«صوت الغراب»… التحليق في سماء الخيال هربا من القيود
تتوالى الروايات ويظل الهاجس الرئيسي الذي يطارد الكاتب المصري عادل عصمت في أعماله الإبداعية هو الحرية وكسر قيود المجتمع على الإنسان، فلما استبد به الخيال حلق عالياً في السماء متخذاً هيئة «غراب».
ورواية «صوت الغراب» الصادرة عن «الكتب خان للنشر والتوزيع» بالقاهرة في 196 صفحة من القطع المتوسط هي أحدث أعمال الروائي المصري بعد رواية (حكايات يوسف تادرس) التي فاز عنها بجائزة نجيب محفوظ للأدب في 2016.
وبينما اتخذ بطل (حكايات يوسف تادرس) الفن سبيلاً للحرية فإن بطل (صوت الغراب) سكنته فكرة التحرر حتى بدأ عقله وجسده معاً يستجيبان لها فطالت أظافره وتحدب أنفه واحتدت ملامح وجهه وتهيأ للتحليق عالياً.
تبدأ الأحداث في مدينة طنطا بدلتا مصر حيث ولد بطل الرواية وراويها والذي لا يمنحه المؤلف اسما ربما إمعاناً في التحرر من كل شيء حتى الأسماء.
يولد البطل لعائلة تعمل بالعطارة وتتوارثها أباً عن جد ويجد نفسه في وسط أسرة تتكون من أمه وأبيه وشقيقيه حسن ومحسن وشقيقتهم الصغرى مريم لكنه يبقى منعزلاً عن الجميع في غربته الداخلية لا ينتمي لأحد سوى نفسه.
راودت فكرة الطيران بطل الرواية منذ الطفولة فبدأ الحلم مع أول دراجة حصل عليها. كان يقودها ويذهب بعيدا إلى حدود مدينته ويشعر معها بالتحرر من قيود أمه وأبيه.
«كانت الدراجة أداة الطيران الذي جربته في ذلك اليوم. في الضوء الباهر لميدان الساعة أدركت مرة أخرى فضلها. يمكنني أن أطير بها حتى يتلاشى كل شيء، هارباً من البيت الذي بدا لي في ذلك اليوم كجزمة ضيقة علي أن أضع نفسي فيها مهما تقرح جسدي».
ومن الدراجة ينتقل بطل الرواية إلى وسيلة جديدة تساعده على التحرر والتحليق فوق همومه فيسرق بعض الأموال من شقيقه الأكبر ويشتري منظاراً يراقب به السماء والنجوم لكن تدريجياً يجد نفسه بدلاً من ذلك يراقب الناس والمنازل والنوافذ والطرقات من فوق سطح بيته.
«عشت أفكاري على نحو سري، منتبهاً لما فيها من خيال، حتى وصلت إلى اللحظة التي بدأ الحنين فيها إلى الطيران. لم أحك لأحد عن المنظار. قصتي التي لن يعرفها غيري، سوف أعيدها في ذهني طول حبسي حتى يأتي اليوم الذي أحلق فيه فوق المدينة وفوق حياتي طائراً إلى بعيد».
مع انتقال بطل الرواية لمرحلة التعليم الثانوي ثم الجامعة تتغير الوسيلة إلى السينما ويغرق في عالم الأفلام والصور وما وراءها من تفاصيل ويعزز ذلك التحاق أحد زملاء دراسته بمعهد الفنون المسرحية.
«قادني المنظار إلى التعلق بالسينما. كان الأمر مربكاً، فتلك المتعة التي أعيشها عندما أحمل المنظار وأقف في ظلمة السطوح، متحققة في السينما بشكل حي كأنني في حياة طبيعية. هناك في ظلمة السينما، التي تشبه ظلمة السطوح، أجلس ساكناً في لحظة سر. ينسال الناس في مناخ فضي كأنهم في حلم».
يكبر بطل الرواية وتكبر معه وحدته وأفكاره في التمرد والتحرر. يؤدي الخدمة العسكرية وبعد الانتهاء منها ينضم للعمل بتجارة العائلة في العطارة لكنه يبقى بلا هدف وبلا طريق، فقط خيال.
تدخل المرأة على خط الأحداث فيقيم بطل الرواية علاقة حميمة مع (ابتسام) التي هجرها زوجها وسافر إلى العراق ثم طلقها غيابياً بعد أن أصبحت أما لطفلة.
ابتسام امرأة مقهورة تركها زوجها لتتعذب وحيدة في تدبير احتياجاتها واحتياجات طفلتها، لكنها ليست النموذج المقهور الوحيد الذي يحيط بالبطل ويعزز تمرده. الشقيقة مريم كبرت وحددت هدفها بالعمل في الصحافة لكن مدينة طنطا لا تلبي هذا الطموح فكان الذهاب للقاهرة هو الملاذ. وهنا تعرضت مريم لبطش أخيها الكبير حسن الذي رفض فكرة ترك شقيقته تعيش وحدها بالعاصمة حتى ولو للعمل.
هذان النموذجان استدعيا من مخيلة البطل حكاية عمته سعاد التي ماتت مقهورة أمام عينيه وهو طفل بعد أن أحبت شاباً رفضته أسرتها فما كان منها إلا أن تمردت على العادات والتقاليد وتبعت حبيبها في كل مكان. حبستها الأسرة في غرفة وتركتها تموت ببطء عقاباً لها على «خطيئة الاختيار».
يضيق بطل الرواية بمحيطه ويتعزز شعوره بالغربة والانفصال فتبدأ مظاهر التمرد في الانتقال من الشعور والخيال إلى الجسد.
«كانت أظافر قدمي محدبة، أطرافها ملتصقة باللحم وسطح الظفر أسود كأن الدماء قد حبست تحته. ربما كانت أول علامة على أن التحور لم يعد يحدث في الداخل بل انتقل ليحدث في الجسد».
رغم سعيه للجوء إلى طبيب نفسي لمحاولة فهم ما يحدث له وإيداعه مصحة نفسية لفترة إلا أن هذا لم يحل دون اكتمال الحلم أو يقلل من مأساوية النهاية.
«في تلك اللحظة سمعت الطلقة، سمعتها واضحة شقت الطريق وحركت كل ما في جسدي من حيوية، وجدت نفسي أندفع إلى الشرفة بسرعة شديدة وأقف للحظات فوق السياج وأفرد أجنحتي وأطير مطلقاً ذلك الصوت الخشن الذي طالما أطلقته من بلكونة بيت خالتي… «واق واق واق واق واق واق واق».
رويترز