رئيسيسياسة عربية

العراق: حرب مفتوحة مع الارهاب

خلال الاسبوع الماضي، وضعت لجنة الامن في البرلمان العراقي، التصعيد الامني الحاصل على الاراضي العراقية، على نحو غير مسبوق، على مشرحة الدرس بحثاً عن حلول، لكن اللافت ان اللجنة انتهت الى بيان ينطوي على يأس وقنوط من امكان فعل شيء جذري يضع حداً لمسلسل العنف والقتل والتدمير المتمادي، خصوصاً في الاشهر التسعة الماضية، اذ قالت في بيانها انها تستبعد «انهاء الحرب المفتوحة مع الارهابيين»، خلال موعد منظور.

 لم يكن استنتاج اللجنة الا انعكاساً لواقع حال مرير، وترجمة لعجز السلطات الامنية العراقية عن الوفاء بما سبق وتعهدت به في الآونة الاخيرة، لجهة كبح جماح الارهابيين ومنعهم من تصعيد اعمالهم الارهابية على نحو اعاد بذاكرة الكثير من العراقيين الى فترة «الاحتراب» الاهلي الموصوف بين عامي 2006 و2008، وبالتالي صار مقدراً على العراقيين على اختلاف انتماءاتهم ومذاهبهم ان «يتعايشوا» قسراً مع مرحلة العنف الدامي التي تصاعدت ولا ريب بعد اشتداد رياح العنف والقتل في الساحة السورية المجاورة.
فلم يعد خافياً ان الحكومة العراقية شرعت منذ اشهر عدة في إعداد حملات عسكرية وسياسية تحت عنوان «احتواء» الهجوم الارهابي الجديد المتصاعد بوتيرة عالية على لهيب تصاعد النيران في الساحة السورية.
فالمعلوم ان رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي اعطى اوامره للقوى الامنية العراقية بالقيام بحملة لتطهير محيط بغداد من مجموعات تنظيم «القاعدة» التي عادت على شكل خلايا وفرق صغيرة وشرعت بالتسلل الى داخل بعض الاحياء البغدادية والى التمركز في محيط العاصمة على غرار التجارب السابقة على نحو يسمح بإقامة قواعد ارتكاز ومعسكرات انطلاق تكون بمنأى عن نظر السلطات الامنية العراقية او ان يد هذه السلطات تعجز عن مطاولتها.

تدابير حماية
لا بد من الاشارة الى ان الاجهزة الامنية العراقية المختصة، دفعت بقوات من النخبة وبغطاء من الطيران الحربي لانجاز هذه العملية وانجاحها، وذلك تحت شعار توفير حماية العاصمة وتأمين حائط دفاعي حولها. وحسب المعلومات فإن الحملة الامنية الرسمية العراقية على محيط بغداد، نجحت في حصد بعض الانجازات، اذ قبضت على مجموعات من رؤوس تنظيم «القاعدة» وبعض الهاربين من سجني التاجي وابو غريب ونجحت ايضاً في تفكيك وكشف العديد من الخلايا الارهابية النائمة والجاهزة، ولكنها لم تنجح في تحقيق كامل بنك الاهداف لهذه العملية، بدليل ان العمليات التفجيرية استمرت اكثر ما يكون في قلب العاصمة، ولا سيما في احيائها المكتظة وكان ابرزها التفجير الانتحاري في مجلس عزاء في مدينة الصدر والذي ادى الى سقوط ما لا يقل عن 75 قتيلاً واكثر من 250 جريحاً، ولاول مرة منذ سنوات طاولت التفجيرات المناطق الكردية التي تتمتع بالحكم الذاتي.
وعلى نحو متزامن مع عملية محيط العاصمة التي اطلق عليها اسم  «ثأر الشهداء» بدأت القوات الامنية العراقية عملية مماثلة في محافظة الانبار وخصوصاً في المناطق الحدودية مع سوريا.
ولم تخف الحكومة العراقية في ذلك الحين انها ارادت من وراء تجريد هذه الحملة ان تقطع شرايين وقنوات الاتصال والتواصل بين المجموعات الارهابية التي تعمل داخل الاراضي السورية، وتلك المتمركزة على الجانب العراقي من الحدود، وذلك درءاً لمخاطر امنية ولا ريب، وتحاشياً لانعكاسات سلبية مستقبلية، ولا سيما بعدما برزت الى الواجهة منظمة «دولة العراق والشام الاسلامية» والتي وضعت نصب اعينها تحقيق ربط ميداني واضح بين الاراضي السورية والعراقية لاقامة امارة صارت بالنسبة اليها دانية القطوف، وخصوصاً بعدما اعادت تفعيل حراكها الميداني في جزء من الاراضي العراقية، بالتوازي مع تحقيقها نجاحات ميدانية سريعة في مناطق عدة في سوريا ولا سيما في الشمال السوري.
ولا ريب في ان الحملة العسكرية العراقية في تلك المناطق الحدودية، حصدت ايضاً بعض الانجازات ولا سيما لجهة اعاقة عبور المجموعات الارهابية من العراق الى خارجه، لكنها ايضاً لم تنجح في حسم الموقف، وبالتالي تدمير الجسور والمعابر بين المجموعات العاملة داخل الاراضي السورية، وتلك المتخذة من بعض المناطق العراقية قواعد ونقاط ارتكاز، بدليل ان هذه المجموعات كانت تبادر الى تصعيد ضرباتها الموجعة، بعد كل اعلان من جانب السلطة العراقية يتحدث عن نجاحها في توجيه الضربات للمجموعات الارهابية.

شراسة الارهابيين
واللافت ان المجموعات الارهابية كانت تظهر شراسة وجرأة في توجيه الضربات بدليل مهاجمتها خلال الاسبوع الماضي، منزل النائب المسيحي في البرلمان العراقي عماد يوحنا في مدينة كركوك، مما ادى الى سقوط ما لا يقل عن 50 جريحاً.
والواضح ان السلطات العراقية بدأت تمضي ايامها على هاجس توقع المزيد من العمليات الارهابية. فقد سرت في الآونة الاخيرة في الاوساط العراقية مقولة فحواها ان بغداد، تبحث عن 192 انتحارياً جندهم تنظيم «القاعدة» لتنفيذ عشرات العمليات الانتحارية في العاصمة، وانحاء مختلفة من العراق، وهو ما ارسى مخاوف لدى العراقيين من حصول موجة عنف جديدة ستستدعي ولا ريب ردود فعل عليها، مما يهدد بعودة مناخات الاحتراب الاهلي.
وفي هذا الاطار، ذكر ان الوقف السني زود الجهات المعنية لدى الحكومة العراقية، بتقارير مفصلة عن خلايا ارهابية تتخذ من بعض المساجد ملاذاً امناً لعقد اجتماعات واتفاقات وتوزيع المهمات.
وعمقت وزارة الدفاع العراقية من المخاوف لدى شرائح واسعة من الشعب العراقي عندما تحدثت عن القاء القبض على مجموعة ارهابية بحوزتها غاز السارين السام، وهي تقوم بتجارب لانتاج هذا الغاز.

رقم قياسي لعدد الضحايا
وفي المحصلة، فإن الاشهر القليلة الماضية سجلت رقماً قياسياً لعدد الضحايا الذين سقطوا من جراء تصاعد دورة العنف، اذ قتل منذ بداية شهر ايلول (سبتمبر) الماضي، حتى نهايته، 630 شخصاً، وسقط منذ مطلع العام الجاري ما يقارب 5 الاف قتيل، فضلاً عن اكثر من 8 آلاف جريح وهي نتائج كارثية بكل ما في الكلمة من معنى، كونها تضع البلاد على فوهة بركان حرب اهلية، فضلاً عن ان هذا الوضع قد بدد جهداً كبيراً بذلته الحكومة العراقية خلال الاعوام التي تلت عام 2008، لنقل البلاد الى مرحلة تخلو من انفجار الاحتراب الاهلي، وعودة رأس الفتنة الى البروز مجدداً، خصوصاً ان عدداً من المسؤولين العراقيين، صرحوا مراراً بأن صفحة الحرب الاهلية والفتنة الطائفية قد انطوت الى غير رجعة.
اما على المستوى السياسي الداخلي فقد بدأت الحكومة العراقية ايضاً حملة سياسية مكثفة لمواجهة ارتدادات العمليات الارهابية ومحاولة حصرها والحد من تأثيراتها، توجست اخيراً من توقيع معظم الكتل والقوى الممثلة في البرلمان العراقي لما سمي «وثيقة الشرف والسلم الاجتماعي».
وعلى المستوى الخارجي، اتبعت الحكومة العراقية نهجاً متدرجاً بدأ اولاً باطلاق المالكي جملة اتهامات لدول اقليمية بالضلوع في دعم وتحضير المجموعات الارهابية في بلاده، وقرن ذلك بتحذيرات من ارتدادات ونتائج هذا الفعل على كل دول المنطقة.
ثم بدأ المالكي مع بعض الرموز العراقية في حملة عنوانها العريض البحث عن صيغة تسوية للوضع في سوريا، من شأنها انهاء التوتر والتفجير، والمساهمة في خفض منسوب الاحتقان والتوتر في الداخل العراقي، وفتح الابواب الموصدة امام نجاح التسويات السياسية للازمة في بلاد الرافدين.
ولاحقاً بدأت بغداد عملية انفتاح على عواصم الجوار، عبر مبادرة حملها رئيس البرلمان العراقي اسامة النجيفي، بمباركة من باقي الكتل النيابية، الى المسؤولين في هذه العواصم. ورغم ان عنوان هذه المبادرة هو العمل على النأي بالوضع العراقي عن احداث المنطقة، وبالتالي عدم جعل الساحة العراقية صندوق بريد لتبادل الرسائل بين الاطراف والقوى المتصارعة، وحيال ذلك كله فإن العراق بات على «شفير الفتنة الطائفية» وفق تعبير المالكي في احد خطبه في الاونة الاخيرة، مقراً في تصريح اخر ان هناك اعمال قتل على الهوية وعلى الاسم وان «المجموعات الارهابية تأتي من الخارج ولكنها تجد متعاونين في الداخل».

 مسؤولية المالكي
ان المالكي بهذا الكلام يختصر جوهر اسباب التصعيد الاخير في الساحة العراقية، والذي دفع بالبلاد الى شفا الفتنة الطائفية، وهو ان الارهاب وافد من الخارج لكنه يجد بيئة حاضنة في الداخل العراقي.
وثمة من يرى ان المالكي نفسه يحمل مسؤولية اساسية في هذا الاهتزاز العميق للساحة العراقية الناجم عن التصاعد المريع لاعمال العنف المتخذة اشكالاً متعددة، ومنها اللبوس المذهبي كونه اهدر اعواماً عدة من دون ان يستكمل عمليات المصالحة الوطنية على نحو ينهي شكوى شريحة اساسية من العراقيين من التهميش والاقصاء، ويضع حداً لاتهامات الكثيرين له بالاستفراد بالحكم مما حال دون مضي العملية السياسية قدماً.
لذا كان بديهياً، ان تعود الساحة العراقية القهقرى الى سنوات ظن الكثيرون انها انطوت عند اول هبة ريح اتت من الخارج.
ولا بد ان ثمة في العراق من بات يرى ان الارهاب وممارسات الارهابيين صارت مرضاً لا شفاء منه في انتظار جلاء سير الاوضاع في سوريا وفي المنطقة عموماً، لذا كان امراً طبيعياً ان تبادر لجنة شؤون الامن في البرلمان العراقي الى رفع راية اليأس والاستسلام للامر الواقع والذي فحواه ان الحرب مع الارهاب مفتوحة.

ابرهيم بيرم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق