سياسة لبنانية

لبنان ضحية الرهانات القاتلة

مهما جاهد لبنان الرسمي في محاولة «النأي بالنفس» في حكومتيه المستقيلة والعتيدة، تبقى القوى اللبنانيّة متورطة حتى العظم في المسألة السورية، وان بنسب متفاوتة سياسية ولوجستية واعلامية وامنية – عسكرية. ويثبت تطور الاحداث ان اياً من فريقي الصراع ليس مستعداً لعزل لبنان عن تداعيات الازمة السورية، ان انتهت، ومتى انتهت. هذه الرهانات القاتلة يسلط عليها الضوء تقرير اعلامي – سياسي، يشير بلا لبس الى ان القوى اللبنانية «انخرطت بشكلٍ فعليّ في الحرب القائمة في سوريا، كلّ لمصلحة طرف، ممّا يعني أنّ نهايات الصراع السوري ستأتي بزلزال على لبنان، خصوصاً مع تعطّل نظامه السياسي ودولته».

يقول التقرير الذي نشرته «لوموند ديبلوماتيك»: «منذ الأيام الأولى للأزمة في سوريا، كانت كل الأسباب تدعو للقلق على مصير لبنان، إذ إن العلاقة بين البلدين لا تقتصر على تاريخ طويل من التشابك والاشتباك، ولا على تقاسم حدود يبلغ طولها ٣٦٥ كيلومتراً غير مرسّمة وقابلة للاختراق في الاتجاهين فحسب، بل تتعدّى ذلك إلى روابط عائلية وقبليّة واجتماعية، إضافة إلى مصالح اقتصادية وتجاريّة على الصعيدين المحلي والوطني، كما أنّ للنظام السوري تاريخاً من التصرّف بنزق عندما يشعر بأنّه محاصر، إضافة إلى تراث من التدخّل العنيف في كثير من الأحيان في الشؤون اللبنانية».
يضيف: «كثيرون شعروا بالقلق منذ البداية من أن دمشق ستسعى لزعزعة الاستقرار في جارتها، على الأقل لإضعاف خصومها عبر الحدود وتحذير العالم من التبعات المحتملة لاقتتال طويل. في المقابل، ثمّة فئات لبنانيّة مهمة تشعر بالاستياء العميق إزاء ممارسات النظام السوري ضدّها خلال العقود الفائتة. وللتوترات المذهبية داخل سوريا ما يوازيها في لبنان. هكذا، فإن تفاقمها في سوريا سيقود حتماً إلى تصاعدها في لبنان. وما يزيد الوضع خطورةً هشاشة لبنان الذي يعيش منذ أكثر من سبعة اعوام انقساماً سياساً ومذهبيّاً حاداً شكلت سوريا جزءاً أساسياً منه».

حزب الله وسوريا
ويلفت التقرير الى أن «القوى اللبنانية تعي الرهانات جيداً. إذ يراهن كلّ منها على انتصار أحد الطرفين في سوريا وينتظر ترجمة التوازن الإقليمي الذي قد ينشأ إلى توازن لبناني، كلٌّ لمصلحته. يصعب على حزب الله تصور مستقبل مع نظام سوري مختلف، خصوصاً إن كان معادياً له وللمحور الذي يمثله، أي المحور الإيراني. وفي الاعوام الأخيرة، شهدت العلاقة بين سوريا وحزب الله تغيّرات كبرى حولتها من علاقة «راعٍ ووكيل» تحت حكم حافظ الأسد إلى تحالفٍ استراتيجي عضوي في ظل حكم بشار الأسد. وكانت لذلك عوامل متعدّدة أهمها، تحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيلي في العام 2000، وتغيّر طبيعة الصراع بين الحزب اللبناني وإسرائيل منذ حرب ٢٠٠٦ و«توازن الرعب» الجديد الذي أرسته. منذ ذلك الحين، أصبحت حاجة حزب الله إلى قدرات عسكريّة وتكنولوجية متطوّرة تزداد أكثر فأكثر مع احتمال تجدّد الحرب، وبات الدعم السوري اللوجستي والسياسيّ حيوياً أكثر من أيّ وقتٍ مضى. كما أن الحليفين ارتبطا بشكلٍ وثيق في صراع ضد خصوم مشتركين من ١٤ آذار ، دفاعاً عما يسمّى بـ «محور المقاومة». وعليه، ربط حزب الله مصيره بمصير حليفه بطريقة غير مسبوقة، متحولاً طرفاً في الصراع السوري. ثمّة الكثير من التخمينات حول نطاق الدعم الذي يؤمّنه الحزب إلى النظام السوري، لكن من دون توافر أدلّة ملموسة. فمنذ الأشهر الأولى للأزمة، ادّعت القوى اللبنانية والسوريّة المناهضة للحليفين بأنّ قناصة الحزب يساعدون قوات النظام ويقتلون المتظاهرين. كما يزعم مسؤولون أميركيون أنّ سوريا وحزب الله وإيران تتعاون عسكرياً بشكلٍ وثيق، مشكلة ميليشيات نخبة. لقد زاد من هذه الشكوك تشييع حزب الله مقاتلين قضوا في ظروفٍ غامضة أثناء قيامهم بـ «واجبٍ جهادي»، وعلى رغم تصريح الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله بأنّ هؤلاء سكّان قرى حدودية ماتوا يدافعون «عن أنفسهم، عن أرواحهم، عن أطفالهم، عن أعراضهم وعن أملاكهم… في مواجهة مجموعات مسلّحة بعضها سوري وبعضها من كلّ حدب وصوب»، يبدو أنّ الحزب الشيعيّ صعّد انخراطه على الأرض، وإن يبقى من غير المؤكّد مدى فاعلية ذلك في إنقاذ النظام. لكن في الحدّ الأدنى، إن الرسالة التي يرغب الحزب في إرسالها إلى العالم الخارجي هي أنّه سيفعل كل ما هو مطلوب».

المستقبل والنظام
يتابع التقرير: في الجهة المقابلة، على النقيض من حسابات حزب الله، لا يستطيع تيار المستقبل وحلفاؤه أن يروا بديلاً غير نهاية النظام السوريّ، مهما استغرق ذلك من وقت ومهما بلغت الكلفة. إنّهم يعتبرون الانتفاضة السورية الاستراتيجيّة بشكل مزدوج هدية من عند الله. فهي تمثّل فرصة ذهبية للانتقام من نظامٍ معادٍ، ليس متهماً باغتيال رفيق الحريري فحسب، بل أيضاً بتصفية مجموعة من مسؤولي تحالف ١٤ آذار (وممثليه)، كان آخرهم وسام الحسن. وأبعد من ذلك، تعتبر هذه القوى أن سقوط نظام بشار الأسد هو خطوة أولى باتجاه إضعاف حزب الله وتحدّي هيمنته الداخليّة وإعادة ترتيب موازين القوى في الداخل اللبناني. واذ يتهم خصوم تيار المستقبل اللبنانيّون والسوريّون بانخراطه في تسليح مجموعات المعارضة السورية، لكن، كما بالنسبة إلى حزب الله، لا توجد أدلّة ملموسة على الدور الذي يؤدّيه التيار في هذا المجال. إلاّ أنّه من المؤكد أنّ مناطق لبنانية ذات أغلبية سنيّة، وهي غالباً ما تعتبر مناصرة لتيار المستقبل، انخرطت تدريجياً في الصراع. وكان لتدفق اللاجئين السوريين إلى لبنان، إضافة إلى التبعات الإنسانية، تأثيرات سياسية وأمنية أيضاً، إذ أضحى اللبنانيّون السنة
في مناطق عكار وطرابلس وبعض قرى البقاع شواهد على قمع النظام لـ «إخوانهم»، هذا القمع الذي كانوا قد اختبروه في اعوام الحرب الأهلية (١٩٧٥-١٩٩٠) وفي فترة الوصاية السورية على لبنان بين 1990 و2005. وتالياً صعّد هؤلاء، ودفعهم تضامنهم مع «إخوانهم» المحاصرين إلى تحويل مناطق عدّة ملاذات آمنة للمقاتلين ونقاط عبور للأسلحة. بدأ تهريب الأسلحة إلى سوريا بشكلٍ تجاري مرتجل، إلاّ أنّه توسع بدرجة كبيرة. وقد دفع سكان القرى الحدودية ثمن هذا الانخراط، إذ أصبحوا عرضة لهجمات الجيش السوري».
ويرى التقرير انه «في الوقت الراهن، على رغم هذه التطورات الخطرة، فإن احتمالات تجدّد الحرب الأهلية في لبنان تبقى بعيدة نسبياً. إذ رغم التباين في المصالح والحسابات، لم تعمد القوى اللبنانية إلى تفجير الوضع كلياً، بل بقيت تمارس نوعاً من ضبط النفس. ولا يزال حزب الله يتمتع بالتفوّق العسكري، وهو ما يجبر أعداءه على التفكير بعناية قبل أن ينزلقوا إلى مواجهة عسكريّة معه. كما أن أيّ صراع مسلح لن يكون في مصلحة الحزب الشيعيّ أيضاً، لأنّه سيجلب مزيداً من الإدانات والعزلة داخلياً وإقليميّاً. ولذلك بدا حزب الله مصمّماً، حتّى الآن، على المحافظة على الوضع الراهن. الأكثر أهميّة هو أن أيّاً من الفرقاء السياسيين الرئيسيين في لبنان لا يريد اختبار أيّ سيناريو كارثيّ، وجميعهم يخشون من تبعات انفجار يخرج عن سيطرة الجميع».
ويلفت الى انه «من الصعب توقّع استمرار التوازن الهشّ في لبنان في ضوء عقليّة تقوم على الغلبة لدى الفريقين. كما أنّ الخوف من تبعات التصعيد ليس سوى حبل واهن لا يصلح لتعليق الآمال عليه، إذ إن كلّ الديناميكيّات اللبنانية تشير في الاتجاه الخطأ. حتّى قبل مقتل وسام الحسن (…)، كان السنة يشعرون تدريجياً بأنّهم اكتسبوا قدراً أكبر من الجرأة والرغبة في الانتقام. بدورهم، يشعر الشيعة بأنّهم أكثر انكشافاً وخشيةً من تنامي عزلتهم الإقليمية. هكذا تصاعدت المواجهات المذهبية، مع ما يصاحب ذلك من مخاطر تصاعد العنف الطائفي وانتشاره».
ويشير التقرير الى انه «من الخطأ الاستنتاج بأنّ لبنان نجح في تجنّب هذه المخاطر، ذلك أن الوضع يبقى هشاً وغير مستقرّ. ومن دون وجود حكم مركزي قويّ قادر على إدارة الأحداث، فإنّ صراعاً عنيفاً قابلاً للتوسّع قد ينشأ على الأقلّ في بعض المناطق. وقد أظهر الائتلافان الرئيسيان محدوديّة قدراتهما على السيطرة على جمهورهما الأكثر عنفاً وغضباً واضطراباً. كما أّن لبنان ليس في منأى عن تدخّلات خارجية، إن من النظام السوري الذي بإمكانه أن يلجأ، من خلال بعض حلفائه، إلى تصدير العنف إلى لبنان، أو من أعداء النظام».

التأقلم
ويحضّ التقرير لبنان على «التأقلم مع حصيلة صراع ستكون له تداعيات هائلة عليه وسيؤثر بعمق في كل القضايا المحورية التي طالما شغلت البلاد، من العلاقات مع إسرائيل. إلى وضع الأقليّات، خصوصاً المسيحية والعلوية، إلى الانقسام بين السنّة والشيعة، إلى التنافس الخليجي – الإيراني، إلى صعود وتنامي قوّة الإسلاميين، اضافة إلى التداعيات الماديّة للانتفاضة السورية، التي تسببت بضغوط كبيرة على الاقتصاد اللبناني الضعيف أصلاً. وتاريخياً، أبدى اللاعبون السياسيون اللبنانيّون لا مبالاة إزاء الأسباب العميقة لاستمرار انعدام الاستقرار في البلاد، والتي تتمثّل بطبيعة بنية النظام (التوزيع الطائفي للسلطات، والامتيازات التي تؤدّي في معظم الأحيان إلى الشلل، وفي الأسوأ إلى الاقتتال)، وتناقضات تحالفاتهم الخارجية (إذ اتجه البعض نحو «محور المقاومة» وتحالف آخرون مع الغرب)، وطبيعة النظام الاقتصادي (الموجّه نظرياً نحو صناعة خدمات عالميّة وحديثة، وعملياً يتركّز على أشكالٍ قديمة من الرعاية والمحسوبيّة والفساد والواسطة). مثل هذه المقاربة، باهظة الثمن دائماً، ستكون أكثر كلفةً في أعقاب الزلزال الاستراتيجي الذي ستحدثه حصيلة الصراع في سوريا، أيّاً كانت النتيجة. وستُخرج هذه الحصيلة إلى السطح عدداً من القضايا التي لطالما أهملت في وقتٍ لن يكون فيه اللاعبون اللبنانيون المحليّون في موقعٍ يمكّنهم من اجتراح حلول وسط أو فعل أيّ شيء باستثناء تمترس كلّ طرف في موقعه».
ويخلص الى ان «نطاق تأثير تطوّرات الصراع في سوريا على لبنان يبقى غير مؤكّد، إلاّ أن الجواب المختصر هو أنّ هذا التأثير سيكون كبيراً. إن التراخي في وجه عاصفة آتية أمرٌ مفهوم لكنّه قصير النظر، إذ إن تداعيات الصراع في سوريا، حالما أتيح الوقت لاستيعاب التحوّلات الجارية، ستكون دراماتيكية وعنيفة ومزعزعة للاستقرار على الأرجح. وربّما يكون من السذاجة دعوة الفرقاء المحليين والإقليميين الى عدم استعمال الأراضي اللبنانية كحلبة للانخراط في الصراع السوري، ومحاولة تجنيب البلاد مفاعيل هذه الأزمة، إلاّ أن تاريخ لبنان القريب (والبعيد) يجب أن يذكّر الجميع بعواقب تحويله إلى ساحة لحروب مباشرة أو بالوكالة».

طلال عساف

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق