الأسبوع الثقافي

محمود درويش دوّن ووقّع… بحضور «الرهيبة»!

تروي ايفانا مرشليان: «25 كانون الأول (ديسمبر) 1991، الساعة الثالثة، تركت مترو كليبير وبي شوقٌ الى السير على القدَمَين حتى الساحة الكبيرة للولايات المتحدة. المطر كان خفيفاً، وزينة الميلاد التي تملأ الجادة الواسعة والشوارع خلفها أنبأتني بيوم استثنائي سعيد. أعرف الآن، وفي هذه اللحظة بالذات، أنه كان أروع ميلاد في حياتي أقضيه وحدي في باريس، لكنني في الواقع كنتُ أستعد أيضاً، ومن حيث لا أدري، لاستلام أثمن الهدايا: من أجمل رجل… في أجمل ساحة… في أجمل مدينة»… وبدأت الحكاية وصارت حواراً في كتاب وقعه محمود درويش بحضور «الرهيبة»، حكاية تتفلت من بين سطورها حكاية اخرى، اريد لها ان تبقى سراً!

هو محمود درويش، هي إيفانا «الرهيبة» كما كان يدعوها ربما نسبة إلى إيفان الرهيب، المدينة باريس، والساحة تروكاديرو.
في 10 كانون الاول (ديسمبر) 1991، لقاء صحافي جمع  الشاعر الفلسطيني الكبير بالصحافية الشابة في بيته الباريسي وكانت آنذاك تعمل في القسم الثقافي في مجلة عربية في باريس، وكان حلمها الكبير الذي لاجله دخلت كلية ال
إعلام ان تحاور يوماً محمود درويش.
«20 سؤالاً وأكثر رتّبتها وأنا على قلق» تقول ايفانا في مقدمة كتابها، لتطرحها على الشاعر الخمسيني المعتكف منذ مدة طويلة عن اعطاء اي حديث صحافي وكانت المفاجأة أن الشاعر أحب الأسئلة وتلمّس بداية صداقة شعرية عميقة ستربطه بهذه الشابة التي حفظت كتبه غيباً من شدة حبها لقصائده، فقرر أن يدون اجوبته بخطّ يده وعلى دفعات قائلاً لها: «سيكون هذا المخطوط بعهدتكِ»…

تعهد
اللقاء الاول بين الشاعر والصحافية اثمر لقاءات، والحوار الصحافي المنتظر كان الشاعر يؤجله من لقاء الى آخر، وفي كلّ مرّة يعد مرشليان بأنه سيجيب عن أسئلتها في المرة المقبلة. ولما طفح كيلها، طلبت منه تعهداً موقعاً بخط يده ينص على تسليمها الأجوبة في الوقت المحدد، فكتب لها درويش: «أنا الموقع أدناه، محمود درويش، أتعهد باسم الضمير والأخلاق والمقدسات، بأن أسلّم الحوار الصحافي مع الآنسة إيفانا الرهيبة، كاملاً، في الساعة الرابعة من بعد ظهر السبت الموافق 28 كانون الاول (ديسمبر) عام 1991، وإلاّ، فمن حقّ إيفانا أن تشهّر فيّ، علانية، وعلى رؤوس كلّ الأشهاد والأشجار».
ايام انتظار ايفانا لم تكن مشابهة لامسيات باريس الماطرة الحزينة، «كل شيء حولي كان ينذر بسعادة نادرة… لماذا انا سعيدة الى هذا الحد؟… لقد اتاني الفرح فجأة فلمَ اخذله؟» تسأل وتجيب ايفانا في مقدمة كتابها كاشفة عن فصول علاقة صداقة – لا يسع قارئها الا ان يذهب ابعد متلمساً بين السطور ما بدا ابعد من تلك الصداقة – ستستمرّ حتى أيام الشاعر الأخيرة.

انتظار في مسايا باريس الغامضة
ايام الانتظار تلك تستعرضها ايفانا في مقدمة كتابها، فما بين الجلسات في منزل الشاعر الباريسي ورائحة القهوة والشاي بالياسمين والعشاء في مطعم صيني والمشي معاً تحت «المطرالحزين» في شوارع باريس وساحة تروكاديرو المضاءة  بزينة عيد الميلاد، امسيات وأحاديث جمعت الشاعر والصحافية، حول الطفولة وأمه وفلسطين والشعر والرسم والحب والمرأة  والزواج وايضاً حول  القهوة والمطر وحبه لباريس ولبيروت. «كانت مسألة حظ ان ألقاك في ذات خريف باريسي وان تفتح لي طوعاً باب الحوار على مصراعيه دون اي مقدمات: زيارات واحاديث  ونزهات كنت خلالها تتأبط ذراعي لتسمعني كلاماً تتمنى كل امرأة ان تسمعه» تقول ايفانا لشاعرها الكبير لكأنها تناجيه، وتعترف له ولقرائها: «كنت سعيدة في تلك النزهات، في مسايا باريس الغامضة، ولم اخف عنك سعادتي».
وفي 28 كانون الاول (ديسمبر) سلّم درويش 12 جواباً على أسئلة ايفانا – 25 صفحة بخط يده – بعد ان ألغى منها ثمانية اعتبر انه سبق ان تحدث عنها، واوصاها بعدم نشرها «خبئيها معك وحافظي عليها جيداً». وفي أواخر شتاء 2007 اوصاها مجدداً: «لقد تركتُ لديكِ أوراقاً أحببتُها فعلاً وأنا أكتبها… تعرفين أنني خصّصتُ لها أكثر من أمسية لإنجازها، فهل تقدّرين جهودي وتحتفظين بها لقرّائي، في مكان آمن؟».

الوصية
صحيح أن «الرهيبة» لم تعِده بأي نشرٍ لاحق، لكنّه كان متأكداً بأنها ستفعل، خصوصاً بعد أن كرر لها ذلك، صراحة، وللمرة الثانية، حين خابرها، من الأردن، في ربيع 2008، متمنياً عليها: «أعلني عن الأوراق، بعد 5 سنين على الأقل، وأنشريها لتكن هديتي ومفاجأتي، على يدكِ… أنا الموقّع أدناه محمود درويش»، وكان له ذلك.
بعد خمسة أعوام على رحيل شاعر «جواز السفر»، وفت إيفانا مرشليان بوعدها  وأعدت كتاباً صدر أخيراً عن «دار الساقي» في بيروت وضمنته الى جانب مقدمتها الطويلة، الحوار مطبوعاً، وبخط يد الشاعر الكبير، كما عرضت صوراً فوتوغرافية غير منشورة للشاعر في منزله الباريسي.
في الحوار مع محمود درويش سنجده يتحدث ويكتب عن الارض، عن محمود «الصغير»، عن الريح… عن أمه…  عن النساء… وريتا… وايضاً عن الشعر وعن بيروت «هذه المدينة التي توقع زائرها في حالة الإدمان العاطفي عليها»… وبحضور «الرهيبة» كتب درويش عن الخيبات خاتماً: «لا اريد أن أرى بعيني سقوط ما كتبته على الورق وعلى الجدران وعلى الهواء. لا أريد أن ارى أكثر مما رأيت من خيبات الأمل. ولعل ذلك هو ما تبقى لي من أمل: أن أحصن نفسي ضد الخيبة. أما العائدون، فانهم عائدون، بقصيدتي أو بغير قصيدتي».

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق