سياسة لبنانية

المسيحيون في لبنان لماذا تراودهم فكرة «الفدرالية»؟!

يختلف المسيحيون في لبنان بشكل حاد على رئاسة الجمهورية ويفشلون في إخراج كرة الرئاسة من ملعبهم… يختلفون نسبياً على قانون الانتخابات بين أكثري ونسبي ومختلط ودائرة فردية أو متوسطة… المفارقة أن أكثر ما يجمعهم ويلتقون عنده حالياً هو مستقبل لبنان بنظامه السياسي الجديد وصيغة الحكم المتناسبة مع المتغيّرات التي حصلت في فترة الحرب الأهلية والتحولات الجارية في المحيط العربي.
يلاحظ في الآونة الأخيرة، منذ أشهر قليلة أن النخب المسيحية الفكرية والسياسية في حلقات مغلقة أو في ندوات مكشوفة بدأت تفكر بصوت عالٍ بموضوع الفدرالية وتطرحها على بساط البحث والتداول، وأن الأحزاب المسيحية الرئيسية، التيار والقوات والكتائب، تطرح في أدبياتها السياسية فكرة الفدرالية تصريحاً أو تلميحاً ومع اختلاف في أشكال وطرق التعبير… فالكتائب، أخذة في الاعتبار الخشية المزمنة من أيام الحرب عند المسلمين تجاه «الفدرالية المرادفة بنظرهم للتقسيم» تطرح «الاتحادية» كعبارة مطمئنة ومقبولة، في إشارة الى فدراليات عدة في أكثر الدول رقياً وأعقدها تركيبة اجتماعياً وثقافياً مثل الاتحاد السويسري وألمانيا الاتحادية والولايات المتحدة، وحتى الإمارات العربية المتحدة… القوات اللبنانية، الحريصة حتى إشعار آخر على اتفاق الطائف، تستعيض عن عبارة الفدرالية وتكتفي بعبارة «اللامركزية الإدارية الموسعة» الواردة في دستور الطائف ولم تطبق بعد وستكون خطوة أولى عملية داعمة ومكملة لـ «فدرالية الطوائف» المطبقة فعلاً وعرفا في لبنان… والتيار الوطني الحر كانت صدرت عن قياداته إشارات في اتجاه الفدرالية، ملوّحاً بهذه الورقة في سياق المعركة السياسية الدائرة والضغوط والتهديدات والابتزازات المتبادلة.
في الواقع، طرح الفدرالية ليس جديداً في لبنان ولا عند المسيحيين. حدث ذلك في بدايات الحرب عندما أعلنت الجبهة اللبنانية توصيات خلوة سيدة البير عام 1976 وتضمنت تعابير «التنوّع والتعددية والفدرالية»… وتبلورت خلال الحرب وعملية الفرز السكاني والجغرافي معالم منطقة مسيحية عرفت بـ «المنطقة الشرقية» اعتبرت بمثابة نواة صلبة للمشروع الفدرالي، ولكن المنطقة الشرقية تفككت وانهارت بفعل الحرب المسيحية الداخلية، فيما الفدرالية تحطمت عند جدار اتفاق الطائف…
تعود فكرة الفدرالية الى التداول مجدداً في الأوساط المسيحية لثلاثة أسباب رئيسية:
1- الفشل المريع للحكومة المركزية في إدارة أبسط الأوضاع والملفات التي لها علاقة مباشرة بحياة الناس وصحتهم ورفاهيتهم وسلامتهم… ووصل الأمر الى ذروته مع أزمة النفايات التي كانت بمثابة «القشة التي قصمت ظهر البعير» ودفعت بالرأي العام اللبناني والمسيحي الى النفور من الحكومة والدولة المركزية والى البحث عن بدائل حلول «لامركزية». فإذا كانت أزمة النفايات شكلت ذروة العجز عند الدولة وذروة الشكوى عند الناس، فإن الشكوى المسيحية كانت تتراكم عناصرها منذ سنوات من جراء الإهمال الرسمي للمناطق المسيحية وعدم تطبيق مبدأ الإنماء المتوازن وعدم التناسب بين ما تدفعه من ضرائب وما تتلقاه من خدمات…
2- تولّد اعتقاد، يتحوّل أكثر فأكثر الى قناعة، بأن اتفاق الطائف قاصر في تأمين المشاركة الفعلية للمسيحيين في الحكم والدولة وفي صناعة القرارات المركزية والسياسات العليا وفي إعطائهم حقهم ودورهم… وأنه آن الأوان للبحث والتفتيش عن نظام سياسي آخر وعن صيغة أخرى تتيح للمسيحيين اختيار ممثليهم الحقيقيين في مجلس النواب وإيصال الأنسب والأكثر تمثيلا بينهم الى رئاسة الجمهورية وصيانة حقوقهم ومصالحهم وخصوصياتهم تحت سقف الوحدة الوطنية…
3- المتغيّرات الجيوبوليتيكية في المنطقة العربية وبعدما تسببت الثورات والحروب العربية في تدمير دول أساسية وتمزيق أنسجتها الاجتماعية والدينية والطائفية حتى غدت الفدرالية هي البديل عن التقسيم والمانع له و«أهون الشرور» و«أفضل الحلول»… هذا ما حدث في العراق الذي بات موزعا بين ثلاث مناطق وأقاليم: شيعية في الجنوب وبغداد وسنية في الوسط وكردية في الشمال… وهذا ما حدث في ليبيا المقسمة «جهوياً» بين غرب وشرق مع عاصمتين هما طرابلس وبنغازي… وما حدث في اليمن المقسم بين شمال وجنوب مع عاصمتين هما صنعاء وعدن… وهذا ما حدث في سوريا المشلّعة الى مناطق سنية وعلوية وكردية ودرزية… وأما المسيحيون في سوريا حيث يتمركزون في وادي النصارى خصوصاً، وأما المسيحيون في العراق حيث يتمركزون في سهل نينوى، فإنهم بالكاد يطمحون الى وضع إداري خاص وليس «الحكم الذاتي»..
المسيحيون في لبنان الذين من جهة أذهلهم وأرعبهم ما حصل لمسيحيي العراق وسوريا (تراجع عددهم في العراق بنسبة 40% وفي سوريا بنسبة 54% بين عامي 2010 و2015)، والذين من جهة ثانية يرقبون التحول الجاري نحو أنظمة حكم جديدة فدرالية مع استحالة عودة هذه الدول المجاورة الى ما كانت عليه، فإنهم يتطلعون أكثر من أي وقت مضى الى الفدرالية أو اللامركزية في نزعة اتحادية لا تقسيمية ولا يلجمها أو يوقفها إلا تلبية الحد الأدنى من مطالبهم: قانون انتخابات يؤمن التوازن والتمثيل المسيحي الصحيح… ولامركزية إدارية موسعة في تطبيق فعلي لاتفاق الطائف نصاً وروحاً…
الوزير الكتائبي سجعان قزي يقول: «الذين يتخوفون من الفدرالية لا يعلمون ماذا تعني. فهي ليست تقسيماً إنما إعادة توزيع السلطات المحلية في إطار وحدة وطنية متراصة، وغالبية الذين ينتقدون الفدرالية يمارسون الانفصال والتقسيم على الأرض… الخوف على لبنان ليس من الفدرالية بل من التقسيم إذا ما استمرت ممارسات وأدبيات وسلوكيات الطبقة السياسية على ما هي عليه الآن. وأعتقد أن لبنان سائر نحو الفدرالية في حال لم نجد حلا لأزمة لبنان قبل حصول تسوية في سوريا». والاعتقاد الراسخ في الأوساط المسيحية أن الدعوة للنظام الفدرالي هي نظرياً دعوة للوحدة وليس للتقسيم أو لتفكيك المجتمع الى كيانات مستقلة. فالفدرالية بتبسيط هي اتفاق سياسي ودستوري بين مجموعة أقاليم لها صلاحيات واسعة لتحقيق الأنسب لخصوصياتها الثقافية ولبيئتها المحلية، شريطة الالتزام بالدولة الواحدة والخضوع لحكومة مركزية لها سلطات ومسؤوليات عامة لا تنازعها فيها الأقاليم ولا تتجاوزها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق