سياسة لبنانية

جنبلاط و«الامتحان الدرزي الأصعب»: كسر حدة الأزمة… من دون الخروج منها

بدأ وليد جنبلاط حياته السياسة مع «حرب الدروز في جبل لبنان»، هذه الحرب التي بنى زعامته وأمجاده عليها… اليوم، وبعدما أحال نفسه على التقاعد السياسي وسلم الزعامة الى نجله تيمور، ينهي جنبلاط حياته السياسية مع «حرب الدروز في جبل حوران». هذه الحرب التي ستترك بشكل أو بآخر أثراً على زعامة آل جنبلاط تبعاً لمسارها ونهاياتها…
التطورات الدرزية على الأرض السورية بدءاً من مجزرة قلب لوزة (إدلب)، باغتت جنبلاط وأربكته و«خربطت» حساباته، ولكنه تمالك نفسه وجهد في إبقاء الوضع الدرزي العام «تحت سيطرته» وتصدّى للأزمة المستجدة وألقى كل ثقله السياسي ووظف كل علاقاته الإقليمية لإخراج دروز سوريا من دائرة الخطر المحدق بهم، خطر أن يتحولوا الى ضحايا الصراع بين النظام والمعارضة وأن يدفعوا ثمن موقعهم الاستراتيجي المرجح في كفة الصراع ومعركة الجنوب (جنوب سوريا) مع أنهم أقلية.
تحرك جنبلاط في كل الاتجاهات: أرسل وفداً حزبياً برئاسة الوزير وائل أبو فاعور الى تركيا حيث التقى مسؤولين في الاستخبارات التركية وفي المعارضة السورية… أجرى اتصالات مع قطر عبر الرئيس سعد الحريري… أثار الموضوع مع السفير الأميركي في لبنان وتوجه الى الأردن لمقابلة الملك عبدالله الثاني… لا يترك جنبلاط باباً إلا يدقه ولا يترك وسيلة ضغط تصب في حماية الدروز وتحييدهم إلا ويلجأ إليها.
النتائج الأولية التي حققها جيدة قياساً الى حجم الأزمة الكبير والمهلة الزمنية القصيرة للتحرك. ومن هذه النتائج تعبير «جبهة النصرة» عن أسفها لما حدث وإصدار فصائل إسلامية بياناً وصفت فيه مجزرة ريف إدلب بأنها مخالفة لتعاليم الدين الإسلامي، وطالبت بتقديم جميع المتورطين الى محكمة شرعية محايدة… ومن النتائج أيضاً إعلان المعارضة السورية أنها أوقفت معركتها ضد مطار «الثعلة» العسكري لتطمين دروز السويداء وبأنهم غير مستهدفين، وإعلان رئيس الائتلاف السوري المعارض خالد خوجه أن حادثة إدلب مع الدروز لن تتكرر مرة ثانية… وبالإجمال توحي حركة جنبلاط معطوفة على حالة التعبئة والاستنفار التي شملت دول الانتشار الدرزي في لبنان وإسرائيل والأردن وكأن الدروز نجحوا في وضع خط أحمر حول «السويداء» الدرزية، شبيه بالخط الأحمر حول «كوباني» الكردية مع فارق أن الأكراد وضعوا هذا الخط بالدم وأن الدروز يرسمونه بالسياسة.
مع أن جنبلاط نجح في استيعاب الصدمة و«الموجة الأولى» للإعصار الدرزي في سوريا، إلا أن نجاحه ليس كافياً ولا نهائياً. فالأزمة كُسِرت حدتها وجرى تحجيم خطرها ولكنها ما تزال قائمة وقابلة لتطورات ومفاجآت سلبية… وجنبلاط ما زال في الامتحان الأصعب وفي السباق المرير بين الخيارات السياسية والواقع على الأرض، بين السياسة الساعية الى «التحييد والحماية» والواقع المتجه الى استدراج الدروز والزج بهم في معركة لا يريدونها ولم يختاروا مسرحها وتوقيتها.
في الواقع المستجد والمتصل بدروز السويداء ما يفيد:
1- اشتعال جبهة القنيطرة خصوصاً في بلدة «حضر» أكبر البلدات الدرزية في هذه المحافظة. ففي موازاة وقف معركة مطار الثعلة العسكري (لأسباب سياسية كما تقول المعارضة بهدف طمأنة الدروز أو لأسباب عسكرية كما يقول النظام بعدما هب الدروز في ردة فعل على المجزرة وقاتلوا الى جانب الجيش السوري)، فتحت «النصرة» وفصائل إسلامية معركة القنيطرة وشنت هجوماً مباغتاً على التلال الحمر لهدف مزدوج: فصل القنيطرة عن دمشق نهائيا وفتح طريق الإمداد الى ريف دمشق الغربي… ولكن هذه المعركة وضعت الدروز مجدداً في النار وعلى الخط الأمامي للصراع.
2- النظام السوري كان متحفظاً في السابق على فكرة تسليح دروز السويداء لأنه لم يكن متيقنا من موقفهم واتجاهاتهم في ظل مؤشرات غير مريحة كان أبرزها عدم التحاق الشبان الدروز بالخدمة العسكرية الإلزامية وتأثر فعاليات درزية بمواقف جنبلاط ووجود صلات بين بعض الدروز وفصائل معارضة… ولكن الوضع تغيّر الآن. فمن جهة أصبحت المسألة والمعركة بالنسبة الى دروز السويداء معركة وجود ومصير، ومن جهة ثانية صار الدروز يقومون بدور حماية النظام وتأخير معركة دمشق من جهة الجنوب، وصار النظام يحتاجهم أكثر مما هم يحتاجون إليه.
3- خيارات الدروز في السويداء كلها مرة. فخيار الوقوف على الحياد ليس ممكناً في ظل الواقع العسكري الذي يضعهم بين فكي كماشة، والخيارات تدور بين «السيىء والأسوأ»: إما تأييد النظام والانخراط معه (خطر الاستبداد) وإما تأييد المعارضة وفتح الأبواب لها (خطر التكفير)، إما القفز الى الخيار الثالث عبر الحدود والتطلع الى حماية أو مساعدة إسرائيل (خطر التطبيع)..
في الواقع، تبدو الأزمة الدرزية في سوريا أكبر من جنبلاط وإمكاناته وخطته للخروج منها. جنبلاط في الاجتماع الطارىء للمجلس المذهبي الدرزي ظل على نظرته المعادية للنظام السوري والمبررة لوجود «النصرة» نتيجة لسياسات النظام ضد شعبه، ولكنه لم يملك أو لم يعط إجابات على الأسئلة الملحة وأولها «الى أين»؟! عن كيفية مواجهة الخطر الوجودي على الدروز، جاءت إجابة جنبلاط باقتضاب «سأعالج ما حدث سلمياً على طريقتي عبر اتصالات اقليمية ودولية». وهو رد بطريقة غير مباشرة على دعوة رئيس «حزب التوحيد اللبناني» وئام وهاب الدروز الى التسلح، مشيراً الى أنه يحترم الداعين الى ذلك، إلا أنه يرفض «الهيجان الذي لن يؤدي إلا الى توتير الأجواء ونحن مع الاستقرار، ولنعالج الأمور بهدوء»، لافتاً النظر الى «أن المعالجة السياسية تستوجب الاتصال بالقوى الإقليمية»، داعياً الى «أن نرى الصورة الكبرى كي لا نقع في فخ الصغرى».  وعن مستقبل الدروز جنوب سوريا، فإن جنبلاط مع المصالحة وعقد الراية والتآلف مع أهل حوران، لأن النظام يأخذ سوريا الى الدمار الشامل والتفتيت. وكان واضحاً مع الجميع في المجلس بأن «لا طاقة لنا على معاداة الآخرين الأكثر منا عدداً، وعلى الدروز عدم الانجرار الى المعركة مع الجماعات المسلحة».
في الواقع، خيار جنبلاط يرتكز الى نظرية «التكيّف» البراغماتي مع القوة الإسلامية السلفية الصاعدة في سوريا. وهذه نظرية يعتقد جنبلاط أنها صالحة لكل هذه المرحلة التي تتطاحن فيها الأكثريات الاسلامية في المنطقة (السنّة والشيعة). ومن وجهة نظره، فإن دروز سوريا الذين لا يملكون أدوات سياسية او عسكرية للدفاع عن أنفسهم، يتوجب عليهم مسايرة المناخ العام في سوريا الذي يحدده بأنه مناخ المعارضة السلفية السنّية الجهادية التي في رأيه أن «أهون شرها» هي «جبهة النصرة» قياساً بـ «داعش» المتفلتة من أي ضوابط خارجية.
سياسة جنبلاط ونظرته للأزمة والحل تقابل بشكوك واسعة من جانب حزب الله وحلفائه… أوساط سياسية قريبة من حزب الله تقول إن ثقل جنبلاط الإعلامي والسياسي نجح «صورياً» في استيعاب الحدث، لكن ما يظهر في الإعلام مغاير لما هو حاصل على الأرض، لأن دروز سوريا وخصوصاً في السويداء، خارج تأثيره، وهو من خلال مواقفه الأخيرة خسر ما بقي له من رصيد بين عدد من الفعاليات صدقوا للوهلة الأولى أن صداقاته وعلاقاته الإقليمية كفيلة بتأمين الحماية لهم في سوريا، واتضح من خلال ما حصل في إدلب ان ضماناته لا يمكن الركون لها بعد اليوم، ولا يمكن تسويقها في جبل الدروز. فهذه الجريمة صبت في مصلحة النظام وفي مصلحة الخيارات التي يطرحها على المواطنين: أنتم معي أم مع هؤلاء الارهابيين القتلة؟ أما الرد من دروز سوريا فقد جاء في الميدان من خلال الدور الأساسي الذي لعبه عدد من المقاتلين الدروز في السويداء الى جانب الجيش السوري في المعركة الأخيرة التي انتهت بهزيمة مقاتلي المعارضة على «أسوار» مطار «الثعلة»، وهذه رسالة ممهورة بالدم من الدروز في السويداء الى جنبلاط بان دعوتك الى الحياد قد سقطت.
جنبلاط لا يزال يراهن على الدور التركي لحماية الدروز في سوريا. فهو يشير الى أن رجب طيب أردوغان لا يزال قوياً، وهو يعتقد أن السياسة الخارجية لتركيا لن تتأثر كثيراً بالأزمة الداخلية التي اعقبت الانتخابات، خصوصاً السياسة حيال سوريا، وهو يقول لمحدثيه إن هذا الملف في عهدة الاستخبارات التركية، ورئيسها هاكان فيدان ملتزم باستراتيجية أردوغان السورية ولن يتأثر عمله حتى لو تم تشكيل حكومة ائتلافية، وهو يرى أن الإرباك في تركيا لن يستمر أكثر من ثلاثة أشهر يراهن عليها أردوغان لتصحيح مسار الاقتراع الأخير والعودة للإنفراد بالحكم في الخريف المقبل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق