آدب

انيس مسلّم: أناشيد الحب والذكريات «على اوتار الحنين»

منذ سنوات طويلة ينكب انيس مسلم على الكتابة، وله في هذا الميدان مؤلفات عدة، واغلبها يدور حول الصحافة، مهنته الاولى والاخيرة. وبعيداً عن مسائل الصحافة وهمومها، له مجموعة قصصية بعنوان «هواجس» قدّم لها الشاعر سعيد عقل، وله كتاب بعنوان «سلّة الفاكهة» شعر من الشاعر الهندي الكبير رابندرانات طاغور، مترجم عن الفرنسية، وهو من كتبه الجميلة. وله ايضاً: كتاب بعنوان «ايام الزهر»، وآخر بعنوان «تساؤلات». اما كتابه الجديد فهو بعنوان «على اوتار الحنين» وفي طياته اناشيد من الحب والحنين الى ايام خلت، والى زوجة رحلت تاركة الفراغ الكبير في حياة الزوج الذي كتب «على اوتار الحنين» سيرة شعرية مؤلمة ولكنها جميلة وصادقة، تحكي قصة الحب والذكريات والوفاء… وبعد مرور اكثر من تسعة شهور على صدور هذا الكتاب، احيت «الحركة الثقافية – انطلياس» ندوة ادبية حوله، حضرها عدد كبير من المثقفين والجامعيين والادباء والشعراء…

كتب مقدمة الكتاب المطران جورج اسكندر معتبراً ان «انيس مسلم، ككل كاتب صادق، يكتب بدافع من حاجة اصيلة في نفسه، تكسبه نشوة الابداع والتعبير الخلاق، وتحمله على اشراك الآخرين، وخصوصاً الاهل والاصدقاء، في فرحة الاكتشاف والدهش وعيش مناخات الحق والخير والجمال التي تغمر كيانه، كما في معاناة الألم والكآبة اللذين يكاد يرزح تحت نيرهما. ويضيف الانيس على ذلك ان «كتاباته تخفف عليه وطأة الحاجة وظلم العذاب»، من جراء غياب حبيبته. واني ارى ايضاً في هذا التصرّف رغبة ملحة عنده في مواصلة الاتصال بها، على الرغم من البعد الساحق والرهيب بينهما».
واضاف قائلاً: «اما نحن القراء، فاننا نستمتع بخبرة الكتّاب ومواهبهم الرفيعة، ونتقرّب اليهم بمشاركتنا افكارهم ومشاعرهم، ونكتسب منهم ادباً جديداً وعلماً مفيداً لحياتنا…».

تعبير صادق عمّا يعيشه المؤلف
وفي مكان آخر من المقدمة، يقول المطران جورج اسكندر: «الكتاب يزخر بالوجد ويحمل اعادة لبعض المشاعر والافكار. ان هذا الامر، في نظري، تعبير صادق عما يعيشه الزوج الاديب وما يفكر ويشعر به الكاتب المجروح من انفعالات مختلفة ومتغيرة تجعله يتوقف ويستفيض احياناً امام حالة معينة، يعاني فيها من الوجد اكثر مما في سواها، انما نجده يعبر عنها، في كل مرة، بأسلوب جمالي جديد، وبكلمات حلوة بديلة، فلا يفسح في الامر مجالاً لملل بل يظهر لنا غنى شخصيته».
مشيراً الى ان «كتاب انيس مسلم «على اوتار الحنين»، يبدو لي، كما حياته، محاولة ناجحة للتعبير بصدق ومهارة عما تزخر به نفسه، في حالة مميزة وزمن معين، حيال الانسان الاعز الذي غاب عن وجوده».

حالات نفسية صعبة وتساولات كبرى
اما المؤلف فيشير الى انه كتب نصوص «على اوتار الحنين» في هذه المرحلة الدقيقة من حياته، قليبقى حياً، بعد رحيل رفيقة دربه… قائلاً: «واذا كان بعض هذه الشذرات يعبر عن حالات نفسية صعبة عانيتها، مُذ غادرتنا زوجتي، فذلك لان التساؤلات الكبرى انهمرت عليّ، فكدت اضيع في غمرها: الى اين نحن ذاهبون؟ لماذا لا يتغلب الزمن، في حياتنا، على كل ما نحب تأبيده؟ لماذا تذبل الورود بهذه السرعة العجيبة؟ ما هي قواعد العلاقة بين الزمن والابدية؟ وبين النسبي والمطلق؟».
الى ان يقول: «… كتبت هذه النصوص تعبيراً عن الحالات الصعبة، المؤلمة، بل المفجعة التي عشتها مدى شهور ما كان اطولها!».
يقول انيس مسلم في مطلع قصيدته النثرية «أقبل المساء»:
أقبل المساء
لا بد من الرجوع الى البيت
كنت اعود اليه وأنا اعود اليكِ
وها انا اعود الى البيت فلا اجدكِ.

الى ان يقول في مكان آخر:
أقبل المساء
فكإننا، نحن الاثنين
أنت وأنا مُتنا معاً
كل، في عالمه، مات
في تاريخه ووجوده اليومي مات.

استراحة عابرة بين دمعتين
قدم الندوة وادارها الدكتور انطوان سيف، وجاء في كلامه: «جرح انيس مسلم صلوات، ابتهالات، رسائل متأخرة، طلب مغفرة متأخرة، اشواق، نوستالجيا… مترادفة جميعها في الحدث، متفرقة في ورق المعاجم الباردة والجافة. المشاعر نادراً ما سقطت في آذاننا بغير صيغة الجمع. الكلمة تجمعها، وتحبسها. وحده الشعر يحرّرها من الاسر الى الوهم، الى الاجمل الكاذب الذي هو استراحة عابرة بين دمعتين».
وممّا قاله العلامة هاني فحص: «الصديق انيس مسلم انت من الكبار، الكبار، ولو لم تكن كبيراً لما ازدهيت وفاخرت بارتدائك عباءة الحزن على قرينتك… حتى ليبدو في ما قلته وكأنها نصفك الاجمل… الكتاب ملآن بما يُطربنا في ذروة حزننا وفي ذروة فرحنا بالابداع شكلاً ومضموناً».

يريد ان يقتسم الموت مع الموت
الدكتور دياب يونس استهل كلامه بالقول: «مضى الشباب، اما حبهما فلم يمضِ، فبعد العشية عَرار كثير ونرجس. اطبقت الشيخوخة، فحوّلاها مواسم وجد واغمار غبطة وصفاء. اقبل الموت. حمل الموت الحبيبة بين يديه. أما الحبيب فقد هدّت ركنه الفجيعة وَرَنّحه الشوق حنيناً فخفّ يَلُمّ في مناسكه ذكرياتها، ويضم في ما يشبه العبادات بسماتها والكلمات».
الى ان يقول: «ايها المحجوبون عنّا، هل تعلمون انكم اقل موتاً من احبائكم، وممّن يحبونكم، ومنّا؟! هل تعلمين، جاكي، (زوجة المؤلف) شيئاً عمّا حلّ بالانيس من رزايا؟ حسبه من مصائب الدهر انه أمسى يريد ان يقتسم الموت مع الموت، وان يُرجع قلبه الى العدم والعدم الى الحياة. وحسبه ان المنيّة اضحت امنية تُهوّن عليه بلاياه، وان فراقك قوّس ظهره الثمانيني…».

العار للذين لا دموع لهم
من ثم، وجّه دياب يونس كلامه الى انيس مسلم، قائلاً: «أما أنت، ايها الصديق الذي جعلت شجوك من ينابيع عبقريتك، فأحببت حتى الدَلَه، ورشفت العشق حتى الثمالات، ورأيت في الحب خلاصنا فأخلصت، وفي موت الحبيبة موتاً لك فساءلتها: هل دنا الموت مني حين منكِ دنا؟».
الى ان قال: «جعلت، ايها الكبير في كل جليل وخطير، تقول لمن لاموك اذ رأوْك بليل العينين: العار للذين لا دموع لهم، العار لمن لا يجعل كلامه دماً من جراحه: «وأيّ فؤاد لا يذوب لما أرى وأيّ عيون لا تجود فَتدمعا!» وبقدرة المبدع الخلاّق، رحت تعلمنا ان احداً لا يعرف نفسه ما لم يتوجع، وان المرء غِرّ مُعلّمه الألم، وان: «لا شيء يجعلنا عظاماً مثلما الألم العظيم».

بين النثر والشعر ايقاعات وانغام
من جهة اخرى، يقول دياب يونس: «اننا لنحار، في أحايين، هل هو شعر ما نقرأ أم نثر. فيه من النثر المجلوّ المدلّل ما فيه ومن الشعر غنائية محرورة دَفُوق كما فيه مدّ وجزر  يتهادى بينهما زورق تائه، زورق نصوص تفيض انغاماً وايقاعات تنوء عن حملها اوتارنا البشرية. وجملة القول ان «على اوتار الحنين» مزّق منّا الأفئدة، واستدرّ الدموع، وشنّف آذان السماوات، ورسم للحبيبة نموذجاً ملائكي وتصاحبها اجواق ساروفيمية تجعل الحب طقساً لا يمسه الا من خصّهم العشق بقبس من ألوهة».

قصيدة بعنوان «صدى الأوتار»
تحت عنوان «صدى الأوتار» القى المحامي الشاعر ريمون عازار قصيدة جاء في مطلعها:
هل شعرك التبر، ام هل نثرك الدررُ؟
ام ان وحيك من اعلى وينهمرُ
كأنجم تحتها الافلاكُ شاخصة
تروي التفرد، من اربابه ندروا
من بعد «اوتارك» الما مثلها وترٌ
قصائد الحب أنى كنت تنتشرُ
إن قيل بدعٌ، هي الابداعُ مكتملاً
او قيل أبهى تغاوى السمعُ والبصرُ.

غنيت زوجتك المنذور خاتمها
على الوفاء، كما لم تخبر العصر
نسجت بالسحر بالاشذاء بردتها
كما السماء كستها الانجم الغررُ
لم ينشد الشعر في اشراقه مُثُلاً
الا ومنها بهاء الرمز يبتكرُ.
صفاتها العجب حتى قلتها قبساً
من «الكمال»، اصطفاها للعلى القدر
او قلت معجزة في الناس، طالعة
من الاساطير، لو لم يشهد البشرُ.

وجاء في كلمة جوزف ابي ضاهر بالعامية:
«انيس مسلم ما ترك الذكريات تصير خيط، ولو مدهب، بمشلح الضعف، صيرا الفكر ال بيروح ل الابعد ل الاعمق. مشي ع مهل باللغة ل عمق البساطة، وقدر يخبي القلق الراكد وراه من اول الكتاب ل آخرو، كأنو الضمير ال ما خلا مقص الحزن يقطع حبل الصرة ت تصير الولادة موت».

كلمة المحتفى به
الكلمة الاخيرة كانت للمحتفى به، ومما قاله: «نقلتني زوجتي، إبّان آلامها، من الجزء الى الكل، من التردد الى الحزم ومن الشك الى الايمان، فأدركت بفضلها ان ثمة مدى سماوياً شاسعاً، يكمن في داخل كل انسان ينتظر من يكتشفه، وها انا الساعة، ابصر ملامح هذا المدى البهي على وجوهكم، واشكر الله لنعم، اجهل، احياناً، كيف استثمرها، ويفوتني ، غالباً، احصاؤها».

اسكندر داغر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق