رئيسيملف

القطاع المصرفي في لبنان تحت مجهر الإدارة الأميركية

كان يمكن أن نخاف أو أن نشعر بنوع من الهلع ازاء التقرير الذي يكشف عن ان جهات مالية غربية ابلغت نظيرتها الخليجية بأنه سيكون من الواجب على حاكمية مصرف لبنان تقليص الحرية المالية التي بات «حزب الله» يتمتع بها في الجهاز المصرفي اللبناني. لكن الخبر مر سريعاً كما كل الأخبار التي تتعلق بالنشاط المالي لحزب الله في الجهاز المصرفي. واذا عدنا الى الوراء نكتشف أن هناك سياسة خاصة تتعاطى بها الولايات المتحدة مع القطاع المصرفي في لبنان، أثمرت عن انشاء لبنان هيئة التحقيق الخاصة وسنّ قانون مكافحة تبييض الأموال وحقَّق انجازات ملحوظة بدفع من حاكمية مصرف لبنان. اذاً هذه الضغوط موجودة على مستوى مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب والسرية المصرفية، وقضية البنك اللبناني – الكندي اخيراً خير دليل على طول يد الادارة الأميركية في القطاع المصرفي في لبنان، لكن ما الذي أعاد هذه الصورة الى الواجهة ولماذا تصر الولايات المتحدة على تكرار التحذير؟ وهل يعي الطقم السياسي قبل المصرفي ماذا يعني وضع لبنان خارج المنظومة المالية العالمية؟

يمتلك لبنان ميزات اقتصادية فريدة تميزه عن سائر الدول العربية ومنها السرية المصرفية الغائبة عن هذه الدول إلا استثنائياً وفي صورة شكلية. وهذه السرية قائمة في وجه أي سلطة قضائية وإدارية وضريبية وعسكرية ما عدا حالات استثنائية جداً كحالات مكافحة تبييض الأموال. وقد بات نظام السرية المصرفية في لبنان الأقوى في العالم وحتى أكثر تشدداً من النظام السويسري الذي اقتبس منه أحكامه في الأساس. وفي وقت تراجع فيه النظام السويسري إذا به يصمد في لبنان وربما تمّ تناسيه أو لم يُستهدف في صورة مباشرة ومستمرة، أو إن الإستهداف لم يكن سياسياً بدليل أنه طلب من لبنان إدخال استثناء جديد على السرية المصرفية يتعلق بمكافحة تبييض الأموال، لدواع مقبولة ومعقولة.

ضغوط دولية
الخبير القانوني في الأمور المصرفية وتبييض الأموال المحامي بول مرقص أوضح أن التحدي الأكبر اليوم الذي يواجهه القطاع المصرفي يكمن في المزيد من المطالبات الدولية التي تضغط على لبنان لرفع السرية المصرفية وعدم استثمار لبنان هذه السرية كما يجب، خصوصاً أن هناك كثراً هربوا ودائعهم من دول عربية تشهد ثورات واضطرابات. لكن لبنان لم يستفد من ذلك كما يجب نتيجة غياب معالم دولة حقيقية تخطط للمستقبل. وبذلك يكون قد فوت هذه الفرصة لأسباب بنيوية واستراتيجية.أضف إلى ذلك سياسات الوزراء التي تتغير مع تبدل الحكومات، هذا إذا طُبقت.
في أواخر الثمانينيات واجه القطاع المصرفي في لبنان بعض الضغوط حين كانت وزارة الخارجية الأميركية تورد اسم لبنان على لائحة الدول المتهمة باعتماد نظام متشدد للسرية المصرفية وتبييض الأموال. ونتيجة للضغوط التي قامت بها مجموعة العمل الدولي لمكافحة تبييض الأموال «غافي» أنشأ لبنان هيئة التحقيق الخاصة وسن قانون مكافحة تبييض الأموال وحقق انجازات ملحوظة بدفع من حاكمية مصرف لبنان.
وفي سياق يتَّصل بفاعلية هذا النظام، Effectivité du droit، ردّ بعض المحللين أزمة البنك اللبناني – الكندي الأخيرة إلى الخلل في تطبيق نظام مكافحة تبييض الأموال بفاعلية من المصرف المذكور. لكن السبب الرئيسي وفق د. مرقص يتجلى بعدم سلوك الولايات المتحدة السبل المؤسساتية في التعامل مع لبنان، بحيث وجه الإتهام إلى المصرف مباشرة من دون المرور بالقنوات الرسمية وتحديداً هيئة التحقيق الخاصة المنشأة لدى مصرف لبنان والتي كان يجب أن تودع الشكوى الأميركية لديها أساساً، الأمر الذي لم يفسح المجال للهيئة في اتخاذ التدابير اللازمة لمعالجة الموضوع أو حتى التحري عنه والتأكد من صحته.

من تبييض الاموال الى تمويل الارهاب
ما هي فاعليّة التعاون الدولي في مكافحة تبييض الأموال عندما تتجاوز دول كبرى آليات التعاون المعتمدة دولياً؟ ما هو تعريف تبييض الأموال وتمويل الإرهاب وكيف تتم هذه العمليات؟
يعرّف الدكتور مرقص جريمة تبييض الأموال بالعملية  التجارية أو المصرفية أوالعقارية وسواها من العمليات التي يسعى الفاعل (عميل المصرف مثلاً) من خلالها إلى إخفاء أو تمويه المصدر الحقيقي للأموال، التي تم الحصول عليها بطريقة غير قانونية من نشاطات إجرامية (سرقة، اختلاس، اتجار بالمخدرات…) أو سواها من النشاطات غير المشروعة، وغالباً ما تحصل تحت ستار إسم مستعار، وتوفير غطاء قانوني لهذه الأموال، حتى يصعب تتبع أثرها من المحققين. أما تمويل الإرهاب، فهو عملية معكوسة، تكون فيها الأموال ذات مصدر مشروع (مدّخرات، أرباح قانونية، ريع أعمال خيرية…) ولكنّها تُستعمل لغاية غير مشروعة، ألا وهي تمويل جريمة الإرهاب. ويضيف مرقص أن مراحل تبييض الأموال يمكن أن تتوالى في حيز زمني ضيق. كذلك يمكن أن تقع على نحو منفصل في مدى زمني أطـول. ومن المفترض أن تتخذ هذه المراحل، لدى التطبيق، منحى أكثر تعقيداً وأقل وضوحاً، مما يجعل أمر اكتشافها أشد صعوبة، خصوصاً عندما تكون الأموال قد خضعت لمستويات عدة من التدوير، مع الأخذ في الاعتبار بأن الفاعل يحاول لفلفتها بمجمل عناصر وظروف مختلَقة، بحيث يصعب دحضها للوهلة الأولى.
بناء على ما تقدم، لا بد من التأكيد على أن عملية تبييض الأموال لا تقتصر على تجارة المخدرات بل تشمل عدداً من النشاطات غير المشروعة على السواء. علماً بأن تجارة المخدرات هي من أبرز مصادر تبييض الأموال نظراً إلى المردود الضخم من الأموال المرشحة للتبييض والذي تدرّه هذه التجارة.

التضييق على الأنظمة «الماردة»
يؤكد مرقص أن الدوافع وراء تحرك الولايات المتحدة الخاطف والساحق في أحيان كثيرة هي نتيجة لما عانته ولا تزال من عمليات تمويل للإرهاب سبق أن دفعت الثمن باهظاً في عملية 11 أيلول (سبتمبر) 2000. ولذلك تراها اليوم، وبعد صدور قوانين عابرة للحدود في تأثيراتها Extraterritoriales/Supranationales، على غِرار USA PATRIOT  ACT، تصدر تعليمات جديدة عن هيئة FINCEN في وزارة الخزانة الأميركية لخنق مصادر تمويل الإرهاب ولكن أيضاً بغية التضييق على الأنظمة السياسية التي تصنفها بـ «الماردة» كسوريا وإيران والسودان، الأمر الذي ينعكس على القطاع المصرفي في لبنان. وبالفعل، فقد زار مساعد وزير الخزانة الأميركية لشؤون تمويل الإرهاب دانيال غلايزر بيروت عامي 2011 و2012 ليواكب هذه التشريعات بمزيد من الطلبات إلى المصارف اللبنانية وكذلك فعل زميله السيد دافيد كوهين.
يعتبرالجهاز المصرفي في لبنان من أهم القطاعات الاقتصادية في الدولة وأكثرها استقراراً، فهو لم يتأثر بالأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008، وهو يضم131 مصرفاً تدير مبلغاً يعادل أربعة أضعاف الناتج القومي اللبناني ويقدر بـ 88،5 مليار دولار.
ندق على الخشب؟ ربما هذا هو المطلوب. لكن الأهم الا نتكل على اللأدعية والتعويذات ليبقى القطاع المصرفي صامداً، خصوصاً أن المسألة تتوقف على مدى التزام القيمين على هذا القطاع المصرفي بالقوانين التي تحميه من دخول الخلايا الإرهابية إليه وإلا…

تعاط سياسي
مصادر مطلعة أكدت أن الملف المصرفي اللبناني محكوم من الإدارة الأميركية وهي المسؤولة مباشرة عن تحريكه وتجميده. ومنذ العام 2005 يتعاطى الأميركيون مع الملف المالي المصرفي على أساس سياسي وهي تدرك تماماً وجود مشاكل وخروقات تؤثر مباشرة على القطاع المصرفي لكنها تحاول التعاطي مع الملف وفق المعيار السياسي وانطلاقاً من موقع لبنان كبلد صديق وحليف للسياسة الأميركية – ولو في جزء منه – وليس وفق المعيارالقانوني. وعكس ذلك قد يضطرها إلى وقف التعامل مع لبنان. لكن إلى أي مدى يمكن التكلم عن وجود سرية في النظام المصرفي اللبناني؟
نعود الى الدكتور بول مرقص الذي يوضح بأن السريَّة المصرفيّة تتضمن حماية لعميل المصرف وتحول دون إطلاع الغير على حساباته وعملياته المصرفية بغير وجه حق. أما في لبنان، فتقوم السرية المصرفية على نحو شبه مطلق منذ العام 1956 حيال كل «سلطة عامة إدارية أو عسكرية أو قضائية» ما عدا استثناءات قليلة وبدهية. ومن هذه الاستثناءات مكافحة تبييض الأموال، وهو الاستثناء المستحدث تحت وطأة الضغوط الدولية العام 2001، ودعاوى الإثراء غير المشروع عديمة الوجود فعلياً، وقيام نزاع بين المصرف وعميله كما لو رغب المصرف في تحصيل دينه تجاه العميل، أو عند إفلاس العميل فيغدو لوكيل التفليسة حق الإطّلاع على الحساب.
اقتبست السرية المصرفيّة في لبنان أحكامها من النظام السويسري. لكن هذا النظام أضحى أقل تشدداً خلال الأعوام الخمسين المنصرمة مما كان عليه عند نشوئه العام 1934. وبذلك تُعتبر السرية المصرفيّة في لبنان اليوم أكثر تشدداً مما هي عليه في بلدان عدة طالما عُرفت بها كسويسرا ولوكسمبورغ، وخصوصاً لجهة قيام السرية المصرفيّة في لبنان في وجه السلطات القضائية والضريبية وأفراد عائلة العميل. وقد لعبت السريّة المصرفيّة دوراً حاسماً في حماية القطاع المصرفي والاقتصاد الوطني من الإنهيار في الحرب وتحديداً ما بين العامين 1975-1990 حيث ارتفع خلالها حجم الودائع المصرفيّة 392 مرة، في وقت كانت تتعثّر فيه سائر القطاعات. وساهمت السرية المصرفية في حماية الاستقلال من حيث أنها جذبت مودعين أجانب – خليجيين على وجه الخصوص – أصبحت لديهم مصلحة مباشرة في منع الانهيار الاقتصادي في لبنان حيث يودعون أموالهم في منأى عن رقابة حكوماتهم. إلا أن هذه السرية أنتجت، في آن واحد، عدداً من المساوىء وشكلت غطاءً لبعض التجاوزات والجرائم كفساد السياسيين والموظفين الكبار وجرائم تبييض الأموال وجرائم السرقة والإختلاس وإساءة الائتمان، وحرمان أصحاب الحقوق – كالدائنين – من إثباتها… فضلاً عن أنها لم تشكل عاملاً حاسماً لازدهار البيئة الاستثمارية، التي يعوزها إنشاء دولة الحق، وتطبيق القوانين وفاعلية القضاء وسائر عناصر الثقة العامة أيضاً.
ظلَ نظام السرية المصرفية شبه المطلقة في لبنان محط انتقادات دولية، اما لدواع سياسية او اقتصادية. إلا أن إعادة بحث السرية المصرفية، موضوعياً ظلت من باب «المحظورات» على المستوى اللبناني محاذرة المساس بفوائدها الاقتصادية بخلاف سويسرا مثلاً، حيث النقاش مستمر بين مؤيد لنظام السرية المصرفية ومعارض له. وليس من يجرؤ في لبنان على إعادة البحث في السرية المصرفية المتجذرة في التقاليد المصرفية وفي الوجدان الشعبي: حتى الميليشيات لم تُجبر المصرفيين على إفشاء السرية المصرفية زمن الحرب.

مكشوف امام الاميركيين
كلام علمي مدروس ومقنع، لكن بحسب مصدر مصرفي فإن الواقع ينقض العلم. فالسرية المصرفية بحسب المصدر ساقطة عند الأميركيين فهم مزودون بالداتا والبيانات وكل العمليات الخاصة بالشخصيات الرسمية لكن بطريقة غير شرعية. كلام خطير؟ لكنه الواقع. ويضيف المصدر إن قبول الولايات المتحدة بنظام السرية المصرفية في لبنان عائد إلى كونه مكشوفاً أمام إدارتها. لكن ما الذي وضع ملف المصارف وقضية وجود نشاط مالي لحزب الله داخل القطاع المصرفي؟
المسألة لا تمت بصلة إلى حزب الله مباشرة يقول المصدر، لكن القضية في حد ذاتها دفعت إدارة الخزانة الأميركية إلى طرح اكثر من سؤال عن جدوى اللجنة المكلفة بحث قضية تبييض الأموال. وفي التفاصيل كما يرويها المصدر أن الإدارة الأميركية وجهت كتاباً إلى حاكمية مصرف لبنان للإستفسار عن الأموال التي تم تهريبها من قبل هيئة الإغاثة التي كان يرأسها العميد ابرهيم بشير. وعملاً بالأصول حوّل مصرف لبنان الكتاب إلى رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي لكنه وضعه في الأدراج. وقبل عام ونصف العام عادت حركة التهريب لتنشط وقد تم كشف ذلك من خلال تحويل العميد ابرهيم بشير إلى إبنه في أوكرانيا مبلغ 3 ملايين دولار مما أثار أكثر من علامة استفهام لدى إدارة الخزانة الأميركية. فقرروا إرسال ملف إلى لجنة تبييض الأموال وحاكمية مصرف لبنان فحوله إلى النيابة العامة. ولفت المصدر إلى أن العميد بشير المتهم بقضية اختلاس اموال هيئة الإغاثة اثيرت عمداً في الإعلام بهدف امتصاص النقمة الأميركية، ولو لم يكن هناك رقابة من قبل الإدارة المالية على التحويلات من لبنان وإليه لا سيما المبالغ الكبيرة التي تخرج أو تدخل من دون التصريح عن مصدرها لما تم فضح قضية العميد ابرهيم بشير.

دق ناقوس الخطر
خيوط هذه القضية فتحت طاقة الشك عند الإدارة الأميركية. فإذا صح أن مبلغ 3 ملايين دولار قد تم تنظيفه، فما هي الجهة الرسمية التي تولت العملية. هذا ما أثار حفيظة الإدارة الأميركية بحسب المصدر. ويضيف بأن استمرار تعاطي القيمين على القطاع المصرفي والسياسي بهذه الخفة قد يدفع الإدارة الأميركية إلى إخراج لبنان من المنظومة المالية العالمية. وهنا لا بد من دق ناقوس الخطر. وكان يفترض أن يفهم القيمون أن هذا الأمر وارد في حال لم تستوعب جهات الرقابة على القطاع المصرفي هذا الأمر، والمؤشر البارز هو في إقفال البنك الكندي – اللبناني بعدما ثبت تورطه في غسل أموال لمصلحة عصابة كوكايين دولية، تربطها علاقات بحزب الله. وقد أقفل بقرار إداري من الخزانة الأميركية وليس وفق قرار قضائي. مما يعني عملياً أنه في لحظة ما قد ننام ونصحو على قرار إخراج لبنان من المنظومة المصرفية العالمية وبالتالي إفلاس المصارف وتوقف الحركة.
الثابت أن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة فهم الأمر، لكن هذا الأمر لم يهضمه بعد لا النظام القضائي ولا السياسي.
ننتظر ونتفرج على انهيار آخر صرح إقتصادي في البلد؟ أو نتحسر على قلاعه التي صمدت في وجه كل الحروب والإنهيارات المالية التي حصلت في الولايات المتحدة وأوروبا والخليج العربي؟
صدقوا. المسألة تستحق أن ندق على الخشب. واذا عدنا إلى الوراء نلاحظ أن جهود لبنان في التعاون الدولي لمكافحة تبييض الأموال في حزيران (يونيو) 2002 تكللت في حذف اسمه عن «لائحة الدول والأقاليم غير المتعاونة في مكافحة تبييض الأموال» («اللائحة السوداء») الصادرة عن مجموعة «غافي» بعدما كان أُدرج على اللائحة لأسباب مختلفة أبرزها وجود نظام متشدد للسرية المصرفية وإمكانية إنشاء مصارف على شكل شركات أوف شور Off Shore (المحصور نشاطها خارج لبنان). ثم ما لبثت شبكة FINCEN، التابعة لوزارة الخزانة الأميركية، أن رفعت القيود الرقابية عن المصارف والمؤسسات المالية اللبنانية.
بعد عام على خروج لبنان  من «اللائحة السوداء»، تم تحريره من لائحة المراقبة السنوية للمجموعة نتيجة زيارات ميدانية لبعثاتها المتخصصة إلى لبنان، وتم تطبيق التوصيات التي تنادي بها. فهل نصدق أننا صرنا خارج دائرة رقابة الإدارة الأميركية على القطاع المصرفي في لبنان؟ لا شيء يوحي بذلك.

جومانا نصر

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق