صحة

ارجوك لا تقبلني!

منهكٌ، أصفر، طحاله متضخم، أنزيمات كبده متبدلة، يتقيأ، خسر وزناً،  سعاله لافت، يتعرق، ورمٌ في عقده اللمفاوية حول الرقبة وتحت الإبطين، تضخم في اللوزتين… ما هذا؟ ما به؟ مرض خطير؟ مميت؟ الفحوصات المطلوبة كثيرة… النتائج أولية، مزيدٌ من الصور، مزيد من فحوصات الدم والبول، لماذا كل هذا؟ هل أقتربت ساعته؟ ما زال شاباً أحلامه «قد الدني» فلماذا يُحيّر مرضه الأطباء هكذا؟ فحوصات فحوصات الى أن أتى التشخيص المبدئي: هو يعاني من داء القبلات! ننفجر من الضحك أم ننفجر بسؤال: حتى القبلات في زماننا باتت خطاً أحمر؟

القبلة عادة وودّ… الأميركيون يُقبلون قبلة واحدة. الهولنديون، مثلنا، لا يَقبلون بأقل من ثلاث قبلات. الباريسيون اختصروا العدد الى قبلتين، لكن في الجنوب، جنوب فرنسا، لا ينقص العدد عن أربع قبلات. الصرب يكتفون بقبلتين أما نحن فنلقي التحية بثلاث قبلات ونودع بثلاث قبلات… جميل هذا، أو كان هذا جميلاً  قبل أن نعلم أن القبلة قد تُصبح داء يُسمى علميا: داء القبلات  “Kissing disease” أو «المونونيوكليوز»!
صحيح أن القبلة هي، على ذمة الأطباء النفسيين، مفتاح السعادة وهي تُحفز إفراز مادة الإندروفين في الجسم وتجعلنا، على ذمتهم أيضاً، نبدو أجمل كونها تتيح لنا، ونحن نقبل بعضنا بعضاً، أن نمارس أفضل تمرين لعضلات الوجه والذقن والعنق لكننا، نحن وأنتم، بعد هذا الموضوع قد نعدّ الى عشرة قبل أن نمارس فعل التقبيل… فماذا في التفاصيل؟

مرض فيروسي ينتقل عبر اللعاب
أتت النتيجة في تشخيص طبيب العائلة إدوار عبد المسيح الأولي ثم النهائي: داء القبلات. رد المريض: ماذا؟ قبلات من؟ ما معنى هذا؟ أجابه: تمهل، هو صحيح داء القبلات لكن قد يتأتى عن شرب مياه أو قهوة أو حتى عن تناول الطعام في أكواب وصحون ملوثة بلعاب إنسان يعاني من هذا الداء. وسأل مريضه: هل سبق وعانى قبلك أحد، من أهل البيت، من هذا الداء؟ أجابه المريض: لا، لم يسبقني إليه أحد ولم يسمع به قبلي أحد. ابتسم طبيب العائلة وقال: من الآن وصاعداً قد يسمع به كثيرون، فالدنيا مليئة بفيروسات وانتقالها، للأسف، أصبح أسهل! 
مرض القبلات فيروسي يصيب الجهاز التنفسي والغدد اللمفاوية وينتقل عادة عبر اللعاب، أو حتى عبر الرذاذ الذي قد ينفثه حامل الفيروس، في كل حال، أول مرة شُخص فيها هذا الداء كانت في العام 1887 وهو، على عكس ما قد يظن المريض، نسبة الى طبيعة الأعراض التي قد تجتاحه، ليس خطيرا. وناقل المرض، قد يكون حمله قبل شهر أو حتى شهرين من ظهور عوارضه، وقد ينقله الى الآخرين من دون أن تظهر عليه أي أعراض. لا شيء ثابتاً إذاً باستثناء أن الأعراض إذا ظهرت قد تستمر ثلاثة أسابيع، تبدأ قوية جداً ثم تبدأ بالخفوت تدريجياً الى أن تزول. وبعد أن يزول الفيروس قد يبقى المصاب قادراً على نقله الى من يشاطرونه الأكواب والصحون والملاعق والشوك وربما القبلات، نحو ستة أشهر. يفترض إذاً بمن يُصاب بداء القبلات الإنتباه من نقل العدوى نحو ستة أشهر تلي شفائه على الأقل.
المريض الذي سبق وشُخصت إصابته ما عاد يقترب من طفليه وما عاد يجرؤ حتى على تقبيلهما في أيديهما… فهل هذه «سرسبة» مفرطة أم يقظة مطلوبة؟
لا، ليست أبداً «سرسبة» بل هي وعي، فالداء، حتى ولو لم يكن خطيراً، لكنه يُنهك المصاب، يتعبه، فكيف إذا أصاب طفلا؟ في كل حال، ينصح عادة الأطباء الكبار بالإمتناع عن تقبيل الأطفال في شكل مستمر، دائم، لأن هذا قد يؤدي الى أمراض شتى من بينها طبعا داء القبلات. والطفل، كما كلنا يعلم، يكون جهازه المناعي ضعيفا وبالتالي يكون انتقال المرض إليه أكثر سهولة، لهذا قد نجد ربما في بعض الدول، لا سيما في الدول المتطورة، ثياباً للأطفال مكتوباً عليها: أرجوك لا تقبلني… وهذه العبارة لا تُدون سهوا، وليست مجرد موضة، ب
ل تحمل معاني جمة.

لا داع للذعر
تبدأ الأعراض إذاً، في بداياتها، بالتعرق الليلي وبارتفاع في الحرارة وبتعبٍ وإعياء وبنقصٍ في الوزن وقد يميل لون البول الى الأصفر، ولا تلبث أن تتطور الى ورم في الغدد اللمفاوية، حول الرقبة، وبطفح جلدي، ويُنصح في هكذا حالات بعدم تناول المضادات الحيوية لأنها لا تنفع، قد تضر بالتالي ولا تنفع، لأن هذا النوع من الإصابات كما سبق وقلنا فيروسي لا بكتيري. في كل حال، قد يصعب على الطبيب، بمجرد الكشف السريري، تحديد نوع الإصابة ويتطلب هذا بالتالي فحوصاً مخبرية قد تحتاج الى أيام كثيرة قبل أن تظهر نتائجها لكن الأمر الجيد هو أن هذا الداء كثيراً ما تختفي أعراضه قبل أن يُشخص المرض طبياً بدقة. وما قد يثير الخوف الشديد في البداية هو أن فحوصات الدم التي تصدر نتائجها بسرعة، خلال 24 ساعة، قد تُظهر خللاً في أنزيمات الكبد وتضخماً في الطحال وهذا ما قد يقلق المريض ومن حوله كثيراً الى أن يصدر التشخيص النهائي دالاً الى أن لا داعي للذعر لأن هذا التطور المرضي ليس إلا جراء داء القبلات وبالتالي سيعود الطحال الى حجمه الطبيعي وأنزيمات الكبد ستعود صحيحة، خلال أسابيع قليلة، من دون أي علاجات، إلا إذا كان المصاب يعاني أصلاً من نقص في المناعة المكتسبة أو يتناول أدوية خافضة للمناعة مثل الكورتيزون فيكون في خطر أكبر وقد تستدعي حالته عناية أكثر دقة. في كل حال يُنصح المصاب، بغض النظر عن عمره وحالته، بتناول كثير من السوائل وبالراحة وبتناول خافضات الحرارة وبتجنب تناول، كما سبق وقلنا، مضادات الإلتهاب.
والسؤال: كيف نحمي أنفسنا؟ هل يكفي بالتالي الإمتناع عن تقبيل بعضنا بعضاً لنحمي أنفسنا الى حد كبير؟
في النسب، كلنا معرضون لكن عملياً قد يكون بعضنا، إذا لم ينتبه الى كل ما أسلفنا به، أكثر عرضة من بعضنا الآخر لأسباب ما زالت مجهولة.
سؤال آخر: هل نظلم العشاق في مطالبتهم بعدم تبادل القبلات؟
التقبيل طبياً غير مستحب لكن، نعرف لا بل نحن متأكدون أنكم ستبقون تقبلون بعضكم بعضا مهما حذرناكم من أضرار القبل… والحل؟ قللوا من عدد القبلات اليومية التي توزعونها عشوائياً وإذا حصل وأصبتم بالمرض فلا تصابوا بالهلع فهذه ليست نهاية الدنيا. هو عارض وسيزول. في كل حال يهم أن تعرفوا أن هذا الفيروس، فيروس القبل، قد فرزناه كلنا أو سنفرزه كلنا مرة ومرتين وثلاث مرات وربما أكثر في حياتنا، من دون أن نصاب نحن بالضرورة بأعراضه ومن دون أن ننقل في كل مرة يفرز لعابنا هذا الفيروس أعراض المرض الى الآخرين. في كل حال يهم أن نعرف أن كل من يُصاب بهذا الفيروس يبقى في جسمه، كامناً،  كل العمر.
القبلة جميلة. وهي، بين الأصدقاء، علامة ود وبين العشاق دلالة شغف وبين الأهل وصغارهم إشارة ولع… ماذا بعد؟ ثقوا أن المثل القائل: «من الحب ما قتل» لا يُطبق في معادلة القبل حتى ولو كانت تضر أحياناً!

نوال نصر


 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق