آدب

جوزف حرب: يحق للشعراء أن يحلموا للإنسان بفردوس ما

قبل أوانه رحل الشاعر الكبير جوزف حرب (1944 – 2014) وقبل أن يقول كل ما عنده من قصائد بالفصحى والعامية معاً. هو الشاعر الغزير النتاج، العميق الفكر، الحامل هموم الإنسان والوطن. بذهول كبير وبألم شديد تلقيت خبر رحيله، وهو الصديق القديم، بل صديق العمر، الذي جمعتني به روابط فكرية وإنسانية وأخوية، على مدى سنوات طويلة. لم يكن جوزف حرب شاعراً مميزاً، كتب القصيدة المختلفة التي تنطلق من الذات وصولاً الى الآخرين فحسب، بل انه كتب القصيدة المثقلة بالقضايا الكبيرة التي تعاني منها البشرية منذ أقدم العصور وحتى يومنا هذا، بحثاً عن الغد الأفضل، وأكاد أقول عن الفردوس الأرضي الذي طال إنتظاره، وسلاحه الأول، القلم، وثقافة إنسانية شاملة، وقدرة كبيرة على التعبير الشعري، وبناء القصيدة الحديثة المستوفية جميع الشروط اللغوية والفكرية والفنية. ولم يكتف جوزف حرب بكتابة القصيدة، بل انه كتب الأغنية الجديدة، الجميلة والمتطورة، ونقلها من مكان الى آخر، والتي تليق بالأصوات الخارقة والنادرة والشفافة، كصوت فيروز، سيّدة الغناء في كل زمان ومكان. كما انه كتب مؤلفات نثرية عدة، تناول فيها شخصيات أدبية وفكرية كبيرة، من أمثال: جرجي زيدان، وعمر فاخوري، وغيرهما… بالإضافة الى مسلسلات تلفزيونية وبرامج إذاعية.


باكراً التقيت بهذا الشاعر الجميل والأنيق، الذي اسمه جوزف حرب. حدث ذلك في أوائل العقد السادس من القرن العشرين، عند بدء عملي في الصحافة، وذلك  في "دار المعجم" ومقر مجلة "الطريق" التي كان يرأس تحريرها – يومئذ – الشاعر ميشال سليمان. كانت أحلامنا كبيرة، وكنّا نعتقد ان بوسعنا أن نغيّر وجه العالم!
وسارت الأيام… وانتقل لبنان من مرحلة الى أخرى، من الهدوء والحياة الطبيعية الى الحرب المجنونة والنار والرماد. ولم أعد ألتقي بجوزف حرب، إلا عندما أهداني ديوانه "شجرة الأكاسيا" في الثمانينيات، مع كلمة "الى صاحب القلم المعتّق، وحارس أيام الوطن من رماد الحرب…"، ومن ثم، أهداني كل ما كتبه من دواوين، وكتب على أحدها:" عمراً من نار لا تنطفىء. هكذا أتذكر وهكذا رجعت وعرفتك".


سيرة حياة بالشعر
في دواوينه الأخيرة، كان جوزف حرب أحياناً، يستحضر الماضي، والأيام الموجعة التي عاشها في ظل عائلة تأكل خبزها بعرق جبينها:
وكم سكنّا
في منازل،
كلها
كانت
بيوت المعوزين.

***
كان الحنين يشدّه الى ماضي حياته، فكتب عن الطبيعة وما فيها، وكتب عن أمه وابيه، عن الحب والمرأة، عن الحرية والكرامة، عن وحدته وقلقه، عن الطغاة والثورات، عن الشعوب المقهورة والأوطان المعذبة، عن الشعراء والفلاسفة والأنبياء، وعن الفجر الآتي…
كتب سيرة حياته بالشعر، وكتب سيرة الكون الغارق بالدم والعتمة:
لم يأت قانون
لكي يحرر الإنسان
ولم تقم بأي يوم دولة في  الأرض إلا وهي من قمع ودم.

هاجس الموت
أكثر ما لفتني في بعض قصائده الأخيرة، ان الموت كان هاجسه الأكبر، الى درجة انه أطلق على أحد دواوينه العامية عنوان "طالع ع بالي فلّ" وكأنه كان يدرك ان رحيله بات قريباً:
زهقت
من هـ الكون،
زهقت
من هـ الكل،
وطالع ع بالي
فلّ

***
وفي قصيدة بعنوان "كل ما كان" بالفصحى، يقول:
كل ما كان
كثيراً، وجميلاً
أصبح الآن
قليلا،
له رائحة
تدعى: الرحيلا.

مصاب بعشق الكلمة
قصيدة جوزف حرب بعيدة عن السائد، ولا تشبه أية قصيدة أخرى. فهو كما كان يقول لي:"أنا مصاب بعشق المفردة أو الكلمة حتى الهوس. أدقق في طولها وقصرها، في إيقاعاتها، في مخارج حروفها، في سيرتها منذ ولادتها حتى وصولها اليّ، في شيوعها وعزلتها، في وحدتها وعلاقتها مع بقية المفردات، في تراكيبها، في الأسباب التي تكمن وراء صرفها ونحوها، في حقيقتها القاموسية، وصياغاتها الجمالية، ومجازاتها اللامتناهية".

الحلم بفردوس ما
كان لجوزف حرب، نظرة خاصة للشعر والشعراء. وكان الهاجس الذي يشغل باله هو سعادة الإنسان. وعندما تطرقت الى هذا الموضوع، أجابني قائلاً:" يحق لجميع الشعراء وفي كل عصر، أن يحلموا للإنسان بفردوس ما، لأن الشعراء، ليسوا بمتفرجين على ازمنتهم أو عصورهم. ولا أظن أن أحداً أكثر منهم قادراً على الغوص في أعماق النفس البشرية المثخنة بجراح الحروب، والممتلئة بمآسي الأنظمة، والمصابة بفجائع التغريب، والامحاء الذاتي، والرازحة تحت ثقل الأسئلة العظيمة، والمقيدة كالمساجين، أمام انطلاقاتها نحو عالم أكثر طمأنينة وحرية وسلاماً".
وهو يعتبر "ان هذا هو هاجس كل عصر، قضية كل عصر، ومن هنا، كان هاجس كل شاعر وقضيته. والى هذا الهاجس وهذه القضية، ينتمي عملي الشعري "شجرة الأكاسيا"، وعملي الآخر "مملكة الخبز والورد". لقد دخلت هذا العصر وسعيت معه، ورأيت أعراسه وجنازاته، ولمست جراحه، وغصت في إنكساراته ومراراته وأحلامه، وخرجت لأعلن أن هناك فردوساً ما، يجب أن يصل الإنسان إليه، ويعيش فيه".

وكلاء الثقافة!
ذات مرة سألته: ألا ترى، ان الفوضى الثقافية عندنا ضاربة أطنابها، واننا نتعاطى معها وكأنها سلعة استهلاكية؟
من جملة ما قاله لي حول هذا الموضوع:"أعتقد أننا ومرات كثيرة، تعاطينا مع الثقافة، والمدارس الفنية والفكرية، كما تعاطينا مع الغسالات والبرادات والسيارات. وكما كان لنا وكلاء لهذه الأدوات وغيرها، كان لنا وكلاء لهذه المدرسة الشعرية او تلك. وكما تقوم المزاحمة والخصومات، بين أصحاب الوكالات الآلية، قامت المزاحمة والخصومات بين أصحاب الوكالات الفنية والفكرية. وكما كانت الأسواق الإستهلاكية تحارب صعود أي انتاج محلي، كانت الوكالات الثقافية، وما زالت، تحارب أي انتاج ثقافي لا يخضع في نهاية الأمر لوكلائها، و لا يعترف بأن هؤلاء الوكلاء، هم وحدهم أسياد السوق، ولا تقف في الشارع وتشتم الشعر العربي بصوت عال، من أمرىء القيس، الى الأخطل الصغير وبدوي الجبل".

النقد: اهمال وتجريح واغتيال!
اللافت بعد رحيل جوزف حرب، أن ينبري بعض الجهلة لمحاربة هذا الشاعر الفذ، وهو في العالم الآخر…. وعلى كل حال، فإن الراحل ليس بحاجة الى شهادات هؤلاء والى من يدافع عنه، بل ان أعماله الشعرية هي الشاهد الأول والأخير.
من هنا، تذكرت ما قاله لي في هذا المجال:"لا نقد عندنا، وإذا حدث وظهرت بين الحين والحين بعض المقالات النقدية الممتازة، فيكون الأمر عندئذ شبيهاً بسماء داكنة، تسمح بعض شقوق الغيم فيها، بتسرب شيء من النور".
وتابع قائلاً:"والنقد عندنا ثلاثة أقسام. القسم الأول هو الإهمال التام، وهذا يعود الى العدائية المفرطة، التي تعتبر أن أعمق الطعنات التي توجهها إليك، هي الإهمال.
القسم الثاني هو التجريح والسوقية، بحيث يتعاطون مع ديوانك مثلاً، وكأنه علم إسرائيلي، وكأنهم ثوار فلسطينيون. ثم تكتشف أنهم عملاء. وأرجو ألا تفاجأ إذا قلت لك: في الأدب أيضاً عملاء، ومخبرون، ومأجورون.
أما القسم الثالث، فهو استقبال مريديك وشذاذك لديوانك، بدوار احتفالي، وكأنهم في حفلة من حفلات الزار. وكنّا نظن أن الأخطل الصغير وسعيد عقل، هما سيدا الخطط السرية للإغتيالات الشعرية، وشيخا طرائق الزار الأدبي، حتى جاء أدونيس، فغيّب شمس الجميع".

صوت فيروز
أقوال وآراء وأفكار كثيرة، كنت أسمعها من جوزف حرب…
قال لي: أعظم شاعر لديّ هو المتنبي، فأبو الطيب، نبي الشعر، وكبار الشعراء صحابته وتابعوه".
وعن فيروز قال لي:"إنها البهية بين النساء، وصوتها مولود في مغارة بيت لحم".
وعن دور الكلمة في مصير قصائده، قال:"هناك قصائد لديّ، غيرّت مصيرها كلمة واحدة. ألا تغيّر مصير العشق فينا إمرأة ما؟ هناك كلمات تقع عليها، أو تجدها صدفة وأنت تكتب، تغيّر مصير القصيدة كلها، كما تغيّر إمرأة ما، كل مصير العشق فينا".
وما أكثر ما قاله لي جوزف حرب.

اسكندر داغر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق