العراق: انطلاق مبكر للمعركة الانتخابية
على رغم ان موعد الانتخابات النيابية العامة في العراق، هو بعد خمسة اشهر، (حدد مبدئياً في نيسان – ابريل المقبل)، فان القوى والتيارات السياسية والجمهور العراقي يعدون العدة من الان، ويحسبون الحسابات المسبقة لهذه المعركة الموعودة ولنتائجها المرتقبة.
هذا الامر طبيعي بنظر العارفين في الشأن العراقي، فاللعبة السياسية في الساحة العراقية تبدو منذ اكثر من عامين وهي تدور في حلقة مفرغة، نتيجة استحكام الازمة السياسية وحالة الشلل المخيمة على عمل الحكومة وتشرذم المشهد السياسي العراقي والضربات المتعددة والمتتالية التي تلقتها القوى التي تدرج نفسها في خانة المعارضة، رغم انه ما من قوة سياسية عراقية ممثلة في مجلس النواب الا وهي تشارك في الحكومة، في مقابل الخيبات والاخفاقات العديدة التي واجهت حكومة نوري المالكي الذي اضطر في مراحل متعددة الى خوض صراع دائري مع العديد من القوى اوشك معه على السقوط والتداعي لولا نجدة الحلفاء والشركاء في التحالف السياسي العراقي في ربع الساعة الاخيرة، وخصوصاً بعدما اتسع نطاق جبهة المعارضين الداعين الى سحب الثقة البرلمانية من المالكي.
حيال ذلك كله، وحيال التردي على المستويات الامنية والاقتصادية والانمائية، فإن ثمة من بدأ يتعاطى مع مسألة الانتخابات المقبلة، ولا سيما بعد اقرار القانون الجديد المعدل لهذه الانتخابات واصرار مرجعية النجف على عدم الاقدام على اية خطوة تستشف منها الرغبة بتأجيل هذا الاستحقاق على اساس انه كوة الفرج والضوء الوحيدة التي تعزز الامل بإمكان الخروج من نفق المأزق السياسي الطويل في العراق والذي يكاد ان يبلغ حد الاستعصاء.
حراك سياسي
وعليه، انبعثت الروح فجأة في الحراك السياسي والاستعداد لهذه الانتخابات، فقد اعلنت المفوضية العليا للانتخابات في العراق ان ما يقارب 300 كيان سياسي سارع الى تسجيل نفسه لخوض غمار هذا الاستحقاق المنتظر.
ولم تكتف هذه الكيانات بحدود تسجيل مكان لها في لوائح هذا الاستحقاق، بل ان الكواليس السياسية في العراق بدأت تشهد احاديث متشعبة عن تحالفات معينة وعن اعادة تجميع للقوى وعروض للتحالفات والتفاهمات وكأن معركة هذه الاستحقاقات على قاب قوسين او ادنى، وخصوصاً بعد التعديلات التي ادخلت على قانون الانتخاب المقر حديثاً والذي رفع كما هو معلوم عدد النواب ووضع نظماً جديدة لاحتساب الاصوات وزاد عدد المقاعد التعويضية ومقاعد الكوتا، وهذا ما اعتبره البعض انه وسع الافق وزاد من فرص النجاح في هذه الانتخابات.
وعموماً، يمكن القول انه قبل اكثر من 150 يوماً على الموعد المبدئي لهذه الانتخابات، فإن ثمة من يرسم من الان معالم خريطة التحالفات والتفاهمات. فلقد كان لافتاً ان التحالف الوطني العراقي الذي يضم بين جنباته ابرز القوى والاحزاب والتيارات الشيعية في العراق، اكد على لسان رئيسه ابرهيم الجعفري انه متمسك بمكوناته خلال الانتخابات المقبلة، لكن ثمة من بدأ من الان التشكيك بمضامين هذا الكلام، منطلقاً من تجارب سابقة في هذا المجال.
فلم تكد تمر ساعات عدة على كلام الجعفري الذي بدا فيه واثقاً من امره، حتى صدر عن كتلة «دولة القانون» بزعامة رئيس الوزراء نوري المالكي وهي احد المكونات الافتراضية للتحالف الوطني ما يفيد بأنها ستدخل الانتخابات في قوائم عدة.
وهذا يعني بشكل او بآخر ان هذه الكتلة عازمة على خوض غمار المعركة الانتخابية المقبلة وفق القواعد والاسس التي خاضتها في الانتخابات الاخيرة حيث دخلت الانتخابات بناء على تحالفات وحسابات مختلفة تماماً، كانت فيها في واد وباقي مكونات التحالف ولا سيما المجلس الاسلامي العراقي الاعلى بزعامة عمار الحكيم و«التيار الصدري» بزعامة السيد مقتدى الصدر واحزاب اخرى مثل «الفضيلة» وحزب احمد الجلبي ومنظمة «بدر» وغيرها في واد اخر.
الرجل الاقوى
في ذلك الحين، اراد المالكي ان يخوض لوحده تجربته الخاصة وان يثبت لمن يعنيهم الامر داخل الساحة الشيعية العراقية وفي خارجها، انه هو الرجل الاقوى وان حزبه «حزب الدعوة» هو الكفة الاكثر رجحاناً في الساحة الشيعية العراقية. وقد ضرب المالكي في ذلك الحين بعرض الحائط كل الضغوط التي مورست عليه وخصوصاً من جانب طهران ومن جانب مرجعيات دينية عليا، بغية ضم جهوده وقواه الى جهود وقوة الفصائل الشيعية الاخرى، فكان في المحصلة ان قائمة المالكي حصدت اعلى المقاعد قياساً بباقي الاحزاب والكتل الشيعية الاخرى، لكنها ظلت مقصرة عن القائمة العراقية بزعامة اياد علاوي بثلاثة مقاعد مما اوجد واقعاً سياسياً معقداً زاد في منسوب الازمة السياسية في العراق عموماً. فعلى اساس هذه النتيجة تصدى علاوي مطالباً بتأليف الحكومة العراقية الجديدة متكئاً على عامل آخر، وهو ان قائمته تحوي كل الوان الطيف السياسي والمذهبي في العراق.
ولقد وقف المالكي في وجه هذا المطلب، فظهرت ازمة تأليف الحكومة وهي الازمة التي لم تأخذ طريقها نحو الحل الا بعد نحو ستة اشهر وبعد بروز تطورين اثنين:
الاول: ان القوى الشيعية الاخرى بادرت الى ضم مقاعدها الى مقاعد قائمة المالكي، وشكلا معاً ائتلافاً جديداً اسمياه «الائتلاف الوطني العراقي»، وكان ذلك تدبيراً تم بفعل ضغوط من جهات عدة بهدف ان تؤول رئاسة الوزراء في العراق الى المالكي ثانية، وهو تدبير ووجه بحملة تشكيك قانونية ودستورية.
الثاني: ان امر تشكيل الحكومة الجديدة لم يتم الا بعد ابرام اتفاق سياسي شامل رعاه رئيس اقليم كردستان مسعود البرزاني وتم التوصل اليه في اربيل واطلق عليه اسم «تفاهم اربيل».
عمليات ضغط
لقد قيل انذاك ان هذا التفاهم الذي اسند الى المالكي مجدداً رئاسة الحكومة العراقية، لم يولد الا بعد عمليات ضغط تمثلت بالاتي:
– تفاهمات تمت بشكل غير مباشر بين واشنطن وطهران.
– تخلي دمشق التي كانت يومذاك في حالة استقرار عن ورقة دعمها لعلاوي، وفريقه السياسي حيث كانت في ذلك على تفاهم مسبق معه.
– التوصل الى اتفاق على تقاسم جديد للسلطة في العراق يضع حداً لتفرد المالكي في الحكم من جهة، ويؤسس لمؤسسات حكم رديفة منها المجلس الاعلى للسياسات الاستراتيجية وتسند رئاسته الى علاوي، ليكون شريكاً في القرار الوطني العراقي، فضلاً عن عملية محاصصة للمقاعد الحكومية.
وكانت النتيجة ان عاد المالكي الى رئاسة الوزراء ولكن وفق ما يقول خصومه لم يلتزم بتنفيذ باقي مندرجات تفاهم اربيل.
وامر آخر ربما من شأنه ان يقلل من اهمية كلام الجعفري عن تماسك مكونات الائتلاف الوطني، وهو مسألة التناقض العميق في الرؤى والاداء بين المالكي من جهة والصدر من جهة اخرى، اذ لم يترك الصدر مناسبة في السابق الا واعترض فيها على اداء المالكي وانتقد نهجه وسياسة حكومته. ولقد كان دوماً سيف المعارضين له.
فضلاً عن ذلك، شكل الصدر رأس الحربة في المشروع الداعي الى تحديد ولاية رئيس الحكومة بولايتين فقط وهو امر يناقض تماماً ما يسعى اليه المالكي.
اختبار قوة
وفي كل الاحوال، ثمة من يقول بأن المالكي ما زالت لديه الرغبة القوية في اختبار قوته مجدداً في الشارع العراقي، وهو ربما يكون في طور السعي لتكرار تجربة الانتخابات الماضية والتي لم تنته بتقلص عدد المقاعد النيابية التي كان يطمح الى الحصول عليها، بل انه لم يفلح في ايصال اكثر من ثلاثة نواب سنة الى قوائمه، اذ لم يحالف الحظ كل الاسماء السنية الاخرى التي سماها على قوائمه وخصوصاً في محافظات الوسط.
واذا كان التحالف الوطني قد حافظ الى حد ما على لون من الوان التماسك بين مكوناته وان بدرجة عالية من الصعوبة، فاللافت كان التصدعات والهزات التي واجهتها القائمة العراقية بزعامة علاوي من داخلها ومن خارجها.
ولعل اول ضربة تلقتها هذه القائمة الاتهامات التي حاصرت الشخصية الثانية فيها اي نائب الرئيس العراقي السابق طارق الهاشمي الذي اضطر الى مغادرة بغداد قسراً، اثر صدور احكام قضائية مبرمة بحقه بتهم المشاركة في اعمال ارهابية ورعايتها. ولم تُجده نفعاً كل المحاولات الرامية الى اعادته الى الحياة السياسية.
ثم كانت الضربة الثانية بخروج العديد من اعضاء هذه القائمة من بين صفوفها ومنهم كتلة من نحو 5 نواب برئاسة النائب حسن العلوي، وكان في وقتها خروجاً مدوياً، حين شكلوا قائمة نيابية اخرى معارضة. واعلن العلوي وهو مفكر سياسي مرموق في بلاده اخيراً، انه في صدد خوض غمار الانتخابات المقبلة بقائمة مستقلة.
كما خرج نواب اخرون من القائمة عملوا تحت اسم «القائمة البيضاء».
اضافة الى ذلك، فقد بدا واضحاً ان عضو القائمة رئيس مجلس النواب العراقي النجيفي صار خارج القائمة ولديه طموحات واسعة تدفع به الى التفكير في ان يكون احد اقطاب الشارع السني العراقي. كذلك فإن نائب رئيس الوزراء العراقي صالح المطلك الذي يترأس بالاصل تياراً سياسياً واسعاً بدأ منذ فترة يعمل بمنأى عن القائمة العراقية ويريد ان يخوض غمار تجربة سياسية مستقلة تماماً.
القائمة العراقية
وعموماً، وبعد نحو 4 سنوات على الانتخابات الاخيرة في العراق، بدا واضحاً ان القائمة العراقية فقدت الكثير من زخمها وقوتها وتماسك مكوناتها، اذ بدت وكأنها شكلت على عجل وسرعان ما انفرط عقدها تحت وطأة الضغوط وتطور الاحداث وبدا علاوي الاضعف فيها.
وكان آخر الذين غادروها نهائياً محافظ نينوى اثيل النجيفي الذي شكل قائمة «متحدون» على اسس جديدة مختلفة تماماً.
والسؤال المطروح الان في الوسط السياسي في العاصمة العراقية هو: هل ما زال بمقدور علاوي ان يعيد احياء التجربة السياسية التي قادها في العام 2010، وهي تجربة شكلت في ذلك الحين نموذجاً لا بأس به، اذ هي عبرت حدود الطوائف والمذاهب من جهة، وضمت اليها اقطاب الشارع السني من جهة اخرى، فضلاً عن انها حملت في قوائمها شخصيات ذات خلفيات علمانية وهي واجهت فعلاً يومذاك ضغوطاً شديدة الوطأة من جانب هيئة المساءلة والنزاهة ادت الى اقصاء العديد من المرشحين على لوائحها وحرمتهم فرصة الوصول الى البرلمان؟
وفي كل الاحوال على علاوي ان يثبت خلال الاشهر القليلة المقبلة انه قادر على تجاوز الهزائم السياسية التي مني بها خلال الفترة الماضية من جراء ضغوط المالكي عليه ومحاربته له.
ومهما يكن من امر، فإنه من الواضح ان الانتخابات العراقية ستتم هذه المرة في ظروف داخلية اقليمية مختلفة تماماً، الامر الذي يراه البعض فرصة لتحولات وتغيرات عدة.
ويبقى السؤال المركزي الاساس، وهو: هل سيعود المالكي ثالثة الى رئاسة الحكومة العراقية ام لا؟.
ا. ب