سياسة لبنانية

«التسوية الرئاسية» لم تنضج بعد… و«حزب الله» رفع البطاقة الحمراء

عندما حدد الرئيس نبيه بري موعداً جديداً لجلسة انتخاب رئيس للجمهورية في 16 كانون الجاري مقلّصاً المسافة الزمنية الفاصلة بين جلستين من شهر الى أسبوعين، إنما فعل ذلك من خلفية أن التسوية الرئاسية التي جرى إبرامها في باريس بين الحريري وفرنجية أوجدت واقعا جديدا وأطلقت دينامية سياسية -رئاسية يمكن أن تفضي الى انتخاب الرئيس (فرنجية) في القريب العاجل، وأن مهلة الأسبوعين ستكون كافية لتذليل واستيعاب العقبات والاعتراضات التي تعد طبيعية ومفهومة ويمكن أن تحدث في أي «مخاض رئاسي»…
بدا الرئيس بري مستعجلاً مثله مثل الحريري وجنبلاط على إتمام التسوية سريعاً والاستفادة من «الصدمة» التي أحدثتها ومن حال الأمر الواقع الذي أوجدته. ولكن الاندفاعة التي حصلت، إثر الكشف عن لقاء باريس والتفاهمات التي أبرمت خلاله ووصلت مفاعيلها الفورية الى لبنان لتقلب المشهد الرئاسي رأساً على عقب، تراجع زخمها وتوقفت عند هذا الحد، وسادت حالة ارتباك و«تشوش»، وحل الحذر والغموض والترقب والتريث محل الوضوح والارتياح والاندفاع… ولكن ما هو واضح أن سليمان فرنجية تحول الى معطى رئاسي جديد وثابت ولكن انتخابه، فيما لو قدر له أن يحصل، ليس سهلاً ولا سريعاً… وما هو واضح أن ما بعد ترشيح فرنجية سواء نجحت التسوية أم فشلت، لن يكون مثل ما قبله، بمعنى أن العودة الى المربع الرئاسي السابق، أي معركة ما بين مرشحي 8 و14 آذار، لم تعد ممكنة. فالمعركة الآن أضحت بين عون وفرنجية في موازاة تبدد الفوارق والمسافات بين 8 و14 آذار وحدوث تداخل واختلاط وخلط للأوراق… فإذا تعذر انتخاب أي منهما سيكون الانتقال الى مربع الرئيس التوافقي ولكن بعد تمديد فترة الشغور والفراغ في رئاسة الجمهورية لأشهر إضافية…
ما حدث وأدى الى توقف عملية تنفيذ اتفاق الحريري – فرنجية أنه مقابل الدينامية الخارجية التي رفدت هذا الاتفاق، ظهرت كمية من الاعتراضات والتحفظات الداخلية التي لا يستهان بها وكانت كافية للتأني والتريث بعدما ظهر أن التسوية يلزمها المزيد من الوقت والجهد… ويمكن إيجاز العقبات الداخلية في اثنتين أساسيتين:
الأولى: الحالة الاعتراضية المسيحية، حيث حصل تقاطع موضوعي بين عون وجعجع على رفض هذه التسوية ولأسباب مختلفة ومتشابهة في آن. فالتسوية أصابتهما معاً وستكون على حسابهما… عون يشعر أن حليفه فرنجية أخذه على حين غفلة وأبرم اتفاقا مع الحريري من وراء ظهره، وجعجع يشعر أن حليفه الحريري طعنه وأخلّ بموجبات العلاقة التحالفية في إطار 14 آذار في استحقاق يعني المسيحيين أولا ويعني جعجع بصفته السياسية (القيادية) والرئاسية (مرشح 14 آذار).
قبل 27 عاماً واجه جعجع وعون وضعاً مماثلاً عندما طرحت معادلة مخايل الضاهر أو الفوضى، فكان أن تصديا سوية وقطعا الطريق على الضاهر ولكن انتهى الأمر الى فراغ الرئاسة… اليوم تبرز معادلة (صاغها أحمد الحريري): «فرنجية… أو الدم» (الحرب الأهلية)… والتصدي المشترك مطروح الآن لإسقاط هذه التسوية التي لم يشاركا في صوغها، ولكن الظروف وموازين القوى تبدلت ونقطة الضعف أو النقص في هذه المعركة المشتركة أن الاتفاق بينهما ما زال سلبياً (ضد فرنجية وضد قانون الستين) ولم يصبح إيجابياً، بمعنى الاتفاق على بديل عن فرنجية وعلى قانون انتخاب جديد…
الثانية: البطاقة الحمراء التي رفعها حزب الله في وجه هذه الصفقة غير المكتملة في ظروفها وبنودها. ويمكن القول إن حزب الله هو من أوقف تنفيذ هذه التسوية لإدخال تعديلات عليها، إذ لا يكفي أن تكون تسوية لإيصال فرنجية الى رئاسة الجمهورية والحريري الى رئاسة الحكومة لأن الأزمة أعمق وأبعد من ذلك بكثير والفراغ الرئاسي هو نتيجة وليس سبباً…
حزب الله لا يتخلى عن عون، حليفاً سياسياً ومرشحاً رئاسياً، وإذا خيّر بين رئاسة الجمهورية، حتى لو كانت لفرنجية، وبين عون، لاختار عون… ولدى حزب الله  ملاحظات قوية على الطريقة التي تصرف بها فرنجية مع الحريري عندما ذهب أبعد من اللازم في الاتفاق معه، والتي تصرف فيها أيضاً مع عون عندما أهمله وتجاهل أنه ممر إلزامي للرئاسة. وحزب الله لا يرفض التسوية بالمطلق وإنما يريد إعادة إنتاجها بما يؤدي الى إعادة إنتاج النظام السياسي الذي يشكو منه ومن عدم تناسبه مع الواقع على الأرض وميزان القوى في لبنان والمنطقة… ولا يريد تسوية تؤدي فقط الى إعادة إنتاج الطبقة السياسية التي حكمت لبنان منذ الطائف قبل 25 عاماً عندما لم يكن حزب الله قد وجد بعد ولم يكن رقماً صعباً و«لاعباً إقليمياً».
إذا كان «ترشيح» الرئيس سعد الحريري رئيس تيار المردة سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية في إطار اتفاق يوصله هو الى رئاسة الحكومة مفاجأة غير متوقعة عند البعض وغير مستحبة عند البعض الآخر… فإن موقف حزب الله من هذين «الاتفاق والترشيح» شكل المفاجأة الثانية التي لا تقل وقعاً وأهمية… فإذا  كان أحداً لم يكن يتوقع أن يكون فرنجية مرشح الحريري للرئاسة، فإن أحداً لم يتوقع أن تكون ردة فعل حزب الله على وصول حليفه فرنجية الى رئاسة الجمهورية على هذا النحو من عدم الحماس وعدم الترحيب ومن الصمت البليغ الذي ينضح تحفظاً وتشكيكاً وتوجسا…
مما لا شك فيه أن حزب الله ليس لديه أدنى شك في شخص فرنجية وخياراته السياسية والتزامه المطلق بخط المقاومة. ومما لا شك فيه أيضاً أن حزب الله ليس لديه رفض لمبدأ التسوية وهو الذي كان دعا إليها بإلحاح وجدية على لسان السيد حسن نصرالله… ولكن من الواضح أن حزب الله غير منخرط حتى الساعة في هذه التسوية ولا يفعل شيئا لدفعها وتسهيل أمورها، لا بل لديه تحفظات قوية على طريقة «تركيبها» وإدارتها وتسويقها، ولديه شكوك في خلفياتها وفي أن تنطوي على «قطب مخفية» أو أهداف مبيتة… وهذا الموقف يعبّر عنه حزب الله بالاستمرار في التمسك بمرشحه العماد عون وترك حرية القرار له. وهذا وحده كافٍ لوقف عملية تنفيذ الاتفاق بدءاً من انتخاب فرنجية رئيساً طالما أن «النصاب السياسي» لجلسة الانتخاب غير متوافر، حتى لو أن فرنجية بات رئيساً (من الناحية النظرية أو على الورق) مع حصوله حتى الآن على 68 صوتاً على الأقل.

أوساط سياسية مطلعة على أجواء حزب الله و«خفاياه» تقول إن موقفه مرده الى جملة أسباب وعوامل أبرزها:
1- التزام حزب الله بالعماد عون وبالعلاقة التحالفية معه والتمسك به مرشحاً لرئاسة الجمهورية طالما هو مرشح ولم يقرر الانسحاب لمصلحة أحد. هذا التزام أخلاقي بالدرجة الأولى وترجمة لقول نصرالله ذات يوم: إن دين عون سيبقى في عنقه الى يوم الدين»، ولكنه أيضاً التزام سياسي واستراتيجي لأن الحزب مدرك لأهمية عون ودوره في خلق حالة مسيحية جديدة مؤيدة للمقاومة، ولا يرى أن هناك على الساحة المسيحية من نجح في ذلك أو من هو قادر على أن يحل محل عون ويقوم مقامه. وبالتالي فإن حزب الله ليس في وارد التدخل لدى عون وممارسة ضغوط عليه للانسحاب لمصلحة فرنجية، وهو مع عون في أي قرار يتخذه بما في ذلك الاستمرار في الترشيح، وحتى لو أدى الأمر الى خسارة فرصة وصول الحليف الآخر فرنجية الى رئاسة الجمهورية. وبين رئاسة الجمهورية حتى لو استمرت فارغة، وميشال عون حتى لو لم يصبح رئيسا وتعذر ذلك، فإن حزب الله مع الخيار الثاني.
2- الطريقة التي تصرف بها النائب سليمان فرنجية ولا تخلو من أخطاء في التقدير والتصرف و«السلوك» سواء مع الحريري أو تجاه عون… من جهة ذهب فرنجية بعيداً في لقائه الباريسي، إذ إنه كان حظي بضوء أخضر من حزب الله للقاء الحريري والوقوف على ما لديه ومع التزام الحذر، ولم يكن فرنجية يحمل تفويضاً لإبرام اتفاق مع الحريري يتطلب الكثير من الدقة والعناية… من جهة أخرى، تصرف فرنجية مع عون بشيء من «الاستخفاف والإهمال». لم يقم وزنا لمعادلة «الممر الإلزامي» وأن طريقه الى بعبدا تمر عبر الرابية، أو ربما يكون راهن على حزب الله وترك له مهمة تذليل عقدة عون… والنتيجة كانت أن فرنجية بالغ في تضخيم دور الحريري وفي تقدير أنه هو الذي يأتي به رئيساً، مثلما بالغ في «تحجيم» دور عون وفي تقدير أن بإمكانه الوصول معه أو من دونه…
3- الإطار العام الذي يصل من ضمنه فرنجية الى رئاسة الجمهورية. فمن جهة يصل «تحت هيمنة» الحريري وجنبلاط، ومن جهة ثانية يصل عبر الباب السعودي في وقت ترسل السعودية إشارات متكررة بأن حربها المفتوحة مع حزب الله، فتدرج قيادييه على لائحة الإرهاب وتحجب فضائية «المنار» عن «عربسات». وهذا التوجه السعودي يثير قلق وغضب حزب الله ويدفعه أكثر الى التساؤل عن موقف السعودية من موضوع فرنجية وما ترمي إليه من وراء ذلك.
4- حزب الله مع «التسوية الشاملة». هو لا يرى أن الأزمة تكمن فقط في عدم وجود رئيس للجمهورية وفي عدم عودة الحريري الى لبنان والى رئاسة الحكومة، ولا يرى أن الحل يكون فقط بمعادلة «فرنجية مقابل الحريري»… وإنما يرهن انتخاب الرئيس حتى لو كان فرنجية وعودة الحريري بـ «التسوية الشاملة» التي في صلبها قانون انتخابات على قاعدة النسبية… إضافة الى أمور أخرى تتصل ببرنامج وسياسة الحكومة وتوازناتها، وربما تتجاوز السلطة وتلامس النظام بما يضمن وضعاً أفضل ونفوذاً أقوى للشيعة بما يتناسب مع حجمهم الواقعي ويعكس ميزان القوى على الأرض… حزب الله لا يريد الانتظار ست سنوات في ظل معادلة فرنجية – الحريري من دون ضمانات «فعلية قانونية ودستورية» تتعلق بالوضع الشيعي الذي يستمد قوته من عاملين: حزب الله وسلاحه والرئيس بري ووجوده في رئاسة المجلس منذ 25 عاماً. هذا هو الواقع ولكن من يضمن استمراره؟!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق