آدب

منيف موسى: المدرسة الرمزية العربية حالة من حالات النفس

عندنا أدباء وشعراء روّاد وكبار، رحلوا، لا نأتي على ذكرهم الا نادراً وبخفر، أذكر منهم على سبيل المثال، الدكتور بِشر فارس (1907 – 1963) الذي يُعتبر من روّاد المدرسة الرمزية في الشعر العربي، وهو المولود في بلدة بكفيا في لبنان، وكان اسمه ادوار، هاجر الى مصر وتلقى علومه في القاهرة، وغيّر اسمه الى بِشر، وسافر الى باريس حيث نال شهادة الدكتوراه في الأدب العربي سنة 1932 على أطروحته «العرض عند عرب الجاهلية». اتذكره اليوم، بمناسبة صدور اعماله الكاملة، منذ مدة قصيرة، عن «الهيئة العامة لقصور الثقافة المصرية» في القاهرة، وهي تشمل اعماله الشعرية والنثرية (قصائد ومسرحيات وقصصاً قصيرة، ودراسات في اللغة العربية والحضارة وفلسفة الفن، ومقالات…) بالعربية والفرنسية معاً. من هنا، كان لا بدّ لي، من العودة الى الدكتور منيف موسى الحامل هموم الثقافة، المتمرّس في الشؤون الادبية والشعرية والفكرية وشجونها، والمرجع الثقة في تاريخ الحركات والمذاهب الادبية على اختلافها، الى جانب كونه الشاعر البارز والعميق الاغوار، والناقد الاصيل صاحب الآفاق الرحبة. فماذا يقول الدكتور منيف موسى حول الرمزية وتجربة بِشر فارس الرائدة؟

كيف تحدد مدرسة الرمزية، ومتى قامت ونشأت في لبنان؟
قامت الرمزية في لبنان، عقب الحرب العالمية الاولى (1914 – 1918)، وتمركزت في الشعر بوجه خاص، والرمزية مدرسة يغلب فيها الغموض على الوضوح وتغلب فيها الزخارف اللفظية على المعاني، وقد اخذت الناشئة من شعرائنا الشباب بهذه المدرسة التي جذبتها ببريقها وموسيقاها. وقلّدوا بذلك الرمزية الاوروبية والفرنسية بصورة خاصة، حتى ان الرمزية الفرنسية لم تكن فرنسية خالصة، بل قبسها روادها أمثال: بودلير، وملارميه، من الشاعر الاميركي، ادغار ألن بو (1809 – 1849) الذي ركّز في مفهومه للشعر الرمز على ان الشعر هو: «الخلق الايقاعي للجمال» وذلك في مقالته الشهيرة «المبدأ الشعري» التي يجمع فيها نظرته الى الشعر، وقد أثّرت هذه المقالة تأثيراً كبيراً في الرمزية والشعراء الرمزيّين. هذا بالاضافة الى قصيدته الرمزية ULALUME، التي كان لها أثرها ايضاً في الرمزية الاوروبية. ولا ننسى ما كان لموسيقى فاغنر من اهمية في الايحاء في الشعر الرمزي، أضف الى ذلك ان الرمزيّين الفرنسيين استصدروا ذلك الطابع المهم الذي اتسمت به صورهم وافكارهم من الأدب الشمالي حيث الضباب والصقيع، وجعل الشعراء الشماليون اتجاهين للشعر:
أولاً: بلوغ الفكر المجرد.
ثانياً: الانطواء على الوعي في الذات الانسانية.
وهذان الاتجاهان في الشعر هما ما يميز الشعر الرمزي عن غيره من الشعر. فلقد كان الشعر الشمالي بعيداً عن الواقع الواضح، يكتنفه ضباب كالذي يكتنف تلك البلاد.

الشرارة الرمزية الاولى
تذكر ان شعراءنا الشباب في الزمن البعيد، قلّدوا الرمزية الاوروبية وخصوصاً الفرنسية… فما هو الفرق بين الرمزية الفرنسية والرمزية اللبنانية؟
اذا كانت الرمزية الفرنسية قد صدرت عن عقيدة فلسفية في الادب والفكر والفن، فان الرمزية اللبنانية، لم تصدر عن مثل هذا، وانما كانت «دُرجَة» (Mode) او نمطاً شعرياً نقله شعراؤنا عن الغرب عبر الاحتكاك الثقافي الحضاري الذي استتبع الانتداب الفرنسي على بلادنا.
واذا كانت الرمزية الفرنسية قد جاءت ردة فعل ضد الرومنطيقية والبرناسية، فان الرومنطيقية والرمزية في لبنان، قد تواكبتا معاً في المرحلة نفسها بين الحربين العالميتين، ثم بلغتا ذروتهما في اواخر الثلاثينيات من القرن العشرين بصدور «المجدلية» (1937) لسعيد عقل، و«افاعي الفردوس» (1938) لالياس ابو شبكة، ومن لبنان تسرّبت الرمزية الى الادب العربي في بعض الاقطار العربية، ومنها مصر.
ويكاد يكون مقرراً ان اول شرارة رمزية التمعت في لبنان، كانت على يدي الشاعر الدكتور اديب مظهر (1898 – 1928) اذ سقطت بين يديه مجموعة من الشعر الفرنسي للشاعر البير سامان ( 1858 – 1900)، فقرأها قراءة اعجاب واستيعاب. ويروي الياس ابو شبكة انه كثيراً ما كان يسمع اديب مظهر يردد هذا البيت: «ان نسمات المساء نقية طاهرة كأن الملائكة تمرّ عليها».
وظهر اثر الرمزية الفرنسية ولا سيما شعر البير سامان عند اديب مظهر في قصيدته: «نشيد السكون» و«نشيد الخلود» وفي طائفة قليلة من شعره، اذ ان اديب مظهر سقط وهو في بداية الطريق.
وفعل شعر اديب مظهر فعله في نفوس الشعراء الناشئين، الى جانب التأثير الذي احدثه الادب الفرنسي الرمزي في اثناء مرحلة الانتداب. وما ان سقط اديب مظهر في اول الطريق حتى حمل راية الرمزية من بعده في حماسة الناقد الموجّه والشاعر المطبّق، سعيد عقل، فبلور الاتجاه الرمزي، وطبع مدرسة كاملة بارزة المعالم في الحياة اللبنانية الادبية بطابعه.

همّ الشعر الرمزي
كيف تحدّد مفهوم الشعر عند بِشر فارس، وهل هو اول من بَشّر بالرمزية في الادب العربي الحديث؟
اذا كان سعيد عقل قد تحدى العالم بكبرياء، وهو ينشد نشيد التقديس في محراب الجمال، واصرّ على ان الشعر «لسراة العقل، لطبقة مصطفاة باستطاعتها التذوق، اما النثر فللتلاميذ». فان لبنانياً آخر حمل همّ  الشعر الرمزي وراح يبشّر به في ارض الكنانة، ذلكم هو بِشر فارس، الذي آمن ان الشعر نظام ارتباط بين الرمزيين الاكثر غموضاً والواقع، رافضاً مقولة الشعر العمودي عند العرب، وتعريف الشعر القديم، الذي رأى فيه التعريف المتقادم الضيّق المحصور في الشكل وحده، وانما الشعر هو ابراز المضمر، واستنباط ما وراء الحسّ من المحسوس وتدوين اللوامع والبدائه.
هذا القول، ومثله لبِشر فارس هزّ الحياة الادبية الحديثة، وحرّك المياه الهادئة في بحيرة الشعر العربي الحديث في مصر، وكون ان الموجة الشعرية اللبنانية كان لها فضل ادخال الرمزية الى الأدب العربي الحديث، فقد حمل بِشر فارس تلك الموهبة ونزل بها أرض مصر، وبالاسلوب الرمزي كتب وشعر، فقال فيه حبيب الزحلاوي: «لم يرق كتّاب مصر ذلك الضرب من الشعر العجيب والقصص الاكثر عجباً وانكروا عليه دعوته الى مذهب الرمزية، فتنكر لهم، فرموه… فأصابوه فنفر هارباً الى لبنان… وليت الدكتور بِشر ظل قابعاً في جبال لبنان، ليته لم يحاول بعث الحياة الرمزية التي ماتت في موطنها بُعيد ولادتها وقد اصبحت رمّة تحلّلت عناصرها وادركها الفناء فالعدم… ليته سكت… عن كتّاب مصر».

نتاج رمزي كامل
هل اصرّ بِشر فارس على طريقته في الكتابة وفقاً للأسلوب الرمزي، وما هي نظرته الى الشاعر الرمزي؟
اصرّ الدكتور بِشر فارس على طريقته في الكتابة وفقاً للاسلوب الرمزي، وحدد ذلك في تقديمه لمسرحيته «مفرق الطريق»: «ان وجهة هذه المسرحية مما انساق  له قلمي ورفّت اليه نفسي بعد التحصيل والروية والاجتهاد، فرأيت ان اصنع للمسرحية مقدمة ابسّط فيها الاسلوب الذي اجريتها عليه، فضلاً عن قصائد نظمتها قد وقف على مقاصدها من يدأب على قراءة «المقتطف» خصوصاً، لكي تكون بياناً لبعض ما نشرته حتى اليوم ثم بعض ما أنا ناشر بعده ان شاء ربّك. هذه قصة تمثيلية على الطريقة الرمزية – اذا شئت – وليست الرمزية ههنا بموقوفة على الرمز بشيء الى شيء آخر».
وكل نتاج بِشر فارس رمزي، وكلّه قريب الى الشعر، وهو الذي قال في الشاعر الرمزي: «إن الشاعر الرمزي، هو الذي يعمل في الظلمة، ظلمات الخلجات، ويبيّن بقدر ما يخلص النور الى زواياه، ثم انه لقّاط أوهام تشغل الناس ولا يستوضحونها، فهو يرسم خيالات ملامحها لبصائرهم لا لأبصارهم».

حالة من حالات النفس
واذا كان بِشر فارس قد حدّد الرمزية له مذهباً وطريقة، فكيف يحدّد تالياً مفهومه للشعر؟
الشعر عند بِشر فارس «ابراز المضمر، واستنباط ما وراء الحسّ من المحسوس، وابراز المضمر وتدوين اللوامع والبدائه، باهمال العالم المتناسق المتواضع عليه، المختلق اختلاقاً يكدّ اذهاننا، طلباً للعالم الحقيقي الذي نضطرب فيه رضينا او لم نرض…».
يأخذ تعريف الشعر عند بِشر فارس، ناحية الوعي واللاوعي في كتابة الشعر، فنجد ان بِشراً يقرّبان الشعر هو اظهار الخفيّ الكامن في اعماق النفس. من طريق لمع، او شطحات نفسه، هو الوميض الوجداني «عالم الوجدان المشرق والنشاط الكامن والجماد المتأهب للتحرّك الى ما يجري بينها من العلاقات الغريبة والاضافات التائهة من منعطفات الروح ومثاني المادة، يشترك في كشفها الاحساس الدفين والادراك الصرف والتخيّل المنسرح…».
واذ يركز بِشر فارس على عالم الوجدان المشرق… فذاك انه يعترف بان الشعر في بادىء امره قائم على فسحة من الالهام، لا على العقل والمنطق، «لان المنطق – كما يقول – اصطلاح آلته العقل والعقل انما يجرّد الاشياء او يشذبها ثم يغفل بعضها او يجهل بعضها. فالتوضيح الذي ينتهي اليه اقرب الى الاختراع منه الى التحقيق. والعرفان الجدّ شعور بالحقيقة لا العلم بها…».
ان مفهوم بِشر فارس للشعر، مفهوم تجريدي، شبه ميتافيزيكي، قريب من نظرية «الفن للفن»، وقد اوضح ذلك على لسان احد شخوص مسرحيته «مفرق الطريق» حيث يقول: «تريدون الامور واضحة خوفاًعلى سلامة اذهانكم. اينبغي لكل امر يحصل ان ينساق الى ناحية معلومة في ملتويات أفهامكم تنتظره؟… لا شيء اكره الى الحياة من اطار يعدّ لمجراها. ان الروح والفكر مع ما يجيش فيهما من نزعات ووثبات ينكران السدّ والحدّ. انكم تفتكون بهما».
وهكذا يكون مفهوم الشعر في المدرسة الرمزية العربية المتمثلة بسعيد عقل وبِشر فارس حالة من حالات النفس، لا يعيها الا ذوو النفوس المرهفة المتيقظة القابلة لفضّ الالغاز القائمة على الغموض النابض الذي هو المدرجة الى السر الجارف الأرحب.

اسكندر داغر
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق