» الرئيس من عباءة السياسة، ودخوله الى حلقة التهديد والوعيد لخصومه. وبما يوحي بانه سيدخل معترك «التصفيات» مع الخصوم الذين حاولوا التضييق عليه خلال العام الاخير.
فالمشهد العام، وعلى الرغم من كل مضامينه السياسية، تحول للحظة الى ما يشبه «حرب التصفيات» والى حديث مكشوف عن مواجهات قد يكون طابعها سياسي، الا ان لغتها مختلفة بعض الشيء، وادواتها تتفق مع الطابع الاتاتوركي المناقض للمشروع الاردوغاني، ولما هو معلن من البرنامج الاسلامي الذي يقوم عليه فكر «العدالة والتنمية». غير ان محللين يرون ان القاعدة الشعبية الواسعة تتعاطى مع اردوغان من زاوية البرنامج الخدمي لحزبه، والذي استجاب لمتطلبات المواطنين، وليس لبرنامجه السياسي. وفي ذلك ما يمكن ان يكون حالة جدلية شكلت اساس التحليلات التي ما زالت تتعامل مع الحدث، وتحاول قراءة مضامينه وتفسيراته.
الانتقام
ومهما يكن الامر، فقد سجل المراقبون على اردوغان، انه انساق وراء رغبته بـ «الانتقام» تحت نشوة النصر الذي تحقق، والتفويض الذي حصل عليه من الشارع التركي، ووجه رسائل عديدة، اولى اوراقها الحلم العثماني الذي جاء لفظاً صريحاً في توصيفه للمعركة الانتخابية، وتأكيده على نتائجها بانها «صفعة عثمانية» لخصومه السياسيين.
اما في مجال تقويم العملية الانتخابية، فقد سلم الجميع بان النتيجة كانت تصب في صالح اردوغان وحزبه، وانها شكلت تفويضاً لحزبه بادارة الخدمات البلدية خلال الفترة المقبلة، وشهادة بان حزبه نجح في اختراق الشارع التركي – تراكمياً – واقناعه باستراتيجياته الخاصة بقطاع الخدمات البلدية. وهي الميزة التي يعتقد المحللون انه قد تميز بها واوصلته الى هذا المستوى من القبول لدى الشارع. عدا عن ميزات اخرى من بينها ما يتمتع به من وسامة وملامسته الوتر الديني الذي يجذب المتدينين في الشارع المزدحم.
اما في مجال السياسة الخارجية، فالقراءات تتعامل مع هذا النتيجة من زاوية انها اول انتخابات تجري في تركيا بعد الربيع العربي وما تخلله من جدل حول السياسة التركية تجاه هذه الدول. ومن المؤكد ان أردوغان يعتبر نتائج الانتخابات استفتاءً شعبياً على سياسته الخارجية سواء الازمة السورية والملف المصري، او ما يخص الموقف من الرئيس المعزول محمد مرسي، حيث استمر في رفع اشارة رابعة اثناء القاء «خطاب النصر»، او في مجال الملف السوري بشكل عام، ومداعبة الاحساس القومي للاتراك من خلال توعد الاسد في حال اختراق طائراته الحدود او الاعتداء على ضريح سليمان شاه التركي المتواجد داخل الاراضي السورية.
ويعول اردوغان على أن النتائج ستسهم بشكل أو بأخر في تخفيف حدة الانتقادات الدولية التي تلقتها حكومته، والاتهامات بالتضييق على الحريات من خلال اغلاق موقعي تويتر ويوتيوب والتدخل في القضاء والإعلام، باعتباره ينفذ سياسية لاقت دعماً من الشريحة الاكبر من المواطنين الاتراك.
محطتان مهمتان
وفي البعد الاكثر اهمية، ثمة قرار وشيك من حزب اردوغان باستكمال خوض المحطات الانتخابية جميعها، حيث تبقى محطتان مهمتان «برلمانية ورئاسية»، نهاية العام وبداية العام المقبل. وسط جدل حول ما اذا كان الحزب سيحقق المستوى عينه من الفوز، ام انه سيتراجع؟ فالقراءات الاولية تتقاطع عند نقطة اساسية، محورها ان استمرار اردوغان في التهديد لخصومه، والتلويح بـ «حرقهم» يمكن ان يأتي بنتائج سلبية على الحزب. ويمكن ان يفضي الى تراجع في الشعبية. مقابل سؤال حول مدى ذلك التراجع الذي يراه الخصوم مؤكداً، وينفقون اموالاً طائلة في سبيل تنفيذ مخططهم. ويراه اردوغان وانصاره غير وارد اصلاً.
الا انه، واياً كان الامر، هناك اجماع على ان مرحلة ما بعد الانتخابات البلدية ستشهد قدراً كبيراً من التحولات السياسية، وستفضي الى التأكيد ان «أردوغان اليوم وغداً، لن يكون اردوغان الأمس»، حيث عانى على مدى عام – تقريباً – من تظاهرات نظمتها المعارضة، واتهامات بالفساد طاولته شخصيا، وطاولت عائلته، وفريقه الحكومي، واسرهم، وكبار رجال الاعمال المقربين منه. ما ادى الى اهتزاز صورته في الداخل والخارج. فاردوغان يتصرف الان من زاوية ان تلك النتائج كانت بمثابة شهادة براءة له ولحزبه وفريقه، وتفويض لاطلاق مرحلة الهجوم على خصومه. من ابرز المؤشرات على تلك القراءة، اعلانه في ساعة مبكرة من اليوم التالي للانتخابات، واثناء دخول الفرز مراحله النهائية، فوز حزبه في الانتخابات، قائلاً: «نتائج الانتخابات أكدت أن السياسة اللاأخلاقية وسياسة التسجيلات المفبركة والتسريبات فشلت في تركيا وأثبتت أنها تخسر دائماً، و«كانت بمثابة ضربة قاصمة وصفعة عثمانية لن تنسى»، متوعداً من اسماهم «الخائنين» بدفع الثمن.
ومع ان البعض من المحللين يرون ان ما حدث كان بمثابة انشقاق داخل حزب اردوغان، الا انه ينظر اليه من بوابة «الخصومة»، وليس من زاوية الخلاف في الرأي داخل بيت الحكم. وبالتالي بينه وبين شخصية كانت من اكثر المقربين منه، والداعمين لبرنامجه على مدى سنوات طويلة. حيث خاض حرباً طوال الاشهر الماضية ضد جماعة «خدمة» وزعيمها فتح الله غولن، بتهمة تشكيل كيان مواز داخل الدولة التركية. وسط توقعات بانه سيستمر في هذه الحرب بشكل اقوى وسيعمل على اجتثاث الجماعة من دوائر الدولة وخصوصاً أجهزة الأمن والقضاء، وربما يلجأ الى انهاء النفوذ الاقتصادي والإعلامي الكبير للجماعة. وتهميش نفوذهم السياسي قبل الدخول في الجولات التالية من الانتخابات، حيث كانت الانتخابات المحلية بمثابة الجولة الاولى من ثلاثة استحقاقات انتخابية، وستتلوها الانتخابات الرئاسية في العاشر من آب (اغسطس) المقبل، في حين ستجري الانتخابات النيابية العامة بداية العام المقبل.
خياران
ويستند اردوغان في ذلك الى نسبة الفوز المريحة التي حصل عليها في الانتخابات البلدية، والتي يرى انها ستؤهله لخوض الانتخابات الرئاسية المقبلة التي ستجري لأول مرة بنظام الاقتراع المباشر، بعد اجراء تعديلات دستورية تزيد من صلاحيات الرئيس. غير انه من المبكر الجزم بذلك في ضوء تسريبات بان النظام الداخلي لحزب العدالة والتنمية الذي يرأسه اردوغان يمنعه من خوض الانتخابات النيابية المقبلة، وبالتالي عدم قدرته على الاستمرار في منصب رئيس الوزراء. وسيكون تبعاً لذلك امام اردوغان ان يختار واحداً من امرين:
الاول: تعديل النظام حزبياً بحيث يكون من حقه خوض الانتخابات واشغال منصب رئيس الوزراء لاكثر من دورتين متتاليتين.
الثاني: اعتماد النموذج الروسي الذي يقوم على مبدأ تبادل الادوار بينه وبين الرئيس غول في منصبي الرئاسة ورئاسة الوزراء.
ويبدو ان الخيار الثاني هو المرجح، لجهة لجوئه الى اجراء تعديلات دستورية تمنح رئيس الجمهورية صلاحيات واسعة، بحيث يكون هو الحاكم الفعلي وليس حاكماً شكلياً كما هو الحال الان.
فالتوقعات تشير الى ان اردوغان سيشغل هذه المرة منصب رئيس الجمهورية، ولكن بصلاحيات واسعة، تستند الى تعديلات دستورية وقانونية توسع من صلاحيات الرئيس ليصبح هو الحاكم الفعلي، وليس مجرد رئيس رمزي كما هو الحال الان.
غير ان معلومات اخرى تتردد، لم تتمكن «الاسبوع العربي» من توثيقها تشير الى ان الحزب سبق ان حسم تلك القضية الجدلية مبكراً، وانه عدل نظامه الاساسي ليتوافق مع تعديلات دستورية جعلت انتخاب الرئيس مباشراً من قبل المواطنين بدلاً من انتخابه داخل البرلمان، ومن خلال الاغلبية الحزبية. وتحتفظ باردوغان كشخصية تتولى الموقع الاول طالما كان حزبه يتمتع بشعبية تمكنه من الحكم.
اما المعارضة، وعلى الرغم من عدم تسليمها بالحقيقة، هناك شبه اجماع على انها تلقت ضربة قوية تمثلت بتلك النتيجة. حيث خاضت المعركة الانتخابية وفي اعتقادها انها باتت قادرة على الحاق هزيمة بحزب العدالة والتنمية. وتراوحت التوقعات داخل المعارضة بين اقصاء الحزب بعد 11 عاماً من ادارة شؤون الدولة، والحد من نفوذه، وتقليص هوامش فوزه الى ادنى حد ممكن، وبما يؤدي الى تصعيب الامور، ورفع كلفة الحكم عليه.
على صعيد النتائج النهائية للانتخابات اشارت الى فوز حزب العدالة والتنمية الحاكم، بنسبة 45،6% مقابل 38% في الانتخابات المحلية السابقة عام 2009. مع استمرار سيطرته على كبرى المدن التركية باستثناء مدينة ازمير الساحلية معقل المعارضة.
المدن الكبرى
وشهدت المدن الكبرى المعركة الانتخابية الاهم بين حزب العدالة والتنمية الحاكم، وحزب الشعب الجمهوري أكبر احزاب المعارضة، وحزبي الحركة القومية، وحزب السلام والديمقراطية الكردي.
ففي مدينة اسطنبول التي تعتبر الكتلة الانتخابية الاكبر لاحتوائها على خُمس سكان تركيا، حقق فيها «قادر توباش» مرشح العدالة والتنمية فوزاً ساحقاً للمرة الثالثة على التوالي، بنسبة 48% وهي نسبة تاريخية، في حين حصل «مصطفى ساري غول» مرشح حزب الشعب الجمهوري على 40% من اصوات الناخبين.
وفي العاصمة أنقرة، التي شهدت اصعب المعارك الانتخابية فاز مرشح العدالة والتنمية بفارق ضئيل جداً على مرشح المعارضة، حيث حصل على نسبة 44،7% مقابل حصول مرشح حزب الشعب الجمهوري على 43،8%.
ولم تحمل مدينة ازمير، ثالث اكبر مدن تركيا من حيث عدد السكان اية مفاجآت وأثبتت انها ما زالت الحصن المنيع للأتاتوركية الممثلة بحزب الشعب الجمهوري الذي اكتسح المدينة بنسبة 50%، في حين حصل مرشح العدالة والتنمية على 43%، بتقدم كبير عن نتيجة انتخابات 2009 الذي حصل فيها الحزب على 29% فقط.
وكانت أكبر التحولات قد شهدتها مدينة انطاليا الساحلية، حيث تمكن حزب العدالة والتنمية من انتزاعها من يد حزب الشعب الجمهوري بفارق بسيط، بحصوله على 44،7% من اصوات الناخبين، مقابل حصول مرشح المعارضة على 43،8%.
في حين واصل حزب السلام والديمقراطية الكردي سيطرته على مدينة ديار بكر ذات الاغلبية الكردية، في الوقت الذي واصل فيه حزب الحركة القومية سيطرته على مدينة «اسكي شهير»، وسط تركيا.
احمد الحسبان