«اتفاقات سحرية» تفتح ابواب الحل لـ «النووي الايراني»

ما بين المحتوى، والاطار الخارجي، ثمة اشكالية تثير فضول المتابعين لتطورات المباحثات التي جرت بين ايران والوكالة الدولية للطاقة الذرية في العاصمة السويسرية جنيف خلال الاسبوع الفائت. والتي انتهت بالتوقيع على خريطة طريق سمحت للمفتشين الدوليين بزيارة بعض المواقع النووية الايرانية، مقابل تخفيض العقوبات المفروضة على طهران. وأسست لمفاوضات جادة ومعمقة حول عمليات التخصيب، والى حلول للازمة بكل تفاصيلها.
الاشكالية يلخصها محللون بسؤال، او حتى تساؤلات محتواها التشكيك بان يكون الاتفاق وليد لحظته، او انه انتج بشكل سريع وبالصورة التي يتم الترويج له من خلالها. فالتسريبات التي يتم التعاطي معها تلمح الى احتمال ان تكون هناك قنوات حوار سرية منذ وقت طويل. وانها نجحت في انتاج ذلك الاتفاق الذي استقبلته الدول الغربية بارتياح واضح، وكشف بعضها عن انها كانت شريكة بصياغته، وتعاملت معه المجموعة العربية بقلق بالغ. والى ان ما تم الاعلان عنه ما هو الا جزء يسير من اتفاقات شبه شاملة تجري بلورتها راهناً، ومن الممكن الاعلان عنها خلال الاجتماع المقبل.
المتابعون يتوقفون عند كم من المؤشرات التي تدفع بهم نحو الاعتقاد بأن الاتفاق ليس مفاجئاً فعلاً، وان التواصل بين الفرقاء الغربيين وايران يعود الى فترات سابقة، وان هذا الاتفاق كان محصلة لحوارات طويلة وليس لجولة جنيف الاخيرة.
ابرز تلك المؤشرات ارتباط ذلك الاتفاق بحالة من الارتياح العام الاقرب للصداقة، التي ترافقت مع نوع من الغزل في ما يخص العلاقات بين الفريقين. وكذلك ارتباط الاتفاق بملفات اخرى اكثر تعقيداً من بينها ملف سوريا والعقوبات وغيرها.
ومن ابرز المؤشرات ان الولايات المتحدة التي تقود المجموعة الغربية في ما يخص هذا الملف قد غضت النظر عن تحفظات المجموعة العربية، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية ودول الخليج العربي التي ترتبط معها بعلاقات صداقة وشراكة شكلت وما زالت ركناً اساسياً من اركان الامن والاستقرار في المنطقة والعالم.
فالقراءات كانت تشير الى ان واشنطن لا يمكن ان تتخلى عن تلك العلاقات او تسمح باهتزازها، وتتوقف – راهناً – عند قدر من الحيرة بخصوص امكانية المواءمة بين هذه الفرضية وما يجري من تقارب غربي – ايراني تتحفظ عليه دول المنطقة وترفضه المملكة العربية السعودية الشريك المهم في صنع السلام والاستقرار العالمي.
قراءات
وسط تلك الحالة الجدلية، يبرز العديد من القراءات المتعلقة بذلك المشهد بما يحمل من تناقضات. وفي مقدمة تلك القراءات واحدة تعود الى تطورات الربيع العربي من زاويته السورية، وصولاً الى ما يعتقد انه مشروع اميركي لترتيب الصداقات والعلاقات على مستوى العالم، وبحيث يؤسس لتحالفات جديدة في المنطقة بديلاً للتحالفات القائمة والتي سادت طيلة القرن الفائت.
وفي هذا السياق يجري الترويج لقراءة تؤشر الى احتمال لجوء الولايات المتحدة الى خيار آخر بديل، مضمونه التعامل مع التيار الشيعي كبديل لجماعة الاخوان المسلمين الذين كانوا ابرز الحلفاء لواشنطن في بدايات الربيع العربي قبل ان تنقلب المعادلة، ويثبت «الاخوان» عدم قدرتهم على التعاطي مع الملفات الاقليمية والدولية بتناغم مع المصالح الاميركية في المنطقة. وفي هذه القراءة هناك من يعتقد بأن واشنطن التي اعتادت على وضع البدائل لكل اجراء او خطوة او مشروع، لجأت الى الخيار التالي والمتمثل بالتقارب مع ايران. وهو المشروع الذي – يبدو – انها اطلقته منذ زمن طويل، وضمن محادثات بمسارات سرية وغير معلنة، افضت الى الاتيان بروحاني رئيساً للبلاد، وبمشروع اصلاحي يقوم على فكرة التقارب مع الجمهورية الاسلامية التي يتوجب عليها تنفيذ كم من الالتزامات التي تتماشى مع المشروع الغربي المنطلق من فكرة الربيع العربي.
الا ان هذه القراءة وعلى الرغم من تمسك البعض بها، قد لا تصمد كثيراً امام معطيات سياسية واقتصادية وغيرها، من ابرز ملامحها ما تمثله المملكة العربية السعودية ودول الخليج العربي من قوة سياسية واقتصادية تشكل ابرز عناصر الاستقرار ليس في المنطقة فقط، وانما في العالم كله. وبالتالي تجمع التحليلات على وصف ذلك التوجه – إن كان قائماً فعلاً – بالمغامرة غير المحسوبة. والتي لا يمكن لدولة مؤسسات مثل الولايات المتحدة ان تقدم عليها.
فالخيار الايراني وعلى الرغم من اهميته المتمثلة بطي ملف من اكثر الملفات تعقيداً، لا يوازي في قوته وميزاته تلك الميزات القائمة حالياً من خلال القوة الخليجية، سياسياً واقتصادياً وغير ذلك. والتحول الصعب باتجاه ايران – إن حدث فعلاً – سيترك فراغات كثيرة وكبيرة لا يمكن سدها بمثل تلك البساطة. وقد يؤدي الى صراعات تقلب الموازين رأساً على عقب، وتحول المنطقة العربية الى بؤرة مشتعلة.
في هذا السياق يعتمد بعض المحللين على اساسيات السياسة الاميركية الجديدة والتي تقوم على فتح مسارات حوار غير معلنة، تماماً كما حدث بين «السي. آي. ايه» وجماعة الاخوان المسلمين، ومع بعض الدول وصولاً الى اتفاقات تؤسس للنظام الشرق اوسطي الجديد.
الاسلوب الايراني
وفي الوقت نفسه تعتمد التحليلات على الاسلوب الايراني في التعاطي مع الامور الاساسية، حيث يقوم النظام على مبدأ «التقية»، والذي يعني التعاطي مع الملفات الحياتية بشكل عام، والسياسية بشكل خاص باسلوب غير معلن. وبحيث يتم اظهار وجه معين، والسير في وجه آخر مختلف. ما يعني ان احتمال فتح بوابات حوار غير معلنة لا يتناقض مع المعتقد الشيعي، ومع ثوابت الجمهورية الاسلامية التي تتولى الحكم في ايران.
وفي الشق الاخر من هذه المطالعة التي تنفي تلك القراءة، التحفظات الاسرائيلية على الاتفاق الغربي – الايراني، وتلويح حكومة اسرائيل بعدم الاعتراف بالاتفاق، وبأن تل ابيب ستقرر بنفسها كيفية التعاطي مع هذا الملف، وذلك في تلميح واضح الى امكانية تنفيذ ضربة عسكرية منفردة ضد مواقع ايرانية.
ميدانياً، وقعت إيران مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية اتفاق «خريطة طريق» يوازن بين متطلبات الطرفين، ويؤسس لاتفاقات مستقبلية تتعلق بتفاصيل الملف كاملاً، وصولاً الى عملية التخصيب التي تشكل العقدة الرئيسية في الملف. ويسمح الاتفاق للمفتشين بالدخول إلى عدد من المواقع النووية.
وفي هذا الصدد، اعلن رئيس المنظمة الايرانية النووية علي اكبر صالحي ان طهران والوكالة الدولية للطاقة الذرية توصلتا الى اتفاق حول «خريطة طريق» تهدف الى الرد على الاسئلة الدولية المتعلقة بالبرنامج النووي الايراني. وقال صالحي في ختام اجتماع مع المدير العام للوكالة الدولية يوكيا امانو ان ايران وافقت خصوصاً على ان تفتش الوكالة الذرية موقع اراك الذي يضم مفاعلاً يعمل بالمياه الثقيلة، ومصنعاً لانتاج مياه ثقيلة. والذي يصنف من اهم المواقع النووية الايرانية.
وبحسب الاتفاق لم يرد ذكر موقع بارشين كواحد من المواقع المصرح بالدخول اليها، ما يعني عدم السماح لفرق التفتيش بممارسة نشاطاتها في ذلك الموقع الذي تصنفه الوكالة الدولية كموقع مثير للجدل، والذي تتحدث تقارير استخبارية غربية عنه كموقع شهد اجراء تجارب مرتبطة بالسلاح النووي. واكد مصدر مقرب من المحادثات إن الوكالة الدولية للطاقة الذرية لن يسمح لها بأعمال التفتيش في هذا الموقع «موقع بارشين العسكري» الواقع بالقرب من طهران، والذي يشتبه الغرب بأن إيران استخدمته لتنفيذ تجارب مرتبطة بالأسلحة النووية. وذكر المصدر أن الاتفاق لا يسمح للوكالة بالتحقيق في أنشطة بحثية أخرى مرتبطة بما تردد عن برنامج الأسلحة النووية.
وقال أمانو إنه سيتم تطبيق الاتفاق في غضون ثلاثة أشهر، وبحيث يدخل حيز التنفيذ من الطرفين. وينص الاتفاق على مناقشة القضايا العالقة في نهاية الثلاثة اشهر، ما يعني وضع جدول زمني لمناقشة جميع القضايا.
وبينما يروج الطرفان الى صعوبات في الوصول الى اتفاقات بشأن القضايا الجوهرية المتعلقة بالملف، يرى محللون ان اعتماد مبدأ التدرج في مناقشة القضايا والبت بها ينطلق من رغبة الطرفين في التأكد من حسن نوايا الطرف الاخر، وبحيث يتم الانتقال الى خطوة اخرى بعد استكمال الخطوة الاولى. وهكذا.
تسريبات
ومما يعزز تلك الفرضية التسريبات التي تتحدث عن مباركة غربية واسعة لتفاصيل «خريطة الطريق»، ولمشروع الاتفاقية من حيث المبدأ.
ففي الوقت الذي اعلنت بريطانيا عن عودة التمثيل الدبلوماسي بين لندن وطهران، وتبادل افتتاح السفارات في عاصمتي البلدين، قال وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس ان القوى الكبرى لم تكن بعيدة عن الاتفاق مع ايران. لكنه اشار الى بعض النقاط الخلافية والتي قال عنها انها لا تزال تشكل بعض الصعوبات. ومن بينها مسألة تخصيب اليورانيوم حيث تصر ايران على ان ذلك من حقها، بينما يرى الغرب انه لا حقوق في هذه المسألة.
وفي هذا السياق اشار وزير الخارجية الاميركي جون كيري الى مناقشة مسألة تخصيب اليورانيوم خلال المفاوضات. وجدد القول في هذا الاطار انه ليس هناك حق موجود لاي بلد في تخصيب اليورانيوم، رافضاً الطلب الايراني من المجتمع الدولي بالاعتراف بحقها في التخصيب على اراضيها.
في السياق عينه، اشارت مصادر برلمانية اميركية الى ضرورة التحوط في مجال المفاوضات، وبحيث يكون هناك حرص على عدم تقديم المزيد من التنازلات. وطالبت المصادر بان يتم تحديد موقف تفاوضي يكون بمثابة نقطة انطلاق للعملية ككل.
وقال مشرعون أميركيون انه لا بد من تشديد العقوبات على ايران لضمان ألا تقدم ادارة الرئيس باراك أوباما تنازلات كبيرة في اتفاق مقترح لوقف تطوير البرنامج النووي الايراني.
ويرى محللون ان هذه التصريحات تعتبر مؤشراً على حالة التشكيك التي تواجهها الولايات المتحدة عموماً، وادارة أوباما خصوصاً، اضافة الى جميع الجهات المعنية في الداخل والخارج، في مسعى لاقامة حوار مع الجمهورية الاسلامية بعد اكثر من ثلاثة عقود من انعدام الثقة.
وفي هذا السياق، اعتبر بوب كوركر اكبر عضو جمهوري في لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ ان العقوبات التي فرضت على ايران هي التي اوصلت الى هذا الاتفاق. واعرب عن خشيته من ان تتخلى الادارة الاميركية عن هذه العقوبات التي وصفها بأنها تشكل «ادوات النفوذ». مجدداً التأكيد على ضرورة التمسك بالعقوبات او حتى زيادتها كموقف تفاوضي.
اما السناتور الديمقراطي بوب مينديز رئيس اللجنة، فقد اكد ان اللجنة التي يرأسها، ستمضي قدماً في فرض عقوبات اضافية هذا الاسبوع لابقاء الضغط على ايران مع استمرار المحادثات.
الى ذلك، كشف وزير الخارجية البريطاني وليام هيغ عن خلفيات الاتفاق الذي تم التوصل اليه مع ايران. وقال هيغ الذي شارك في المحادثات ان هدفها التوصل الى اتفاق اولي يشتمل على تخفيف محدود للعقوبات المفروضة على الجمهورية الاسلامية قبل التوصل الى اي اتفاق نهائي. كاشفاً النقاب عن ان المحادثات التي جرت بين ايران والدول الكبرى والتي استمرت ثلاثة ايام في جنيف لم تسفر عن اي اتفاق يتعلق بعملية التخصيب. ومؤكداً انه سيتم استئنافها في المدينة السويسرية في 20 تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري. لكنه اشار الى ان معظم الثغرات التي تؤثر سلباً على المحادثات اصبحت ضيقة، وان العديد منها تم اغلاقها. لكن هيغ، ابدى – امام برلمان بلاده – تفاؤلاً بامكانية التوصل الى اتفاق، مشدداً على ان من بين الاهداف التي يسعى اليها الوصول الى اتفاق يؤسس لخلق الثقة، وتحديد المساحة اللازمة للتفاوض على اتفاق شامل ونهائي.
اتفاقات جزئية
في تلك الاثناء، وبينما يجري الحديث عن اتفاقات جزئية تضمنتها خريطة الطريق التي وقعت في جنيف، تشير معلومات متسربة الى ان اجندة الاجتماع تضمنت كماً اكبر من العناوين، والكثير من الملفات التفصيلية، والتي جرى التوافق على بحثها في الاجتماع المقبل الذي سيجري في العشرين من الشهر الجاري.
فالمعلومات الراشحة تحدثت عن اتفاق مبدئي يشمل خطوطاً عريضة مثل فترة تجريبية من ستة أشهر وتجميد كل البرنامج النووي أو قسم منه مقابل رفع العقوبات. كما تحدثت عن نقاشات اخرى، لم تستكمل بعد.
وبحسب «التسريبات» هناك كم من المطالب الجوهرية الواضحة، اضافة الى بعض المشاكل التي تجري معالجتها، ومن بينها مطالب اساسية تتعاطى مع القناعات الغربية.
من ذلك، اشتباه الغربيين بأن ايران تسعى لامتلاك السلاح النووي، وهو ما تنفيه طهران التي تؤكد ان برنامجها النووي طابعه سلمي.
وهناك قرارات لمجلس الامن الدولي، تتبناها الدول الكبرى وتطالب بتعليق تخصيب اليورانيوم، خشية بلوغه عتبة 90 % التي تمهد الطريق امام صنع سلاح نووي.
فالمعلومات المتداولة تشير الى امتلاك ايران 19 الف جهاز طرد مركزي، تقوم بتخصيب اليورانيوم بدرجات تتراوح بين 3،5% و20%. بينما يركز المفاوضون الغربيون في محادثاتهم على وقف التخصيب بنسبة 20%.
مخزون المخصب
وجرى التركيز على مستقبل مخزون اليورانيوم المخصب من قبل الإيرانيين بنسبة 20% والبالغ الآن 186 كغم، وكيفية التخلص منه أو تدميره أو وضعه تحت إشراف دولي أو بيعه.
كما جرى التركيز على مسألة صنع طهران جيلاً جديداً من أجهزة الطرد المركزي «أسرع بمعدل خمس مرات». والحديث عن صنع آلاف الأجهزة من الجيل الجديد.
وتم التركيز ايضاً على مفاعل أراك – الذي نصت خريطة الطريق على السماح للمفتشين بدخوله – والذي يعمل بالمياه الثقيلة، وهي طريقة أخرى تتيح على المدى الطويل صنع البلوتونيوم المستخدم لغايات عسكرية. وبحسب المعلومات المتسربة شددت فرنسا على هذا الملف، وقدمت تقريراً يشير الى ان هذا المفاعل يمكن ان يدخل مرحلة العمل الفعلي في نهاية السنة المقبلة، وسيكون حينئذ من الصعب التخلص منه. وهو التقرير الذي اعتبرته ايران متشدداً، ومعوقاً للمفاوضات، بينما نفت باريس ذلك.
وبحسب الصحافة الأميركية، فإن ايران موافقة من حيث المبدأ، على تجميد استغلال هذا المفاعل لمدة ستة اشهر مع مواصلة بنائه في الوقت نفسه.
كما جرى التركيز على مستقبل المنشآت النووية الإيرانية المقامة تحت الارض لا سيما موقع فوردو الذي يطالب الغربيون، بوقف العمل به.
وفي المقابل، هناك مبادرات تعتبرها المجموعة الدولية مقبولة، يمكن لإيران أن تحصل على تخفيف «محدود» لبعض العقوبات التي فرضها الغربيون والولايات المتحدة. ويمكن للغربيين ان يعطوا اولوية في بادىء الأمر في هذا الشق الى قطاعات البتروكيماويات والمعادن الثمينة. وتحدثت معلومات أخرى عن تحريك أصول ايرانية في مصارف دول أخرى لكن ليس في الولايات المتحدة، والمبالغ المعنية هي عشرات مليارات الدولارات.
امام ذلك، يبدو واضحاً ان كم المعلومات المتداولة والتي تصب في خانة التشكيك بنوايا الطرفين الغربي والايراني، يتوقف المتابعون عند الجولة المقبلة من المحادثات وصولاً الى الحكم على ما يجري، وعلى الذي يمكن ان تسفر عنه تلك الجولة.
احمد الحسبان