الأسبوع الثقافي

جنى نصرالله «تفجر» هواجس العمر في «النوم الابيض»

«النوم الابيض» لـلكاتبة والصحافية اللبنانية جنى نصرالله رواية تحطم التابوهات وتشحذ القارئ بهواجس البطلة وقلقها الوجودي.

الأرق، الكوابيس، الهواجس الليلية، الخوف من الرحيل وسواها من الحالات النفسية القلقة، حولت «النوم الأبيض»، وهو اسم الرواية، الى رغبة مشتهاة عند البطلة التي «داهمتها هواجس العمر. استوطنت فيها. باتت تخيفها السرعة التي تنقضي بها الأيام والليالي والأعوام. تقول ان العمر كذبة، وليس غفلة».
 
هي أصلاً إمرأة وحيدة
«النوم الأبيض» وهو العمل الروائي الأول للزميلة جنى نصرالله عن دار رياض الريس للكتب والنشر، يأخذنا الى يوميات إمرأة، صحافية مع وقف التنفيذ كما تصف البطلة نفسها، في عقدها الرابع، تعاني من الوحدة التي هي اختيارية في جزء منها او نتيجة طبيعية لخيارات أقدمت عليها في حياتها. «لا تذكر تماماً متى إنكفأت عن الحياة وصارت تمضي معظم أوقاتها وحيدة. هي أصلاً إمرأة وحيدة. والداها المتوفيان لم ينجبا سواها. الرجل الذي تساكنه منشغل معظم الأوقات بأعماله وأسفاره. ليس عندهما أولاد، فهذا ما اتفقا عليه وأراداه منذ بداية علاقتهما. تساقط معظم أصدقائها مثل أوراق الخريف على درب حياتها. لا قيمة لكل هذه التفاصيل ما دامت هي الآن وحيدة».
هذه الوحدة التي شكلت مدخلاً للحديث عن الصداقة ومعانيها وخيباتها، عن المهنة وإحباطاتها، عن الرفاق الذين تتبدل اهواؤهم وقناعاتهم بحسب وجهة الريح وسواها من القضايا التي تعبر عنها الروائية نصرالله من خلال بطلة لا اسم لها، تكتب قصتها كاتبة وصحافية ايضاً لكنها لا تزال تمارس المهنة خلافاً للبطلة، أسمها نوى، مما يضعنا امام ثلاثة مستويات من العمل السردي، وأمام جيل من النساء تجسدهن نصرالله من خلال الكاتبة وبطلتها.

ليست من المعجبات بـ «نون النسوة»
بلغة سلسلة وأسلوب ساخر ونقد لاذع ميّز في الأساس كتاباتها الصحافية، تدخلنا نصرالله الى عوالم المرأة، ليس من باب المدافع عن حقوقها وخصوصاً أنها «ليست من المعجبات بـ «نون النسوة» وفق ما تقول على لسان الكاتبة نوى، بل بوصفها مخلوقاً بشرياً كما تشير في سياق آخر في الرواية يعيش هاجس العمر الذي منه تتوالد هواجس أخرى منها الشهرة والموت والخوف من الغياب والنسيان.
وهذه الهواجس إنسانية في الدرجة الأولى ولا تخص المرأة وحدها بل الرجل أيضاً وإن يأتي التعبير عنها على لسان البطلة. وتحرص نصرالله على ان تشير الى ذلك بشكل واضح، ولا تتركه لإستنتاج القارىء حين تقول الكاتبة نوى «(…) إقتحمت ذاكرتها مجموعة رجال آخرين، منهم من يصبغ شعره أيضاً ومنهم من يحلقه كلياً ليتحايل على الصلع. من قال ان الرجال لا يخشون التقدم في السن؟ وماذا عن الرجال؟ هؤلاء أيضاً يلجأون إلى البوتوكس لإخفاء معالم الشيخوخة. هي تعرف الكثير من الرجال ممن لا يفصحون عن أعمارهم، يصلون إلى عتبة الخمسين ويقفون هناك (…)».

«هذه ليست أزمة منتصف العمر، بل هو إنقضاء العمر…»
ليس في «النوم الأبيض» الكثير من الأحداث ولا يتعدى عدد الشخصيات الأربعة وهم البطلة وشريكها الذي تساكنه، صديقها «النجم التلفزيوني» وصديقتها. يأتي غياب الأحداث ليماشى بل ليكرس فكرة الوحدة التي تقض مضجع البطلة وتحول نهارها كما ليلها الى فضاء من الأسئلة الوجودية التي تبقى في معظم الأحيان بلا أجوبة. وكأن الروائية أرادت ان تنقل هذه الهواجس إلى القارىء – وقد نجحت بذلك – وتدفعه للبحث عن الإجابات بنفسه والأهم، لنفسه.
إستعاضت الروائية نصرالله عن الأحداث بتكثيف الأفكار والأسئلة والغوص عميقاً في الحالات النفسية التي تعتري المرأة كما الرجل من دون ان تكون رواية عن الرجل او عن المرأة بل عن الإنسان. غاصت عميقاً في الذاكرة واسترجعت أحداثاً واشخاصاً وحالات وظفتها لتعزز هواجس بطلتها التي تعيش ازمة العمر «هذه ليست أزمة منتصف العمر، بل هو إنقضاء العمر، الذي لا ندرك أنه يسيل كالماء الا مع تقدمنا في السن».

«بطلتي تعشق الجنس، تقدره، لا بل تقدسه، ولكنها لا تتحدث عنه…»
رواية «النوم الأبيض»، جريئة في كسر التابوهات لا بل في تحطيمها. تقارب مواضيع الزواج والطلاق والخيانة والجنس من دون ان تسقط في الابتزال. لا بل تعلن الروائية موقفها من ذلك في الصفحات الأولى من الرواية من خلال الملاحظة التي دونتها الكاتبة نوى «بطلتي تعشق الجنس، تقدره، لا بل تقدسه، ولكنها لا تتحدث عنه، لأنها تفقد رغبتها في الجنس حين يصبح مثل الغسيل المنشور على سطوح الأبنية. لن تخبر عن حياتها الجنسية أحداً. لا بل تشعر بالغثيان حين تسمع أحدهم يتحدث عن الموضوع. بطلتي ليست من هذا النوع. ولا أخشى أن يتهم أدبي بالمحافظ».

جرأة وخفر
هناك جرأة في الأفكار بقدر ما هناك خفر في الخوض في التفاصيل الجنسية. ولا يبدو هذا التمييز عفوياً، بل هو مقصود ارادت من خلاله نصرالله التأكيد على أن الحديث عن الجنس ليس مرادفاً للجرأة كما يظن البعض ويصر على ان يقدم أدبه من هذا المنطلق، «(…) وعندها يرتقي أدبي الى مستوى الأدب الجريء! إذ لا جرأة من دون جنس، ولا جنس من دون عضو ذكري منتصب بشكل يختلف عن كل الانتصابات التي خبرها الرجال الآخرون عبر العصور، وفرج يقطر شهوة ورغبة، وجسدين تهز رعشتهما الكرة الأرضية».
قد لا يبدو القالب الذي اخرجت فيه نصرالله روايتها جديداً، بل هو مألوف: كاتبة تكتب رواية. ورغم ان اختيار هذا النمط محفوف بخطر السقوط في النمطية، الا انها نجحت في خلق اشكالية مشوقة بين الكاتبة والبطلة وكانت تعرف في كل مرة كيف تتجاوز فخ السقوط في التكرار فتفاجىء القارىء بتعقيد جديد لم يخطر في باله. ولعل أكثر ما ساعدها في ذلك هو قدرتها على التفصيل والوصف الدقيق الذي يشعر القارىء في كثير من الأحيان انه يشاهد فيلما سينمائيا.  
«النوم الأبيض»، روايتان في رواية، لا بل عالمان : عالم الكاتبة نوى الرتيب والممل، وعالم بطلتها الوهمي في ناسه واحداثه والحقيقي في مشاعره وأحاسيسه وخيباته وهواجسه. ولكنهما ليسا عالمين منفصلين ولا هما روايتين مستقلتين، بل عالم واحد في رواية واحدة تمسك نصرالله خيوطها المتشعبة والمتشابكة وتديرها بإسلوب جذاب يأسر القارىء حتى السطر الأخير.

– توقع الزميلة جنى نصرالله روايتها «النوم الأبيض» السبت في 5 كانون الأول (ديسمبر) في جناح دار رياض الريس للكتب والنشر في معرض الكتاب في البيال بين الساعة السادسة والتاسعة مساء.
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق