سياسة لبنانية

«أمن الدولة» يزعزع «أمن الحكومة» والفرز الطائفي «يضعضع» التحالفات السياسية

ما شهده مجلس الوزراء دليل «فاضح» الى الحال المتردية التي بلغتها الحكومة التي ما تكاد أن تخرج من أزمة حتى تسقط في أخرى، وما أن تقفل ثغرة حتى تفتح ثغرات. هذه الحكومة المستمرة بقوة الأمر الواقع وبسبب تعذر تشكيل حكومة جديدة في ظل عدم وجود رئيس للجمهورية، تعرضت لاهتزاز جديد وعنيف ولحقها ضرر إضافي في تماسكها وصورتها ومصداقيتها، وكانت النتيجة أن الأمن السياسي اضطرب بسبب جهاز أمني، وأن أمن الحكومة أصيب بسبب جهاز تابع لرئاسة الحكومة.
المشكلة صارت واضحة وتدور بين فريقين حكوميين: فريق يحتج على ما يلحق جهاز أمن الدولة من تضييق مالي وإداري ومعنوي عبر أشكال عدة من وقف اعتمادات مالية وإلغاء مخصصات ونفقات سرية وإقصاء رئيس الجهاز عن الاجتماعات الأمنية وحجب داتا الاتصالات عن الجهاز… وهذا الفريق يرى أن هذه المعاملة السيئة تعكس اتجاها الى حل وإلغاء «أمن الدولة» بحجة عدم إنتاجيته وعدم الجدوى، أو على الأقل إضعاف هذا الجهاز عبر محاصرته وشل قدراته… وهناك فريق ثانٍ يعتبر أن المشكلة «إدارية» بين مدير ونائبه ويجري تضخيمها وإلباسها لبوساً طائفياً واستثمارها سياسياً…
الحلول المطروحة أيضاً صارت واضحة: فريق يطرح إقالة رئيس الجهاز (اللواء قرعة) مع نائبه (العميد الطفيلي) لإخفاقهما في إيجاد صيغة تفاهم، وفريق آخر يرفض هذا الطرح بشكل قاطع لسببين: لأن اللواء قرعة لم يرتكب خطأ وإقالته تخلق سابقة يمكن أن تتكرر مع أي مدير جديد يختلف مع نائبه، والسبب الثاني أن العميد الطفيلي يحال على التقاعد بعد شهرين، فيما ما زال أمام اللواء قرعة سنتان لبلوغ التقاعد… وهذ الفريق يطرح تشكيل مجلس قيادة للجهاز أسوة بالأجهزة الأخرى بحيث لا يكون رئيسه مقيداً ولا تكون هناك ازدواجية سلطة وصلاحيات ومساواة بين المدير ونائبه. وهناك فريق ثالث يطرح حلاً انتقالياً من وحي المرحلة الانتقالية التي تمر بها البلاد طالما أن إنشاء مجلس قيادة يلزمه قانون من مجلس النواب الذي لا ينعقد في ظل الفراغ الرئاسي. وهذا الحل «فكة مشكلة» يقضي بتسيير أمور الجهاز والإفراج عن مستحقاته وإعادته الى حظيرة الاجتماعات الأمنية بانتظار الحل النهائي والجذري لوضعه.
بمعزل عن طبيعة المشكلة والحلول المطروحة لها، فإن أهم ما كشفته جلسة مجلس الوزراء هو حصول فرز على أساس طائفي عابر للتحالفات السياسية المعهودة ومن خارج الاصطفاف القائم منذ عشر سنوات، وبما يعزز الاعتقاد بأن المرحلة التي كان فيها الانقسام اللبناني سياسياً بين 8 و14 آذار بدأت عدها العكسي، وأن الانقسام السياسي ينحسر لمصلحة انقسامات مذهبية وطائفية على مستويين: مستوى الصراع السني – الشيعي الذي يتم ضبطه واحتواؤه عبر حوار «المستقبل» وحزب الله في عين التينة، ومستوى التجاذبات والانقسامات الإسلامية – المسيحية التي تزداد حجماً ووضوحاً بالتزامن مع خريطة سياسية جديدة لم تعد فيها اللعبة وقواعدها محصورة بين محورين ولاعبين كبيرين (8 و14 آذار) وإنما بين ثلاثة لاعبين أساسيين (شيعي وسني ومسيحي حديثاً).
هذا الواقع الجديد انطلق «رسمياً» مع اتفاق معراب الذي خلط الأوراق، ليس فقط على المستوى الرئاسي وإنما على المستوى السياسي أيضاً، ويترجم عملياً في مناسبات وملفات متعددة أبرزها في الفترة الحالية:
– الجلسة الحكومية التي «انفجر فيها ملف أمن الدولة» وأظهرت انتظام الوزراء المسيحيين في جبهة واحدة (وزراء التيار والكتائب والمستقلين وأبرزهم الوزير ميشال فرعون، فيما التزم الوزراء المسيحيون الآخرون الصمت الحيادي أو موقف رفع العتب والحد الأدنى)، مقابل جبهة واحدة جمعت وزراء بري والحريري، وحيث أن وزراء المستقبل لم يكونوا على موجة واحدة مع حلفائهم المسيحيين (فيما التزم وزراء حزب الله وبدرجة أقل جنبلاط الحياد).
– الجلسة التشريعية الآتية والتي يعتزم الرئيس بري توجيه الدعوة إليها قريبا متكئا أو مراهناً على تأييد وحضور كتلة المستقبل. وهنا أيضاً يحصل افتراق بين المستقبل وحلفائه المسيحيين الذين يتسلحون بتعهد سابق للحريري بعدم حضور أي جلسة تشريعية لا يكون قانون الانتخاب مدرجاً على جدول أعمالها، كما يحصل تباين بين عون وحزب الله المؤيد لانعقاد جلسات تشريعية في ظل الفراغ الرئاسي.
في هذا الموضوع، يأخذ الموضوع أيضاً أبعاداً طائفية وتحديداً عند المجموعة المسيحية التي تثير نقطتين: ازدواجية المعايير الميثاقية عند الرئيس بري الذي كان يلغي أي جلسة تشريعية لا تحضرها كتلة المستقبل، فيما لا يفعل الشيء نفسه إذا لم تحضر الكتل المسيحية الأساسية… والنقطة الثانية تتعلق بضبابية موقف المستقبل الذي وقفت الى جانبه كتل القوات والكتائب عندما رفض انعقاد جلسات تشريعية في ظل حكومة مستقيلة (في فترة استقالة حكومة الرئيس ميقاتي وتصريف الأعمال لفترة تسعة أشهر)، فيما لا يقف المستقبل الى جانب المسيحيين في رفضهم انعقاد جلسات تشريعية في ظل الفراغ الرئاسي.
هذا «الفرز – الاصطفاف» الذي يمكن أن يمتد لاحقاً الى ملف قانون الانتخاب، هو مقدمة ومؤشر الى مرحلة جديدة لا يكون فيها الصراع السني – الشيعي وحده «المستعر»، وإنما يضاف إليه خلاف مسيحي – إسلامي، ولا يعود فيه الانقسام بين تحالفي ومحوري ببين 8 و14 آذار وإنما تنشأ محاور وتحالفات جديدة، أوضحها وأكثرها اكتمالاً حتى الآن محور «بري – الحريري – جنبلاط  فرنجية».

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق