الأسبوع الثقافي

جورج جرداق… وداعاً!

غيب الموت قبل ظهر اليوم نجمٌ ساطعٌ في عالم الأدب والصحافة في العالم العربي، هو الكاتب والشاعر جورج جرداق الذي رحل عن عمر يناهز الـ 83 عاماً، وستقام مراسم جنازته، الأولى من بعد ظهر يوم الجمعة المقبل في كاتدرائية مار نقولا للروم الأرثوذكس في الأشرفية، على أن ينقل جثمانه إلى مسقط رأسه في جديدة مرجعيون حيث يوارى الثرى في مدافن العائلة.

هو من رعيل الزمن الذهبي في الفن العربي، حلقت حوله مشاهير من العالم العربي، وتحديداً مشاهير الطرب في مصر، فمن أمّ كلثوم ومحمد عبد الوهاب ورياض السنباطي وغيرهم، إلى فيروز والأخوين رحباني وفيلمون وهبي ونصري شمس الدين ووديع الصافي، بنى جرداق شبكة صداقات تخطّت العلاقة المهنية.
ولد الكاتب والشاعر اللبناني جورج سجعان جرداق عام 1931، من والد يعمل مهندس بناء، في بقعة سكانها عرب حقيقيون، يتحدرون من أسر عربية عريقة، أما البيئة البيتية فكانت من جماعة الفكر والعلم والأدب والشعر، وتأثري الشديد كان بـ  «أخوي فؤاد» كما يقول.
وكان جورج الصغير يهرب من المدرسة، بحثاً عن عين ماء من عيون السهل الشرقي تلك التي سمي المرج باسمها «مرج عيون»، فينتقي صخرة تحت شجرة تظلله، ليحفظ شعر المتنبي، وفقه اللغة العربية في مجمع البحرين للشيخ ناصيف اليازجي. وعندما اشتكت المدرسة من فراره الدائم، حاول ذووه معاقبته، فتدخل شقيقه فؤاد معللاً: «إن ما يفعله جورج يفيده أكثر من المدرسة». وتشجيعاً له أهداه «نهج البلاغة» للامام علي بن أبي طالب، قائلاً: «إقرأه واحفظه».

الى بيروت…
بعد انتهاء دراسته التكميلية في مدارس جديدة مرجعيون، انتقل جورج جرداق إلى بيروت، ليلتحق بـ «الكلية البطريركية» عام 1949. منذ ذلك الحين، سكن بيروت وسكنته، من دون أن ينفي ذلك حنينه إلى الجذور وتواصله مع الأهل والأصحاب في «الجديدة».
يرد الشاعر الكبير الراحل خصوبة فكره وذاكرته إلى اختياره الكلية البطريركية الذائعة الصيت بتخريج أقدر الطلاب في اللغة العربية وآدابها. «كانت مهمة جداً بحاضرها وقديمها، فالشيخ إبرهيم اليازجي، أكبر علماء العربية على الإطلاق، كان أحد أساتذتها في القرن التاسع عشر، ومن تلامذته خليل مطران شاعر القطرين. درست على يد الأديب المعروف رئيف خوري، وعلامة عصره فؤاد أفرام البستاني مؤسس الجامعة اللبنانية، وكان أستاذ اللغة والأدب الفرنسي الشاعر ميشال فريد غريب الذي كتب شعره بالفرنسية».
في هذه الأجواء، كان من البديهي أن يؤلف جرداق كتاباً في سن مبكرة. في الثامنة عشرة من عمره، كتب باكورته «فاغنر والمرأة» عن الموسيقي والفيلسوف الألماني عام 1950. ونظراً إلى أهمية الكتاب، قرر الدكتور طه حسين عميد الأدب العربي إدراجه ضمن لائحة الكتب التي يجب على طلاب الدكتوراه في الأدب قراءتها بإمعان، كذلك أصر أحد المستشرقين الألمان على مقابلة جرداق وأخذ إذنه في ترجمة كتابه إلى اللغة الألمانية.
في عام 1953 بعد تخرجه من الكلية البطريركية، انتقل جورج جرداق إلى التأليف والكتابة في الصحف اللبنانية والعربية من جهة، وإلى تدريس الأدب العربي والفلسفة العربية في عدد من كليات بيروت من جهة أخرى. استهل عمله الصحافي في مجلة «الحرية»، ويقول عنها: «كنت أكتبها من الغلاف إلى الغلاف، وكنت أحرر مقالات وأوقعها بأسماء صارت لاحقاً معروفة لدى أصحاب الصحف، حتى إن أحدهم طلب مني أن أعمل عنده، فرفضت».

موسوعة الإمام علي
في عام 1960، أطلق سلسلته الفكرية الشهيرة «موسوعة الإمام علي»، فصدر منها تباعاً خمسة مجلّدات، أتبعها بمجلد سادس وهي: «علي وحقوق الإنسان»، «علي والثورة الفرنسية»، «علي وسقراط»، «علي وعصره»، «علي والقومية العربية»، وحمل الملحق عنوان «روائع النهج».
في موسوعته يستشهد جرداق بقول لميخائيل نعيمة: «يقيني أنّ مؤلف هذا السفر النفيس، بما في قلمه من لباقة، وما في قلبه من حرارة، وما في وجدانه من إنصاف، قد نجح إلى حد بعيد في رسم صورة لابن أبي طالب، لا تستطيع أمامها، إلا أن تشهد بأنّها الصورة الحيّة لأعظم رجل عربي بعد النبي».
طبعت الموسوعة أربع مرات، في ثلاث دور نشر مختلفة خلال سنة واحدة، وتشير الإحصاءات إلى أنّ أكثر من خمسة ملايين نسخة طبعت منها حتى اليوم. «بالطبع لا أجني قرشاً واحداً من هذه المطبوعات التي ترجمت إلى الفارسية والأوردية – لغة مسلمي القارة الهندية – والإسبانية والفرنسية. وعندما أحتاج إلى مجموعة عربية أو أجنبية أشتريها، فيما لم تكلّف دار نشر واحدة نفسها أن ترسل لي نسخة هديّة من باب رفع العتب».
عمل جورج جرداق أيضاً في مجلة «الجمهور الجديد» وانتقل إلى «دار الصياد» عام 1965، وعمل في مجلة «الشبكة» وفي صحيفة «الأنوار»، ولا يزال أحد أركان الكتابة في منشورات «الصياد».

قصة «هذه ليلتي»
وفي صيف 1967، أقام الموسيقار محمد عبد الوهاب عاماً كاملاً في لبنان، وسكن في جوار جورج جرداق. كانت السهرات لا تحلو للموسيقار إلا في فندق «لامباسادور» في بحمدون، نظراً لإطلالته على وادي «لامارتين». ذات يوم، قال له صاحب «يا جارة الوادي»: «تحدثت اليوم مع أمّ كلثوم عبر الهاتف، وسألتني عنك وعن إطالة غيابك عن مصر. تهديك تحياتها وتريد منك أغنية للموسم الجديد». ويخبرنا جرداق: «صار كل ليلة يسألني أين أضحت القصيدة؟ وفي إحدى الليالي، وكان معنا يوسف وهبي وإحسان عبد القدوس ونجاة الصغيرة وفريد الأطرش، وشوشني عبد الوهاب بأن نخرج إلى الشرفة المطلّة على الوادي. وهناك رحت أدندن بعض أبيات الشعر، فطلب إليّ أن أعيدها على مسمعه، وصاح هذه القصيدة التي نبحث عنها». وكان أن غنّت كوكب الشرق «هذه ليلتي» على المسرح القومي في السودان، بتاريخ 30 كانون الأوّل (ديسمبر) عام 1968، بعد عام على كتابتها، إذ أخّرت إطلاقها بسبب النكسة. قال عبد الوهاب عن صاحب القصيدة: «إن في شعر جورج جرداق من الموسيقى، ما لا يستطيع اللحن أن يجاريه أو يدانيه».

هجاء مع «الأخوين رحباني» على صفحات «الشبكة»
ولأنه صاحب مزاج طريف، شديد الميل إلى الأهاجي والفكاهة، تهاجى مع «الأخوين رحباني» اللذين يتميزان بمثل مزاجه، مدة ستة أشهر كاملة، على صفحات «الشبكة» في أطرف معركة هجاء تابع الجمهور فصولها فصلاً فصلاً. ويقول: «اتفقنا عليها بالمصادفة، صدّقها الجميع إلا عبد الوهاب. عندما قرّرنا إيقافها، صرخ بنا سعيد فريحة: بتخربولي بيتي، إنني أطبع 250 ألف عدد إضافي». ويُتوقع أن تصدر هذه المهاجاة الطريفة في كتاب خاص عمل على تنقيحه.
صديق المرأة وحبيبها، ظلّت الصحافة الأقرب إلى قلبه، بعيداً عن «زواريبها اللبنانية التي هي مرآة المنافع الشخصية». ومثلما أحبّ الصحافة، أحبَّ الاشتراكية، ويقول: «تأثرت بأستاذي رئيف خوري، وببيئتي وبالناس من حولي، ورحت أقارن بينها وبين السياسة، فإذا بها قائمة عندنا على مبدأ «الفاجر يأكل مال التاجر».
والى كل هذا، قدم جرداق برنامج «على طريقتي» عبر أثير إذاعة «صوت لبنان».

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق