ميقاتي طالب بالاسراع في تحقيق العودة الآمنة للنازحين
لبنان متمسك بسيادته وثروته في مياهه الإقليمية وملتزم اتفاق الطائف وتحييده عن صراعات المنطقة ضرورة
ألقى رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي في الجمعية العامة للامم المتحدة كلمة جاء فيها:
يمر العالم اليوم بمرحلة بالغة الدقة من الصراعات المسلحة والازمات المترابطة التي تثير قلقنا جميعاً. وما من مكان افضل للتداول بشأن هذه التحديات من هذه القاعة التي تضم كل دول العالم يجمعها ميثاق منظمة الامم المتحدة التي يفخر بلدي لبنان بدوره في انشائها كما بعقود من التعاون المثمر معها.
وفي هذا الإطار يسرني، السيد الرئيس، ان اتوجه بالشكر لكم، وعبركم لمنظمة الأمم المتحدة، بجميع فروعها ومؤسساتها المتخصصة وتلك العاملة في لبنان، على الجهود التي تقوم بها من اجل مساعدته والمساهمة في تخفيف تبعات الأزمة الاقتصادية والمالية الخانقة التي يمرّ بها. وأخص بالشكر قوات الطوارىء الدولية (اليونيفيل) لما تبذله من تضحيات وجهود من أجل الحفاظ على الاستقرار في جنوب لبنان، بالتنسيق الوثيق مع الجيش اللبناني الذي نتطلع معكم وعبركم الى تعزيز قدراته العسكرية وتخفيف الاعباء المادية عليه. وفي هذا السياق نؤكد التزام لبنان التام بتنفيذ كامل مندرجات القرار 1701 وجميع قرارات الشرعية الدولية.
أما في ما يتعلق بترسيم حدودنا البحرية بوساطة أميركية مشكورة ومرحب بها، وبرعاية اممية، يهمني أن اؤكد مجدداً تمسك لبنان المطلق بسيادته وحقوقه وثروته في مياهه الإقليمية ومنطقته الاقتصادية الخالصة، مكررين أمامكم رغبتنا الصادقة في التوصّل إلى حلٍّ تفاوضي طال انتظاره. ويسرني اعلامكم بأننا أحرزنا تقدماً ملموساً نأمل أن نصل إلى خواتيمه المرجوة في وقت قريب.
إن لبنان مصمم على حماية مصالحه الوطنية وخيرات شعبه وعلى استثمار موارده الوطنية، ويعي اهمية سوق الطاقة الواعد في شرق المتوسط لما فيه ازدهار اقتصادات دول المنطقة وتلبية حاجات الدول المستوردة.
إن لبنان، ومن منطلق ايمانه بالدور الرائد الذي تضطلع به منظمات الأمم المتحدة، يؤكد التزامه بأجندة التنمية المستدامة 2030 واتفاق باريس للمناخ، كما وبالأطر الدولية الراعية لمسائل نزع السلاح بأشكاله المختلفة. ونرحّب ايضاً بالعمل الهادف إلى ايجاد تفاهم دولي لإخلاء منطقة الشرق الأوسط من أسلحة الدمار الشامل إنفاذاً لقرار الجمعية العامة رقم 73/546. ونحن، إذ نشيد بما تحقق لهذه الغاية في دورات المؤتمر السابقة، نتطلع لأن تتكلل بالنجاح الدورة الثالثة من المؤتمر المزمع انعقادها برئاسة لبنان في تشرين الثاني المقبل، وأن تسهم في دعم مسار انشاء المنطقة الخالية من اسلحة الدمار الشامل في الشرق الأوسط.
يمر الكثير من دول العالم اليوم بأزمات اقتصادية حادة، اسبابها متعددة، متشعبة وغير خافية على أحد، أثرت بشكل كبير على جوانب الحياة كافة، وحتّمت على حكومات دول عدة اللجوء الى اتخاذ تدابير استثنائية لمحاولة التخفيف من وطأة هذه الأزمة على شعوبها.
أما في بلدي لبنان، فنحن نواجه منذ سنوات عدة، أسوأ ازمةٍ اقتصادية اجتماعية في تاريخنا، نالت من سائر المؤسسات ووضعت غالبية اللبنانيين تحت خط الفقر، وتسببت بهجرة الكثير من الطاقات الشابة والواعدة، وخسارة الوطن خيرة ابنائه. فإضافة الى التدهور الاقتصادي الحاد وغير المسبوق، وانهيار سعر صرف العملة الوطنية الى ادنى مستوى تاريخي لها، والاغلاقات العامة التي فرضتها جائحة كورونا، ناهيك عن فاجعة انفجار مرفأ بيروت الذي نحرص على جلاء الحقيقة بشأنه، وتبعات الأزمة السورية واعباء النازحين، وجدت الحكومة اللبنانية نفسها امام أزمة سياسية غير مسبوقة، حتّمت علينا السير ببطء وحذر شديدين في حقل أَلغامٍ سياسيةٍ واقتصادية، لتدارك الوضع وتأسيس الارضية المناسبة للمساهمة في الوصول بالبلاد الى بر الأمان.
نجحت حكومتنا في تحقيق العديد من الاهداف التي وضعتها، ومن ابرزها اجراء الانتخابات البرلمانية في موعدها رغم الظروف الصعبة التي يعيشها البلد، لكن الطريق امام لبنان ما زالت شاقة وطويلة ومليئة بالمصاعب قبل الخروج من الازمة، حيث نعمل بكل ما اوتينا من قوة وعزم على تخطيها بنجاح. وفي هذا السياق قامت حكومتنا بتوقيع اتفاق مبدئي مع صندوق النقد الدولي، واننا نتعهد من هذا المنبر السير قدماً بكل الاصلاحات التشريعية والادارية الضرورية للخروج من محنتنا الحاضرة.
نحن نعول في هذا الاطار، كما دوماً، على مساعدة اصدقاء لبنان الدوليين، وفي طليعتهم الدول العربية الشقيقة، التي لا غنى للبنان، البلد العربي الهوية والانتماء والعضو المؤسس لجامعة الدول العربية، عنها. إن انتماء لبنان العربي وريادته في التزام القضايا العربية هما ترجمة لما جاء في دستوره وفي اتفاق الطائف الذي انهى الحرب الاهلية الدامية التي عصفت ببلادي. ولا بد من ان اؤكد، تكراراً، التزامنا هذا الاتفاق، وعدم تساهلنا مع اي محاولة للمس بمندرجاته، اضافة الى تجديد الالتزام بمبدأ النأي بالنفس الذي انتهجناه منذ حكومتنا الماضية سعياً لابعاد وطننا قدر المستطاع عما لا طاقة له عليه.
كما تعول الحكومة اللبنانية ايضاً على منظمة الامم المتحدة ودولها الاعضاء، التي كانت وما زالت تؤكد عبر مساعدتها المشكورة للبنان، أن وجود دولة لبنانية قادرة ومزدهرة، هي حاجة ماسة للامن والسلم في المنطقة والعالم. وفي سياق جهود معالجة الازمة الاقتصادية تعمل حكومتنا أيضاً على خطة تعاف مالي واقتصادي تتكامل مع تعاوننا مع صندوق النقد الدولي، وعلى رزمة اصلاحات هيكلية وقطاعية شاملة تلبي متطلبات الشعب اللبناني وتوفر له شبكة امان اجتماعي، وعلى وضع القوانين التي تؤمن الشفافية المطلقة وتكافح آفة الفساد التي ازدادت بفعل الانهيار الاقتصادي. كما نعمل في الوقت عينه على اعادة اطلاق الاقتصاد وتثمير الفرص العديدة الكامنة فيه، لا سيما الطاقات الشابة التي هي امانة في اعناقنا وشعلة امل في انجاح نموذج اقتصادي لبناني مفتوح على العالم والفرص الرائدة.
وفي هذا الاطار نناشد الدول الشقيقة والصديقة ان تكون الى جانب لبنان في محنته الراهنة تحديداً وأن تؤازره للخروج منها ومعالجة تداعياتها الخطيرة على الشعب اللبناني وبنية الدولة وهيكليتها. ونتطلع الى اعادة عقد مؤتمر اصدقاء لبنان الذي طالما احتضنته فرنسا بالتعاون مع اصدقاء لبنان واشقائه. إن وجود دولة لبنانية سيدة ومستقلة، قوية وقادرة، تحمي النظام الديمقراطي البرلماني والحريات العامة والخاصة، وتؤمن بالتسامح والتآخي والتلاقي، وتعتمد سياسة «النأي بالنفس» والابتعاد عن «سياسة المحاور»، هو حاجة ماسة للأمن والسلم والسلام والاستقرار والازدهار في المنطقة. كما إن وجود حكومة مركزية قوية تسهر على سيادة القانون وحسن تطبيقه، إضافة إلى توفير بيئة حاضنة ومحفّزة لمزاولة الأعمال والقطاعات المنتِجة والخدمات، على تنوّعها واختلافها، وفق معايير السوق والاقتصاد الحر، ومتطلبات العصر، و«ثورة المعلومات والاتصالات»، هو أيضاً حاجة ماسة للمنطقة بأسرها، وأفضل السُبُل لنا جميعاً لمواجهة تحديات الفقر والبطالة والتطرف والإرهاب، وتجنب الوقوع في المجهول.
يقوم لبنان منذ اكثر من عشر سنوات بدور طليعي في تحقيق الصالح العام العالمي من خلال استضافته لعدد هائل من النازحين السوريين يصعب احصاؤه بدقة. لقد حرصنا منذ مطلع الازمة السورية على اعتماد سياسة الحدود المفتوحة ايماناً منا بالاعتبارات الانسانية، أما اليوم فقد باتت ازمة النزوح اكبر من طاقة لبنان على التحمل. يهمنا كذلك تأكيد أن الدستور اللبناني وتوافق جميع اللبنانيين يمنعان اي دمج او توطين على أراضيه وأن الحل المستدام الواقعي الوحيد هو في تحقيق العودة الآمنة والكريمة الى سوريا في سياق خريطة طريق ينبغي ان يبدأ العمل عليها باسرع وقت وبتعاون الأطراف كافة، وتوفير مساعدات اضافية نوعية للدولة اللبنانية ومختلف اداراتها وبناها التحتية التي تنوء تحت عبء تدفق كبير للنازحين منذ اكثر من عشر سنوات.
تبقى القضية الفلسطينية القضية الام التي تعيق تحقيق السلم والاستقرار في منطقة الشرق الاوسط. ان الظلم الواقع بحق الشعب الفلسطيني آن أوان رفعه وتحقيق الدولة الفلسطينية السيدة والمستقلة وعاصمتها القدس الشريف وتنفيذ قرارات الشرعية الدولية كافة بهذا الشأن بما في ذلك قرار عودة اللاجئين الى ديارهم.
وفي سياق الكلام عن اللاجئين الفلسطينيين اسمحوا لي أيضاً بالتشديد على محورية الدور الذي تقوم به الاونروا في خدمة أهداف الأمم المتحدة ومقاصدها من خلال مساهمتها في رفع قسم من الغبن اللاحق باللاجئين الفلسطينيين والمساعدة في تحقيق قدر من التنمية والاستقرار الاقليميين.
وفي هذا السياق نعبر عن بالغ قلقنا من الحالة المالية الحرجة للوكالة وللعجز المتراكم في موازنتها، مما يعرّض تقديم خدماتها للخطر. كما نجدد ترحيب لبنان ودعمه لجميع الجهود الدولية المبذولة لسد العجز حيث يبقى التحدي الأكبر الخروج بحل مستدام للفجوة التمويلية.
ان لبنان صاحب ثقافة ضاربة في التاريخ وصاحب رسالة سلام وتسامح وحوار. وفي حين يمر بلدي بفترة عصيبة راهنة، فان الصعوبات لن تثني اللبنانيين عن المضي قدما في اعادة ترسيخ ازدهارهم وتزخيم الدور الريادي الذي طالما لعبه لبنان عالمياً. نريد لبنان ساحة تلاق وليس ساحة فرقة – نريده مساحة للحوار وليس التنافس – نريده امينا لمخزونه الروحي الذي يجمع قيم الاديان السماوية وقيم الحق والعدل في هذا العالم، ويقيني أنه بوحدة شعبه ومساعدة اشقائه واصدقائه نستطيع تحقيق ما نصبو اليه.
في الختام، اكرر شكري لمنظمة الامم المتحدة على تعاونها الدائم مع لبنان وشراكتها المستمرة ولكل الدول الاعضاء المحبة للبنان والداعمة له، واكرر مطالبتي للجميع بتحييد لبنان عن صراعات المنطقة والعالم كافة. كلما كبرت التحديات ازدادت رغبتنا بالعمل سويا لخير شعوبنا جميعا ومصلحتها. لقد أثبتت الأزمات الأخيرة المتلاحقة اهمية التعاون الدولي في معالجة الازمات التي باتت بمجملها عابرة للحدود.
من هنا أختم، من حيث بدأت الأمم المتحدة رسالتها، اي بالعمل الجماعي المتكامل والمتضامن لمصلحة الإنسان ورفاهيته ومن خلال العدل والأمن والسلام والتنمية المستدامة. مع أملنا ورجائنا لعالمٍ أفضل لا سيما في منطقة الشرق الأوسط.