آدب

أمين معلوف… من الوطن الصغير الى العالم الكبير

أبعاد جديدة، كشفتها الندوة التي نظّمها «النادي الثقافي العربي» حول مسيرة الكاتب اللبناني الفرنكوفوني أمين معلوف، الذي انطلق من الوطن الصغير نحو العالم الكبير، ومن الصحافة باللغة العربية الى الصحافة باللغة الفرنسية، وصولاً الى التأليف بالفرنسية، مقتحماً العالم بمؤلفاته الحاملة في بطونها لغة جديدة، ومناخات إنسانية، ومواقف إيجابية، بحثاً عن عالم أكثر تقارباً وأكثر تعايشاً. هذا الكاتب الطموح والعصامي، يذكّرني بالكاتب اللبناني الآخر، جرجي زيدان، صاحب الأمجاد الكبيرة، في ميدان الكلمة، وخصوصاً في مجال كتابة الرواية التاريخية… لقد اتخذ أمين معلوف التاريخ – كما فعل زيدان – وبنى عليه رواياته المختلفة، من أجل بناء عالم معافى، خال من كل ما يعرقل مسيرة تطوره نحو الأفضل. فهذه الندوة، التي حملت عنوان «أمين معلوف: هوية عربية بلغة أجنبية» تخطت مفهوم أمين معلوف للهوية، نحو موضوعات أخرى، خاصة وعامة معاً، كالإنتقال من مكان الى آخر، ومن لغة الى أخرى، ومن عالم الى آخر.
ترى، هل ان أمين معلوف يبحث عن المستحيل؟!

تمحورت مداخلة الدكتور طانيوس نجيم حول «أمين معلوف: أصالة لبنانية، أعماق عربية وآفاق عالمية» وتطرق الى سيرة أمين معلوف اللبناني المولد والنشأة والهوية، التي تجسّد هذه الهوية بكل أبعادها المشرقية تجذّراً وتأصّلاً، والعربية تطلّعاً ثقافياً وإنفتاحاً وجودياً، والكونية عمقاً إنسانياً ورسالة شمولية. كثر اللبنانيون الذين كتبوا بالفرنسية، قبله، إلا أن أمين معلوف هو أول كاتب لبناني استحق الإنضواء الى عديد الخالدين في صفوف الأكاديمية الفرنسية، ما أسبغ عليه شرف الريادة في هذا المضمار وأفسح لنا مجال البحث في اشكالية هويته والإنسجام في صلبها بين المكوّنة اللبنانية الأساسية والإنتماء العربي الطبيعي والخيار التعبيري الفرنسي.

من موقع الى آخر
أما في مسألة إنتمائه العائلي، فرأى طانيوس نجيم، أن معلوف ينتسب لعائلة عريقة بإسهاماتها الأدبية والثقافية، مستشهداً ببعض ما قاله الكاتب في هذا الصدد، منتقلاً الى حيثيات مساره الحياتي حيث استهل حياته المهنية عاملاً كوالده رشدي معلوف في الصحافة، تحديداً في جريدة «النهار»… من ثم، مغادرته لبنان التي اعتبرها حاسمة في حياته، فهي لم تكن عودة الى الصفر إلا بالمعنى المجازي، وصولاً الى بعض ما قاله معلوف عن بداياته بالعربية، ومن ثم، تسلمه منصب رئيس تحرير مجلة «جون أفريك» الفرنسية الذي كان من الطبيعي، في ذلك الوضع، أن يتحوّل الى الكتابة بالفرنسية بموجب مقتضيات العمل وإمكان التواصل مع جمهور أكثر اتساعاً.

صلة حميمة
 يرى طانيوس نجيم، ان مقاربة معلوف للغة على علاقة وثيقة بموقفه من الهوية… وبالرغم من أنه لم يخطر في باله في البداية، أنه سوف يتفرّغ يوماً للكتابة بالفرنسية، لكنه كان على صلة حميمة بها، على طريقته الخاصة… فإن موقفه من العربية والفرنسية والإنكليزية يندرج في مقوّمات موقفه، انفتاحه على العولمة، دونما تخلّ عن هويته الخصوصية، بل هو يتصوّر هذه الهوية منفتحة في بنيتها التكوينية على العمق الإنساني. فهو يجد للعولمة مرتكزاً في بنية الهوية اللبنانية عينها، بما يتلاءم مع واقع قناعاته وممارساته ورفضه للإقصاء على أنواعه.

شعائر معبّرة
وتطرق الدكتور نجيم، الى رمزية ملابس أمين معلوف في أثناء الدخول الى الأكاديمية الفرنسية واعتبرها ظاهرة بليغة في التعبير… لافتاً، الى أننا إذا ما تأملنا في السيف الذي سبكته له مؤسسة أرتوس برتران، وامتشاقه في مناسبة دخوله الى الأكاديمية الفرنسية، لوجدناه يحمل شعائر معبّرة عن قناعاته، بما ترمز إليه من انتماءات أصيلة ومكتسبة.
ومن هنا، يرى نجيم، ليس من شك في أن أمين معلوف أشرف شخصياً على دقائق هذه التفاصيل، وهي تعني الكثير بالنسبة إليه، لا سيما في ما يتعلّق بهويته الشخصية والعائلية المتجذرة في العمق اللبناني الفينيقي والمطعّمة بالإنتساب الى التميز الفرنسي الخالد، المتأصلة في شاعرية العربية وغناها والمطلة على شمولية الحضارة الإنسانية بإنفتاحها على الشرق والغرب معاً وإبداعاتها الفذّة والفريدة.

مسألة الهوية
الكاتب فخري صالح لفت في مستهل مداخلته، الى أن الروائي اللبناني – الفرنسي أمين معلوف يعكف على سبر مفهوم الهوية، وقراءة تحوّلاتها، وتبدّلاتها، والمسارات المتعرّجة التي تتخذها، وكذلك تعدد عناصرها، وعدم استغراقها بصورة كلية في وجه واحد ووحيد من وجوهها يسم بميسمه الفرد أو الجماعة البشرية. فهوية الإنسان كما تتبدى في عمل معلوف الروائي، متحوّلة ومتبدّلة ومتعددة، لا تنزع الى الثبات، بسبب العوامل والظروف والتجارب العديدة التي تفعل فعلها فيها، فتغيّرها وتجعلها تتخذ وجوهاً ما كنّا نعرفها فيها من قبل.
ولعل هذا الهجس الدائم بمسألة الهوية، والإيمان بقدرة الهويّات البشرية على الإنفتاح على بعضها البعض لتتهجّن وتغتني، أو تتقوقع على نفسها وصولاً الى الإحتراب والتصادم والدخول في حروب الهوية التي لا تنتهي – كما يرى فخري صالح – هما اللذان قادا أمين معلوف الى تأليف كتابه، العامر بالبصيرة والفهم والحكمة، والذي ينضح في الوقت نفسه، بالحس الإنساني العميق، «الهويّات القاتلة»، الصادر في سنة 1998. وهو يشرح فيه، بصورة جدالية، تتقابل فيها الحجة والحجة المضادة، كيف تتحوّل الإنتماءات الدينية أو القومية أو الاثنية او الايديولوجية، أو مجموعها معاً، الى هويات عنفية، إقصائية، استبعادية، قاتلة.

مثال شخصي
واعتبر فخري صالح، أنه ليست أصالة الهوية،نقاؤها وصفاؤها وعدم اختلاطها بأية هوية أخرى، هي ما يسعى أمين معلوف الى التأكيد عليه. ولهذا السبب طرح مثاله الشخصي الذي يعبّر عن هجنة الهوية وتبدّلها، واغتنائها، عبر مسيرة الحياة وتجربتها، والظروف الضاغطة التي جعلته يرتحل من بلد الى آخر، ومن ثقافة الى ثقافة أخرى، ومن لغته الأم الى لغته المتبنّاة المختارة للكتابة والإبداع… مشيراً، الى أنه يمكن القول، إن عمل أمين معلوف الإبداعي يقدّم نقضاً سردياً لهذا التصوّر المغلق للهوية، حيث نقع في رواياته على اختلاط الهويات وامتزاجها، وتفاعلها، وتناحرها، وتبدّلها، وانمحائها أحياناً، وخمودها في أحيان أخرى لتحلّ محلها هويات جديدة تبعاً لشروط الزمان والمكان والبيئة السياسية او الثقافية او الروحية.

رحلة «ليون الافريقي»
في رأي فخري صالح، هكذا تتصوّر روايات أمين معلوف العالم والبشر والتاريخ، بوصفها كيانات متحوّلة، متغيّرة، وفي حالة تبدّل دائم. فكما لا يعرف التاريخ الإستقرار لا تصل الهويات الى حال من الثبات والنمطية التي يحاول الكثير من دعاة التقوقع والإنفصال واستبعاد الآخر، ونفي تأثيره، إضفاءها عليها.
ومن ثم، تطرق الى رواية معلوف «ليون الافريقي» الصادرة في سنة 1986، الذي بدأها كاشفاً وموحياً، وتنويرياً، في ما يخصّ فهمه لمعنى الهوية… ومن خلال قراءته لبعض ما جاء فيها من عبارات تلخص مفهوم الهوية المتحوّل الرجراج، كما تختصر في أقل من صفحة رحلة «ليون الافريقي» وعبوره الدائم بين الثقافات والمعتقدات، والأسماء والصفات، إن لم نقل الهويات.
ونستدل من هذا التصدير، الذي جازف الباحث بالقول، إنه يكاد يلمّ أطراف عمل أمين معلوف،أنه لا شيء يمكن ان يمثّل جماع الهوية، أو يعرّف صفاتها وعناصرها، لأنها قابلة للتغيّر والإستبدال والإنتقال والعبور، وصولاً الى الإنتفاء والتبدد والعدم المحض.

هوية رجراجة
وخلص الباحث فخري صالح الى القول، ان لا مكان الولادة، أو المعتقد الديني، أو الإنتماء القومي، أو الجنس، أو اللون، أو العرق، أو الطبقة، أو اللغة، تصلح لتعريف الهوية أو لمّ شتاتها المبعثر. ان أمين معلوف، في سعيه لقراءة تحولات الهوية، يكاد ينفيها ويبددها، قاصداً من ذلك تبديد سحرها ومحو الهالة التي يريد المدافعون عن الهويات المغلقة إحاطتها بها. فـ «ليون الافريقي»، بأسمائه وهوياته المتعددة، هو «إبن السبيل»، وطنه «هو القافلة»، «وهو لله والتراب»، ولا شيء يدلّ عليه سوى هذا العبور الذي ينقله من طريق الى طريق، ومن لغة الى لغة، ومن ثقافة الى ثقافة، ومن دين الى دين، ومن الحرية الى العبودية، ومن حال الفقر الى حال الغنى، بالمعنى السابق يكون الإنسان ابن المنفى والعبور والتحوّل وعدم الإستقرار، هويته رجراجة تعبث بها رحلته في العالم والوجود.

لبنان أمين معلوف!
أما الكاتب الكسندر نجار فرأى، أن أمين معلوف لم يتنكر لهويته اللبنانية، بل أهدى «جائزة غونكور» الى لبنان، وفي خطاب دخوله الى الأكاديمية الفرنسية أشاد بوطنه، وفي مؤلفاته عالج مواضيع تهمّ لبنان، كالتعايش والهوية كما في «الهويات القاتلة»، والهجرة كما في «جذور»، والحرب كما في كتابه الأخير «التائهون»، وخصص رواية «صخرة طانيوس» مهداة الى «الرجل ذي الأجنحة المتكسرة» أي جبران خليل جبران.
واعتبر نجار، أن في «صخرة طانيوس» يتجلى بوضوح لبنان أمين معلوف: لبنان الأصالة، فيه القرية اللبنانية المتواضعة، يحنّ اليها الكاتب فيحدثنا عنها بإسهاب، عن عاداتها وتقاليدها وفولكلورها، وفيه لبنان المتخلّف وأفكاره البالية حيث «لميا» تعاني مشاكل جمّة في بيئة يهيمن عليها الذكور، وفيه الإقطاعية التي تتعارض مع مبدأي المساواة والعدالة، وفيه الأنانية والحقد يسيطران على أبناء الوطن الواحد فيولّدان الصراعات والحروب.
وخلص الكسندر نجار الى القول، ان أمين معلوف برع في تفعيل الحوار الثقافي عبر مؤلفاته، فأصبح سفيراً لواقعنا في عالم الفرنكوفونية، ومحللاً لما ينتجه مختبر لبنان «هذا البلد الصغير ذي الشأن العظيم» على حدّ تعبير مترنيخ.

اسكندر داغر
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق