رئيسيملف

جونية… والله زمان

من زمان لم تصب مدينة جونية بعدوى الحياة كما حالها اليوم. من زمان لم نسمع أحدهم يقول: اشتقنا لليل جونية يضيء خليجها بأنوار السهر وأصداء المفرقعات وأصوات الفنانين العالميين تصدح في سمائها. وللمرة الأولى، ندخل سوق جونية نهاراً على وقع الازميل ومشهد السقالات المرتفعة أمام المباني والمحال المصنفة أثرية. والهدف؟ لا اطمئنوا، هي ليست عملية هدم للمباني كما الحال في الامكنة المصنفة أثرية ويفترض أن ترتاح فيها العين. فالورشة القائمة ليست الا جزءاً من مخطط لعملية ترميم وتأهيل تنفذه بلدية جونية وفق تراخيص خاضعة لموافقة المديرية العامة للآثار، ومديرية التنظيم المدني وبلدية جونية. حصل كل هذا في جونية تحت أنظار سيدة لبنان والقيمين على تلك البلدة لأنه ببساطة ثمة أماكن ومعالم تراثية تستحق أن تحظى بالرعاية. وسوق جونية التراثي أحد هذه المعالم، فاستحقت جونية المطلوب…

ثمة من يقول: إن الحياة التي تدب في منطقة جونية تشبه حركتها قبل العام 2005. ومنهم من يعتبر أن الضغط السياسي والأمني الذي تشهده البلاد لا سيما في شمالها وبقاعها، ساهم في تنشيط الحركة وانتقالها إذا صح التعبير إلى جونية. لكن الكلام شيء والواقع على الأرض شيء آخر. فليل جونية عاد يضيء سماءها، ليس فقط في الملاهي الليلية كما الحال خلال الأعوام الأخيرة، إنما أيضاً في المطاعم ودور السينما وحتى في الفنادق التي تشهد حركة ولو خفيفة، لكنها أفضل من أن تبقى الأنوار مطفأة، على ذمة مدير فندق في سوق جونية.

 

سوق جونية العتيق… ورشة
واستكمالاً لورشة الحياة النابضة في قلب جونية أطلق رئيس بلديتها أنطوان افرام ورشة تأهيل وترميم المباني الأثرية في سوق جونية العتيقة. ومجرد أن تطأ قدماك هذا الشارع تدرك أن القرار ليس مجرد حركة عابرة أو حتى موسمية، تماماً كما الحال في المقر البلدي الذي يشهد على حركة غير عادية. رئيس دائرة الأشغال والهندسة في البلدية المهندس إيلي سلامة اعتبر أن ما يحصل في جونية اليوم هو استكمال لتاريخ جونية الحديث خلال عهد الرئيس الراحل فؤاد شهاب: «يومها وضعت التخطيطات التنظيمية وكان البناء التراثي في الستينيات والسبعينيات غير مظهّر بسبب عدم تقويم أهميته، فاستفاد الناس من هذه المرحلة وتم هدم بعض الأبنية التراثية وتشييد مبانٍ حديثة في مكانها، لكن بارتفاعات مختلفة وخارج أصول الهندسة المعمارية المفترضة في سوق جونية الأثري، وذلك في مواقع متعددة من السوق ومنها: سنتر أمواج، سنتر المينا، بناية شيحا، بناية ناهية الخازن، بناية خليفة…».
في العام 1995صدر القرار رقم 9 عن وزارة الثقافة والتعليم العالي وذلك بناء على طلب البلدية وأدخلت المباني القديمة القائمة على عقارات السوق العتيق في لائحة الجردة العامة للأبنية التراثية. وضعت بلدية جونية بالتنسيق مع المديرية العامة للآثار الأبنية الموجودة في سوق جونية على لائحة الجرد العام للأبنية التراثية في لبنان. وفي العام 2006 صدر المرسوم رقم 18093 الذي اعدته البلدية مع المديرية العامة للتنظيم المدني وهو ينظم البناء في المنطقة الأثرية بكاملها وكل عقار بمفرده  فيحفظ ما يجب حفظه، ويهدم الإضافات المشوهة. ولفت سلامة إلى أن كل التراخيص في هذا الشارع تخضع لموافقة المديرية العامة للآثار والمديرية العامة للتنظيم المدني وبلدية جونية، وتشمل هذه التراخيص أعمال الترميم والتأهيل وهدم الأقسام المشوهة للبناء.


