تحقيق

… واخيراً «صالة الأمير موريس شهاب» منقذ المتحف الوطني

لن تحزن آلهة الصحة الرومانية «هيجيا» من انتزاع اسمها عن تلك الصالة. «هيجيا» وكل ذاك المكان بطبقاته الثلاث وصالاته وكل ما يضمه من روائع وقيم تاريخية واثرية يدين لذاك الأمير الشهابي وزوجته باستمرارية وجوده، ببقائه، بالحفاظ عليه وبانقاذه من براثن الحرب ووحشية المقاتلين وعصابات سرقة الآثار. ولهذا، وبعد طول انتظار، اعيد لبطل المتحف اللبناني الوطني، لحافظه ومنقذه، بعض ولو يسيراً من حقه، وصار له في ذاك المتحف صالة «صالة الأمير موريس شهاب»، ولن تحزن «هيجيا»، تدرك هي انه احق منها، تدرك انه لولا ذاك الأمير، لما عادت الى مصطبتها متربعة في صدر تلك القاعة ولما كان الكثير الكثير من روائع ذاك المتحف الوطني.

 


هي قاعة الأمير موريس شهاب، افتتحها وزير الثقافة في حكومة تصريف الاعمال المهندس غابي ليون تكريماً لاول مدير عام للآثار في الجمهورية اللبنانية، حافظ المتحف الوطني ومنقذه، وسط حضور من شخصيات وفاعليات سياسية وسفراء دول عربية واجنبية وهيئات دبلوماسية وثقافية واعلامية واجتماعية الى عائلة موريس شهاب، توزعوا في ارجاء تلك الصالة وتجولوا بين جدرانها وما ضمته من روائع اثرية وتماثيل وفسيفساء، تحكي من بين الكثير مما تحكيه، حكاية أمير ذاك المتحف، وهي حكاية نضال ومقاومة، مقاومة من نوع آخر، مقاومة لا تدمر ولا تلغي، بل تحيي وتزهر، اخترقت نيران واهوال الحرب وهمجية وجهل امرائها وميليشياتها، وانقذت ابرز معقل تراثي وحضاري في لبنان، هي حكاية الامير موريس شهاب، حكاية لا تنفصل عن حكاية متحفنا الوطني واسرار صموده.

حافظ العهد الذهبي
بدأ العمل على انشاء المتحف الوطني في العام 1930، وتولى هندسته، بطبقاته الثلاث، أنطوان نحاس وبيار لو برنس رينغة. وعلى عهد الرئيس الفريد نقاش، في شهر ايار (مايو) 1942 افتتح المتحف ليرتبط اسمه منذ ذاك الحين باسم امير من السلالة الشهابية، هو الامير موريس شهاب الذي عين حافظاً للمتحف الوطني  في تلك الفترة  وكان اصلاً احد اعضاء اللجنة المشرفة على إقامة المتحف الوطني في بيروت، وفي رصيده اربعون سنة من العمل وسط الحفريات، وقد لمع اسمه بين شخصيات العصر الذهبي للآثار في لبنان في ستينيات القرن الماضي، واستمر حضوره فاعلاً ومؤثراً وملاصقاً لذاك المتحف حتى ايامنا هذه.
وزير الثقافة غابي ليون قدم نبذة مختصرة عن الامير المنقذ لتراثنا قائلاً: «الأمير موريس شهاب هو المدير العام الاول للآثار في لبنان، كرس حياته لعلم الآثار وحماية التراث والمحافظة عليه، توفي بتاريخ 24 كانون الأول (ديسمبر) 1994، ولم يحظ قط بالتكريم الذي يستحق. فقد سعى طوال مسيرته لاكتشاف الآثار والحفاظ عليها، مما دفعه للعيش في حرم المتحف الوطني. تلك كانت بيئة هذا الرجل الذي تقاسم مهنته وشغفه مع أفراد عائلته. رائد في علم الآثار، تولى إدارة الآثار في لبنان عند نهاية الانتداب الفرنسي. وهو الذي أعاد تنظيم هذا القطاع وأحسن إدارته لتنشأ في ما بعد المديرية العامة للآثار. أكثر من ذلك، فقد ساهم، في غضون بضعة عقود، بوضع لبنان على الخريطة الدولية لعلم الآثار والتعريف بماضيه من خلال إقامة المعارض والنشاطات الثقافية والمشاركة الفعالة في المؤتمرات ونشر العديد من المؤلفات والمنشورات العلمية، لكنه عرف أيضاً كيفية اتخاذ القرارات المناسبة، خصوصاً في أحلك الظروف التي مر بها لبنان».
وتابع ليون: «ما ينبغي علينا استذكاره من تلك الحقبة المحزنة، هو تفانيه وزوجته أولغا في الحفاظ على الآثار. فوجودهما في المتحف الوطني من العام 1975 حتى العام 1982، ساهم بالتأكيد بمنع أي عمليات نهب أو تدمير لتراثنا الأثري».

مغامرة الانقاذ
كيف انقذ موريس شهاب بمعاونة زوجته اولغا موجودات المتحف الوطني؟
عام 1975، ومع إندلاع الحرب الأهلية في لبنان، أغلق المتحف الوطني أبوابه، وصارت طريق الشام الخط الذي يفصل شطري بيروت،  واصبح المتحف الوطني اشبه بثكنة عسكرية ومقراً للمقاتلين والقناصة المتمترسين  وراء جدرانه، فعاثوا خراباً في صالاته ومحتوياته وشوهوا جدرانه وفسيفساءه، ومما روته مديرة المتحف آن ماري عفيش عن تلك المرحلة السوداء: «كانت الحرب وصار المتحف، بيتاً للمقاتلين وكان الناس يأخذون كل شيء». وفي تلك المرحلة برز الدور البطولي الذي لعبه الامير موريس شهاب، حيث عمد اولاً الى اقفال ابواب المتحف امام الزوار، وفي اوقات وقف اطلاق النار كان يتسلل الى المتحف ليقوم، بمعاونة زوجته اولغا، بجمع واخفاء موجوداته الصغيرة التي كانت اكثر عرضة للنهب أو السرقة، لوضعها في صناديق خشبية فوق رفوف استحدثت في الطبقة السفلى، ثم يعمر فوقها حائطاً باطونياً. ما يجعل عملية اكتشافها امام المقاتلين صعبة لا بل مستحيلة، لكن بقيت عقدة اخفاء وحماية القطع الاثرية ذات الحجم الكبير.

بمساعدة الاميرة اولغا
بمعاونة زوجته، ومع عدد قليل من العمال، عمد الامير الى حماية القطع الاثرية الضخمة التي يضمها المتحف، ومنها ناووس احيرام  وفسيفساء الحكماء  السبعة وغيرهما، من خلال تغليف الآثار بقوالب خشبية ومن ثم صب طبقة من الباطون المسلح حول القالب الخشبي.
والى ذلك قامت زوجته اولغا باجراء جردة على كل القطع الاثرية التي كانت تزين الواجهات، وذلك قبل رفعها وتوضيبها ونقلها الى مستودعات المديرية العامة للآثار، التي أوصدت أبوابها بجدار من الباطون، ما جعل عملية اكتشافها او الوصول اليها من المقاتلين او السارقين مستحيلة.
اما المجوهرات الاثرية التي كان يضمها المتحف، فقد عمدت اولغا شهاب، بعد اجراء جردة عليها الى تهريبها من المتحف الى بيتها، وحافظت عليها لتعيدها الى المتحف مع انتهاء الحرب واعادة افتتاح ابواب المتحف الوطني.
وبهذه التدابير، وبمجهود شخصي وعائلي، وبمبادرة شخصية لا تخلو من المغامرة في عز واقسى واخطر واشرس ايام الحرب اللبنانية، تمكن الامير شهاب من انقاذ محتويات المتحف الوطني، وعند إنتهاء الحرب عام 1991، كان المتحف يعاني من الدمار الهائل وتسرب المياه إلى مخازنه وكان وضع الآثار خطيراً نظراً لارتفاع درجات الرطوبة فيه بعد إقفاله لمدة 15 سنة. أما الحريق الناتج عن قصف المبنى الملاصق للمتحف فقد أتى على قسم كبير من أرشيف المتحف وعدد من القطع الأثرية.

المتحف الى الحياة مجدداً
اعيد إفتتاح المتحف بشكل رمزي عام 1994، وتركزت الأعمال بين عامي 1995 و1997 على إعادة تأهيله (الانارة، التكييف، ترميم القطع الاثرية…)، ودشن المتحف مرة ثانية بحضور رئيس الجمهورية إلياس الهراوي. وفي فيلم قصير، يعرض في المتحف مع بداية كل ساعة، يرى الزوار كيف ازيلت الكتل الباطونية السميكة والمتينة التي شيدها موريس شهاب حول القطع الاثرية لحمايتها من التدمير والسرقة، وكان ذلك في العام 1995، حول تلك اللحظات تروي عفيش: «بدا فريق العمل وكأنه يكتشف هذه الآثار من جديد».
عام 1998 أغلق المتحف ابوابه من جديد لانجاز الأعمال الباقية ليعاد افتتاحه نهائياً عام 1999 برعاية رئيس الجمهورية إميل لحود.

من كل لبنان من كل الحقبات
نعود الى حدث افتتاح صالة موريس شهاب، الوزير ليون يتحدث عن مدى اهميته،  فهذه الصالة «هي المساحة الوحيدة في القاعة المركزية للمتحف التي بقيت مغلقة أمام الجمهور، على الرغم من إعادة تأهيل المتحف بعد نهاية الأحداث اللبنانية وإعادة افتتاحه في العام 1999». مشيراً الى انه و«تماشياً مع موجودات باقي أجزاء المتحف، تأتي مجموعة القطع الأثرية في هذه الصالة من مناطق لبنانية مختلفة: طرابلس، صيدا، ام العامد، نيحا، صور، جبيل، جناح، شحيم وبيروت». و«هذه الصالة هي امتداد للمسار الزمني للقاعة المركزية، وتتضمن قطعاً أثرية تعود للحقبات الكلاسيكية اي العصر الهلنستي والروماني والبيزنطي».
ولفت الى ان «من ضمن المجموعة المعروضة في الصالة، فسيفساء عثر عليها خلال الحفريات الأثرية التي اجراها الامير موريس شهاب في الفترة ما بين الستينيات والسبعينيات. اما القطع الاخرى فقد تم اكتشافها خلال الحفريات التي أجريت مؤخراً، لا سيما تلك التي أجرتها المديرية العامة للآثار في وسط بيروت، وهي فسيفساء مع مشهد من نهر النيل ونقش على شكل نسر وتمثال صغير من الرخام للآلهة سيلينوس»، معلناً ان «هذه المجموعة تعرض للمرة الأولى في لبنان».

استكشاف تكنولوجي
افتتاح صالة موريس شهاب تزامن مع حدث «تكنولوجي» اعلنه وزير الثقافة، وتمثل بإدخال تكنولوجيا جديدة على المتحف الوطني، للاستعاضة عن المنشورات أو الدليل الصوتي. وتطبق هذه التكنولوجيا عبر الهواتف الذكية على القطع الأثرية المعروضة في هذه الصالة»، شارحاً ان فرع Electric and Computer Engineering في الجامعة الاميركية في بيروت، باشراف الدكتورة ماريات عواد وطلابها، قام بتطوير برنامج يتيح عند القيام بالتقاط الصور بواسطة الهاتف الخليوي للقطع الأثرية المعروضة، الحصول تلقائياً على المعلومات المتعلقة بها باللغات الثلاث (عربي، فرنسي وانكليزي) على شاشة الهاتف، ويجري العمل في المستقبل القريب لتطبيق هذا البرنامج على كل موجودات المتحف الوطني. ويذكر ان هذا البرنامج الجديد غير مستخدم بعد في الشرق الاوسط.

الطبقات الثلاث قريباً امام الجمهور
اذاً القاعة التي كانت تحمل اسم قاعة «هيجيا» تيمناً بالآلهة الرومانية التي تتوسطها، صارت صالة الامير موريس شهاب، وهو المدير العام السابق للآثار فريدريك الحسيني من عمل على الحصول على المرسوم الجمهوري، لتحويل اسم قاعة «هيجيا» الى قاعة موريس شهاب، تكريماً له كأول مدير عام للآثار في لبنان ومنقذ للمتحف الوطني وموجوداته خلال الحرب الاهلية.
الوزير غابي ليون يستغل الحدث السعيد الذي طال انتظاره ليعلن حدثاً سعيداً آخر: «يسعدني في هذا المناسبة، وبحضور السفير الايطالي جيوسيبي مورابيتو، أن أعلن عن مشروع تأهيل الطبقة السفلى من المتحف الوطني بهبة من الحكومة الإيطالية، حيث سنتمكن من فتح المتحف بطبقاته الثلاث كاملة أمام الجمهور، بغية التعريف بتراثنا الوطني الغني والمتنوع».

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق