سياسة عربية

كيف صارت مدينة الرقة الوادعة عاصمة لخلافة «داعش»؟!

الرقة، المدينة السورية التي بالكاد سمع بها الناس خارج سوريا اصبحت بين ليلة وضحاها على كل شفة ولسان لا لسبب سوى انها اصبحت مقترنة بذبح الصحفيين والرهائن الاجانب والنحر والصلب والقتل في الساحات العامة، بعد ان حولها تنظيم «الدولة الاسلامية» الى عاصمة له.

الرقة هي مركز محافظة تحمل الاسم عينه، وهي ثالث اكبر محافظة سورية من حيث المساحة، وتقع الى الشمال الشرقي من البلاد وتمتد الى الحدود مع تركيا وكان لها معبر حدودي مع تركيا (تل ابيض) قبل استيلاء الاكراد عليه قبل اشهر قليلة، وتبعد عن مدينة حلب حوالي 200 كم.
والى الشرق من المدينة هناك منطقة شبه صحرواية مترامية الاطراف تصل الى غربي العراق، منطقة نفوذ التنظيم وقاعدته الاصلية قبل ان يوسع نشاطه الى سوريا بعد فترة قصيرة من بداية الازمة السورية عام 2011.
هذا الانفتاح على غرب العراق يسمح للتنظيم بالتحرك بحرية في هذه الصحراء المترامية الاطراف، مستفيداً من معرفة عميقة بهذه المنطقة تمتد الى فترة قيادة «الدولة الاسلامية في العراق» العمل المسلح ضد القوات الاميركية والعراقية في اعقاب الغزو الاميركي للعراق.
كان عدد سكان محافظة الرقة قبل اندلاع الاحداث في سوريا اقل من مليون شخص وعدد سكان المدينة اقل من 200 الف شخص. ومن اشهر مدنها الى جانب مركز المحافظة، الطبقة، وتل ابيض وسلوك ومعدان وعين عيسى.

التحول الكبير
الى جانب سكان المدينة الاصليين توافد عشرات الالاف الى المدينة من مختلف المحافظات السورية في اواخر الثمانينيات من القرن الماضي مع انطلاق مشاريع زراعية كبيرة في المحافظة بعد دخول اكبر السدود المائية في سوريا قيد الخدمة في المحافظة.
فقد شهدت المدينة تغيراً اجتماعياً كبيراً فباتت المدينة اشبه بسوريا مصغرة يعيش فيها العلوي والكردي والارمني والبدوي. لكن المناصب الرئيسية في المدينة ظلت بيد الوافدين وخصوصاً ابناء الساحل السوري، اما ابناء المحافظة الاصليون فبقوا فلاحين ومزارعين وحافظوا على روابطهم العشائرية، دون ان يلمسوا تحسناً يذكر في مستوى حياتهم.
المحافظة كانت من اكبر منتجي القمح والقطن في سوريا حتى فترة قريبة بفضل مشاريع استصلاح الاراضي والري التي اقيمت في المحافظة في القرن الماضي، وكان فيها مصنع لانتاج السكر من الشمندر السكري لكن المصنع تعرض للتدمير خلال المعارك بين الحكومة والمعارضة.
مع نزوح وهجرة اكثر من نصف سكان سوريا منذ اندلاع الأزمة السورية لا يعرف بالتحديد عدد السكان الذين لا يزالون يعيشون في الرقة في الوقت الحالي، لكن حتماً ما زال هناك عشرات الالاف من ابناء المدينة الاصليين ومن ابناء المدن الاخرى التي نزحوا اليها لسبب او لآخر يعيشون تحت سلطة تنظيم «الدولة الاسلامية» التي يعيش في مناطقه نحو 8 ملايين شخص في سوريا والعراق.

عاصمة لـ «خلافة» أبو بكر البغدادي
عندما قرر تنظيم «الدولة الاسلامية» تحويل الرقة الى عاصمة لدولته لم يكن يدور ببال ابناء المدينة انه المدينة البسيطة الواقعة على ضفاف نهر الفرات ستتحول الى الهدف الاول لغارات جوية لا تحصى ومقصداً لالاف «الجهاديين» القادمين من اكثر من 80 بلداً، تلبية لدعوة «خليفة» التنظيم ابو بكر البغدادي للنفير الى «دولة الخلافة». ويبدو أن للتنظيم حسابات اخرى عندما حولها الى عاصمته، حيث تقع على تقاطع طرق توصل المدينة الى شمالي البلاد وغربه وشرقه.
فبعد ان قضى التنظيم على القوى المنافسة له في المحافظة مع بداية عام 2014 رتب الامور في المدينة واقام ادارة تهتم بشؤون المدينة والحياة اليومية للسكان، واقام فيها قواعده ومعسكرات للتدريب ومقرات لسكن مقاتليه السوريين والاجانب.
فشرطة «الحسبة» تتولى تنفيذ تعليمات وقرارات التنظيم، حيث تجوب شوارع المدينة مثل غيرها من المدن والبلدات التي يسيطر عليها في سيارات خاصة ومن بين مهامها التأكد من التزام الرجال باللباس الشرعي وضبط الاسعار وفرض الغرامات وجبايتها، بينما تتولى كتيبة «الخنساء» التي تضم فقط النساء من عناصر التنظيم معاقبة النساء اللواتي لا يلتزمن بارتداء النقاب الفضفاض أو الخروج من المنزل من دون مرافقة محرم.
ترزح المدينة تحت سطوة التنظيم الذي يتبع سياسة الترويع والعنف الشديد بحق مخالفيه من المعارضين سواء من عناصر المعارضة المسلحة ام النشطاء المدنيين، حيث شهدت المدينة عمليات ذبح واعدامات جماعية على مرأى الناس في الساحات العامة، بهدف بث الرعب في اوساط المجتمع الذي يحكمه والقضاء حتى على امكانية تفكير الناس بمعارضته، مما حدا بالمعترضين على ممارساته الى الفرار بجلدهم من المدينة، فمن لا يذكر مصير ابناء عشيرة الشعيطات التي تصدت لتوسع التنظيم في ريف دير الزور، فكان مصيرهم التهجير من قراهم واعدام نحو 700 شاب ورجل من ابنائها، في اكبر عملية اعدام جماعي في سوريا.
استفاد التنظيم من البنية القبلية السائدة في الرقة وريفها، حيث قام بشراء ولاء شيوخ العشائر والقبائل سواء بالترهيب أو بالترغيب، وحيدهم في الصراع الذي خاضه ضد الجماعات المسلحة الاخرى وبات «امراء» التنظيم من الجنسيات العربية لهم الكلمة الاعلى في ادارة شؤون المدينة والتنظيم بعد ان استتبت الاوضاع له.
فحسب شهادة ثلاثة من النساء السوريات اللواتي كن عناصر في «كتيبة الخنساء» كما جاء في مقالة نشرت في صحيفة «نيويورك تايمز الاميركية» في 21/11/2015 اصدر التنظيم امراً مشدداً بمنع الاختلاط بين عناصره الاجانب والسوريين بمن فيهم النساء الاجنبيات الملتحقات بالتنظيم بعد انتشار الشائعات في المدينة بأن الاجانب يتمتعون بامتيازات اكبر من السوريين مما يؤثر سلباً على سمعة التنظيم لدى الناس.
وحسب شهادة احداهن فان «النساء الاجنبيات في التنظيم يفعلن ما يحلو لهن ويتحركن بمنتهى الحرية» واضافت اخرى ان السوريين في المدينة اصبحوا مواطنين من الدرجة الثانية وانها لم تعد ترى الوجوه التي كانت مألوفة في المدينة، فقد بات الغرباء هم الاكثرية.
فرض التنظيم مؤخراً التجنيد الاجباري على الشبان في المناطق التي تخضع لسيطرته وقيد حركة نزوح المدنيين من مناطقه.
إن تجربة تحرير مدينتي عين العرب – كوباني السورية وسنجار في العراق من سيطرة التنظيم، وهما مدينتان هجرهما ساكنوهما مع وصول التنظيم اليهما، تدل على ان التنظيم لن يسلم المدن التي يسيطر عليها بسهولة ولن يخرج منها الا بعد ان تتحول الى كتلة من الركام بفعل القصف الجوي العنيف من قبل طائرات التحالف الغربي.
فهل سيكون لمدينة الرقة مصير غير ذلك عندما تحين ساعة تحريرها من قبضة التنظيم؟

بي بي سي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق