فرنسا – اعتداءات 13 ت2 2015: المأساة حاضرة بعد ست سنوات في ذاكرة من عاشها
نعام شرطي، وسيليا طبيبة جراحة، وكلاهما شاهدان على اعتداءات 13 تشرين الثاني (نوفمبر) 2015 في باريس وضاحية سان دوني (شمال العاصمة الفرنسية). وقد تحدثا إلى فرانس24 عن انعكاسات هذه المأساة التي خلفت 130 قتيلاً و350 جريحاً على مسيرتيهما المهنية وتأثيرها في حياتيهما الشخصية.
تعرضت باريس في 13 تشرين الثاني (نوفمبر) 2015 لاعتداءات إرهابية دامية طاولت شرفات مقاه وقاعة «باتاكلان» الموسيقية في الدائرة الإدارية 11 (شرقي العاصمة الفرنسية) وملعب «ستاد دو فرانس» بضاحية سان دوني (في الشمال) حيث كانت تجري مباراة ودية بين فرنسا وألمانيا. وخلفت تلك الهجمات 130 قتيلاً و350 جريحاً.
وينظر القضاء الفرنسي ابتداء من 8 أيلول (سبتمبر) وعلى مدى تسعة أشهر في هذه المأساة الأكثر دموية في البلاد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية (1939 – 1945). وظلت تداعيات ما يعرف بـ «اعتداءات 13 نوفمبر 2015» تطارد مئات الجرحى وأسر الضحايا على حد سواء، لكن الكثيرين تسلحوا بالعزم والصبر والشجاعة لأجل تخطي الصعوبات والمضي قدما نحو مواصلة حياتهم سعياً لربط الصلة بين مسيرتهم السابقة وطموحاتهم المستقبلية. ورصد موقع فرانس24 شهادة رجل وامرأة قبلا الغوص في جحيم تلك الليلة المظلمة والكشف عن مشاعرهما والتحولات التي طرأت على حياتيهما.
نعام شرطي في باريس: «لقد أدركت بأن الحياة ثمينة لكنها هشة أيضاً. لن أعود للشرطة أبداً»
كان نعام مساء 13 تشرين الثاني (نوفمبر) 2015 في منزله، متكئاً على أريكة يتابع بحماسة أطوار المباراة الودية بين منتخب فرنسا ونظيره الألماني بطل العالم (2014) على ملعب «ستاد دو فرانس» بضاحية سان دوني، شمالي العاصمة. ومن وقت لآخر، كان هذا الضابط في إدارة الاستخبارات بمحافظة باريس يطلع على هاتفه الجوال لقراءة تعليقات الرواد، لا سيما على موقع «تويتر» المختص في الرسائل القصيرة. وعلى وقع التغريدات المتسلسلة، سرعان ما انتابه شعور بأن شيئا ما يحدث، وهو ما تأكد عندما تلقى مكالمة هاتفية من أحد زملائه بالشرطة. «أخبرني بأن انفجاراً قد وقع قرب الملعب من دون معرفة إذا ما كان الأمر يتعلق بعملية إرهابية أم لا».
وتابع نعام: «بما أني كنت أعمل في مجال مكافحة الإرهاب، طلب مني زملائي الانضمام إليهم لتقديم المساعدة، وهو ما فعلته فوراً». وخلال الدقائق القليلة التي كانت تفصل بين منزل نعام ومقر عمله، وقع انفجاران آخران أحدهما أمام متجر «ماكدونالدز».
وإلى جانب محافظ الشرطة، دخل نعام مقهى «إيفانتس» وصدم صدمة كبيرة عندما اكتشف وجه الجريمة المرعبة وجحمها. وقال: «لا أحد منا رأى صوراً بهذه البشاعة في حياته». فقد رأى بقايا من اللحم على إحدى الطاولات ليدرك أنها في الحقيقة بقايا لحم بشري، وهي للمهاجم الانتحاري. يا لها من صدمة!
ورغم فظاعة المشهد إلا أن الجميع تسلح بالشجاعة ليركز على عمله وعدم الاستسلام لمشاعر أخرى. وعثر نعام على جواز السفر الذي استخدمه الانتحاري والذي دل على أن الأخير يحمل الجنسية السورية، لكن التحقيق أثبت لاحقا أنه جواز سفر مزور. وظل الضابط مع محافظ الشرطة لضمان أمنه، وطلب رصد لوحات تسجيل كل السيارات بهذا الحي الباريسي المعروف بنشاطه الليلي نظرا للعدد الكبير من المطاعم والمقاهي الموجودة فيه.
واستمرت معاناة نعام مع تلقيه مكالمات هاتفية من أشخاص يريدون معلومات عن أقاربهم الموجودين بقاعة «باتاكلان» (لحضور حفل فني لفرقة موسيقى الروك «إيغلز أوف ديث ميتال» الأمريكية). وقال: «كنت مصدوماً ومتألماً لما حدث»، مشيرا الى أنه توقف عن الرد على كل هذه المكالمات حتى لا يجد نفسه مجبراً على إعلان «الأخبار الفظيعة» (أي سقوط قتلى).
وفي الأسابيع التالية، ظلت الصدمة والغضب يرافقان نعام في تساؤلاته عن أسباب الجريمة. وأسر لموقع فرانس24: «لقد فشلنا في منع وقوعها، لكني متأكد بأن مزيداً من الإمكانيات المادية والمالية كانت ستسمح لنا بمنعها. يبقى أن وسائل وأدوات الشرطة باتت غير صالحة (للوقاية من العمليات الإرهابية)». وازدادت محنة نعام عندما اكتشف بأنه كتب شخصياً التقرير الإداري الخاص بسامي عميمور، أحد إرهابي 13 تشرين الثاني (نوفمبر).
وقد كان الأخير تحت الرقابة القضائية «عوض أن يكون في السجن».
وبعد ست سنوات على الأحداث الدامية في باريس وضاحيتها الشمالية، بات نعام بعيدا عن الشرطة وقال إنه أدرك بأن «الحياة ثمينة، لكنها أيضاً هشة» وأن العمل في مجال الأمن «لا ينفع، بل يعرضني للخطر». وأضاف إن نظرة زملائه إليه قد تغيرت، مسراً بأن بعضهم قالوا له إنهم لم يعودوا يثقون به لأنه «مسلم»، مؤكداً أنه كان دائماً مواطناً مخلصاً لبلده وبالتالي فضل ترك منصبه نهائياً.
لكن بعد وقت من الراحة والتفكير، قرر نعام أن يتقرب من مجلس الأمن للوقاية من الجريمة من أجل عرض خبراته في مجال مكافحة الإرهاب وهو أيضا في طور إعداد كتاب عن «قضايا الأمن». وقال لفرانس24: «الآن، يمكنني العيش بسلام».
يليا طبيبة جراحة: «ستظل تلك الأحداث جزءاً من حياتي»
ذلك المساء، كانت سيليا تشاهد فيلماً على التلفزيون برفقة شريك حياتها، وهي حامل في الشهر الثالث. فجأة، تلقت رسائل قصيرة متتالية من عائلتها على هاتفها الجوال ما أثار انتباه جراحة الأوعية الدموية في مستشفى «بيشا» (بالدائرة 18 في باريس) والبالغة آنذاك 33 عاماً. وسريعاً ما أدركت جحم الكارثة التي حلت بالبلاد، فراحت تدعو زملاءها إلى الالتحاق بأماكن عملهم من أجل معالجة المصابين.
وطلبت سيليا حماية الشرطة نظراً لاستمرار العمليات الإرهابية داخل قاعة «باتاكلان» فيما منفذو هجمات شرفات المقاهي لاذوا بالفرار. وتحت الحماية الأمنية، انطلقت نحو مستشفى «سان لوي» (بالدائرة العاشرة في باريس) حيث تم نقل عدد كبير من ضحايا الاعتداءات، لتكتشف فور وصولها «مشاهد حرب لا يمكن تخيلها».
وقد اعتادت سيليا على معالجة الأشخاص المصدومين والجرحى الذين تعرضوا لإصابات بالرصاص، فهي تمضي وقتها في ترميم الأوعية الدموية المتضررة، لكن ما لفت انتباه الطبيبة الجراحة يومها هو الهدوء التام الذي عم قاعة الإنعاش وصمت المرضى أنفسهم. وقالت: «لا أحد كان يتكلم، الجميع تحت وقع الصدمة لشدة العنف الذي تعرضوا له.. فقد كانوا على شرفات المقاهي يستمتعون مع أصحابهم حتى وقعت الجريمة. أتذكر امرأة أصيبت بجروح بالغة وكأن أجزاء منها انفصلت عن جسمها، فباتت لا تبالي».
وظلت سيليا تعالج المصابين حتى بزوغ الفجر، ولم تطمئن حتى رأت أشعة الشمس تضيء سماء باريس. لكن المشاهد السوداء التي رأتها والأوقات العصيبة التي عاشتها في تلك الليلة لم تفارقها، فلاحقتها مراراً في شكل كوابيس عندما كانت تتعافى من الولادة.
ومن بين المصابين الذين عالجتهم ليلة 13 تشرين الثاني (نوفمبر) 2015، رياضي محترف وضعت حداً لمسيرته رصاصة اخترقت رئته. وقد ألف كتاباً عن المأساة سارعت سيليا لشرائه، ما سمح لها بالتعرف على حال هذا الشخص.
وقالت سيليا: «ستظل تلك الأحداث جزءاً من حياتي»، مضيفة: «أعلم أني مفيدة في مثل هذه الحالات وأنا فخورة بما قدمته»، في إشارة إلى تلك الليلة غير المنتهية. وهي اليوم تواصل مسيرتها في منطقة سافوا (شرقي فرنسا)، بعيداً عن باريس. وتقول إنها مكرسة حياتها في «خدمة الآخرين».