روحية واحدة
الكل خضع لنظام المرسوم. لكن المخالفات تحصل أحياناً سواء في زيادة شرفة أو ارتفاع طبقة واحدة أو هدم فيللا كما حصل منذ مدة لكن من دون علم البلدية! «لكن الروحية واحدة» يقول سلامة. وانطلاقاً من روحية المرسوم كان القرار هذه السنة في ترميم وتأهيل المباني والمحال التجارية المصنفة على لائحة المباني التراثية. فـ «للمرة الأولى يشهد سوق جونية عملية ترميم للمباني الأثرية. وقد شكل هذا الحدث نهضة في تاريخ السوق والتزاماً جدياً بالقوانين التي حددت المواصفات والشروط» يقول سلامة لافتاً الى أن الأعمال لا تعيق الحركة التجارية على الإطلاق بدليل ان «ابواب المحال التجارية تفتح يومياً في موعدها، وعلى العكس نلاحظ أن الحركة تضاعفت مع انطلاق الورشة».

نصل إلى مدة أعمال الترميم، ويوضح سلامة بأنه لا توجد مهلة محددة فـ «الأعمال مستمرة وهي تقع في جزء منها على عاتق المالكين وتساهم البلدية في ترتيب المحيط من حساب صندوقها». لكن ماذا لو رفض المالك القيام بأعمال الترميم بحجة الضائقة الإقتصادية أو الوضع الأمني القائم في البلد؟ يجيب:

«حتماً لن نعاقب المالك الذي يرفض القيام بأعمال الترميم والتأهيل شرط أن تكون لديه الحجة المقنعة. ونحن مستعدون لإعطائه المهلة المحددة التي تمكنه من التحضير للبدء بالورشة. لكن عموماً لم نلق الرفض من أحد حتى الآن. وإذا حصل فلكل مشكلة حلها».

تلحظ أعمال الترميم والتأهيل في السوق الحفاظ على هندسة البناء وتطويره بما يتلاءم ومتطلبات العصر. ويشدد سلامة على جدية تطبيق القوانين بشكل صارم لا سيما في ما يتعلق بالهندسة الخارجية والحجر «وفي حال حصول تعديل ما فذلك يكون من ناحية الهندسة الداخلية والتمديدات الكهربائية إضافة إلى تفاصيل تقنية داخلية».
الرسالة وصلت. ومالكو المحال والأبنية التراثية في السوق القديم يدخلونها صباحاً لمراقبة الأعمال من دون أن يتوانوا عن فتحها فـ «الحركة على وقع الإزميل فيها بركة» كما يقول صاحب احد محال الألبسة، المصنف على لائحة الجرد العام التراثية. أما جاره الذي يملك محلاً لبيع السجاد فلا يقل إصراراً عنه علماً بأن الموسم ابعد ما يكون عن هوية المحل. «لكننا في جونية نشهد حركة بيع سجاد قوقازي وعجمي خلال موسم الصيف أكثر من باقي المواسم».

عروس الخليج
ندخل في صفحات التاريخ. فإسم جونية مشتق من الآرامية GONIA ويعني الزاوية بسبب وقوعها على الطرف الجنوبي لخليج هو بمثابة ميناء طبيعي. وتستأثر جونية بجمال فريد من نوعه على شاطىء المتوسط، كما تستمد سحرها من موقعها الطبيعي واحتضانها تراثاً معمارياً مهماً. وإذا كانت مستلزمات النمو والتطور قد غيرت وجه المدينة، فثمة أمكنة في أنحائها لا تزال تبوح بأسرار الماضي وجماله.
وتحدد المنطقة المصنفة تراثية في مدينة جونية بين منطقة الشير في صربا ومحيط الملعب البلدي، وتتألف من سوق تجارية بنيت على جانبي طريق طرابلس – بيروت في أيام العهد العثماني. أما الأسواق التجارية فشيدت من الحجر الطبيعي والقرميد الأحمر. ولا يتجاوز عدد طبقات البناء منها الطبقتين أو الثلاث وهي متناسقة، وتفصلها ممرات فضائية تسمى بالحارات. وتتميز الطبقات الأرضية من هذه المباني بالحجر المعقود على شكل قناطر وكذلك الحال بالنسبة إلى الطبقات العلوية مع سقوف قرميد وسقالة من الخشب. أما مقر الحاكم الإداري للمدينة والذي يشكل حالياً مبنى البلدية فقد شيد في عهد المتصرف واصا باشا في العام 1879 وهو يشرف على الأسواق شمالاً وجنوباً والبحر غرباً والسهول الزراعية شرقاً.

مهرجانات خضراء
حافظ سوق جونية القديم بأبنيته التراثية وقناطر العقد فيه على طابعه ورونقه. كما شكل إطاراً مميزاً لمهرجان ينطلق سنوياً تحت عنوان «تمشى وسهار». ويصبح السوق ليلاً ملكاً للمشاة حيث تمنع السيارات من دخوله. والى التسوق يستمتع الزوار بنشاطات فنية وثقافية. وبذلك يتكامل التراث مع النمو الإقتصادي كما تقول السيدة ساميا صفير من جمعية «أبساد» التي تتعاون مع بلدية جونية وهيئات أخرى في إطار الحفاظ على التراث المعماري للمدينة وإعادة إحيائه.
هذه السنة اتخذت مدينة جونية طابعاً بيئياً لمهرجاناتها التي انطلقت في 22 حزيران (يونيو). وعلى رغم وقع الأحداث الأمنية التي سيطرت هذه المرحلة بدءاً بأحداث طرابلس ومعركة إنهاء ظاهرة الأسير في عبرا، إلا أن إرادة الحياة تغلبت على مفاهيم الحرب والموت والدمار. البداية كانت مع «يوم جونيه الأخضر» حيث شهدت شوارع المدينة حركة لعشرات الضيوف من منظمات غير حكومية وجامعات لبنانية جاءت لتهيىء نفسها لهذا اليوم، وتعلن كما يقول رئيس لجنة الثقافة في المجلس البلدي واكيم بو لحدو عن دعمها للبيئة واحترامها والمحافظة عليها. ويأتي هذا اليوم كمقدمة لمهرجانات جونية الدولية لسنة 2013، التي تنظمها جمعية «فيليبوليس» غير الحكومية. ويضيف المؤرخ بو لحدو: «هناك 50 مدينة في العالم مغلقة أمام السيارات لأنها تعتبر أن 60 في المئة من نسبة التلوث مصدره عوادم السيارات. لكن طبيعة سوق جونية الذي تتداخل فيه المباني السكنية مع المحال التجارية تحول دون تحويله إلى سوق مخصص للمشاة فقط على امتداد أيام السنة. إضافة إلى ذلك هناك الأسواق التي خرجت عن المفهوم التقليدي فاستغنت عن الواجهات وباتت تعتمد على حركة البيع عبر الإنترنت. ولفت إلى أن نسبة البيع في هذه الأسواق كما في تلك المخصصة للمشاة ازدادت على عكس الفكرة السائدة التي ترجح انخفاض الحركة ونسبة البيع.

 

 


 

باركينغ وممرات لذوي الاحتياجات الخاصة
نشاطات «يوم جونية الأخضر» كانت أكثر من ترفيهية وموجهة نحو الحفاظ على البيئة. فقد أعلن رئيس بلدية جونية انطوان افرام وممثل جمعية «فيليبوليس» تضامنهم مع مايكل حداد، الذي خسر ساقيه في حادث رياضي مؤسف، وأعلنا رسمياً عن تبني مشروع إنشاء موقف للسيارات خاص بذوي الإعاقة، بهدف تسهيل حياتهم وحركتهم. وكانت بلدية جونية أول من بادر إلى تنفيذ مشروعٍ من هذا النوع، حيث تم تجهيز ممرات خاصة خلال أيام المهرجان لذوي الإحتياجات الخاصة، إضافة إلى دورات مياه خاصة بالمعوقين ومواقف سيارات. كما أعطت البلدية الأفضلية لذوي الإحتياجات الخاصة في إنجاز المعاملات البلدية لأنها تعتبر المعوق إنساناً
يتمتع بكامل الحقوق ويتساوى مع أخيه الإنسان الصحيح البنية. من هنا فهو يستحق أن يعطى الفرصة كسائر اللبنانيين. ومهما فعلنا نبقى مقصرين في حقهم، يختم بو لحدو.

انقاذ المنازل الاثرية
في مدينة جونية أكثر من مئة بيت أثري تقع في غالبيّتها على شاطىء البحر. ولولا تصنيف المدينة بالقديمة والأثرية والتزام البلدية بقرار منع مالكي البيوت من هدمها لكانت الكارثة حلت. فالقرار هنا واضح: «بيوت جونية ترمم ولا تهدم». مع ذلك ثمة من يحاول التحايل عليه. مصادر داخل القصر البلدي اوضحت أن بعض المالكين لا يستحصلون على أية رخصة لترميم بيوتهم، ويعملون على العبث بها ليلاً. لكن البلدية تتعامل بحزم مع هذه المسألة ومن يقدم على هدم بيت أثري، توضع إشارة على عقاره فلا يعود بإمكان صاحبه التصرف به أو إنشاء بناء عليه. وكل من يرغب في ترميم منزله يحصل على رخصة بذلك من البلدية والمديرية العامة للآثار، وذلك بعد تقديم ملف كامل يتضمن الخريطة التي سيجري الترميم على أساسها والمعايير الفنية والهندسية التي ستعتمد خلال الترميم، على أن يدرس الملف قبل إعطاء رخص الترميم. أما بالنسبة إلى البيوت الأثرية التي تعرضت للإنهيار والإهمال، فتعمد البلدية إلى إنذار أصحابها بضرورة صيانتها، وإذا لم يمتثلوا لذلك، يجيز القانون للبلدية أن ترممها على نفقتها الخاصة، على أن تطالب المالكين بالمال بعد ذلك.
إشارة إلى أن البلدية استملكت في سوق جونية القديم بناء أثرياً كان صاحبه استحصل على رخصة غير قانونية أجازت له بناء سبع طبقات فوق البناء الأثري. وعمدت البلدية الى إزالة المخالفة، على أن تبدأ بأشغال الترميم قريباً. ومن المقرر أن تقوم البلدية بإعادة مسح البيوت الأثرية تمهيداً لإدراجها على لائحة الجرد العام للبيوت الأثرية، وذلك بالتعاون مع مديرية الآثار.
22 حزيران (يونيو) اطلقت جونية أسهمها النارية تحت أقدام سيدة لبنان وأنارت الخليج بأضواء طاولت عتمته، معلن
ة في ذلك انطلاق مهرجاناتها الصيفية التي وضعتها وزارة الثقافة على اللائحة الدولية. والبرنامج الذي يفتتح بالفنان العالمي ميشال ساردو، واللبناني راغب علامة في الليلة التالية، دليل على أن الحياة في جونية اتخذت طابعاً مميزاً هذه السنة. فهل ثمة من يشكك بعد بانكفاء ليالي السهر في جونية؟.

جومانا نصر

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق