في أدائه سمة الكبار. وفي حضوره هالة يصعب تجاوزها أو نكرانها. إنه الممثل جهاد الأطرش الذي لبس ثوب الكاهن في مسلسل «أماليا» وجسد دور «الخوري الياس» بشفافية وروحانية أقنعت رجال الإكليروس قبل المخرج والجمهور. قد يكون الحنين الى زمن الكبار، أو الشوق الى صورة الفن المتأصلة في العمق صوتاً وصورة. عندما اتصلنا به كان منشغلاً في تسوية أوضاع «الحديقة» أمام بيته في منطقة الشوف، ومن هذه العلامة تدرك أن الأصالة ليست مجرد نزوة ولا خطاً عابراً في حياته. في أرشيفه أكثر من 20 ألف عمل انطلق بها من تلفزيون لبنان والاذاعة اللبنانية في العام 1962. ومن الآخر، آخر ادواره كانت بداية الحوار مع جهاد الأطرش…
إلى أي حد شكل دور «الخوري الياس» محطة في تاريخ مسيرتك الفنية خصوصاً أنك جسدت فيه روحية الكهنوت بامتياز؟
هذا صحيح. فالدور الذي لعبته في مسلسل «أماليا» كان مفصلياً علماً بأنني أديت أدواراً عدة في تلفزيون لبنان أكثر صعوبة ودقة، خصوصاً أننا كنا نمثل على الهواء مباشرة بسبب عدم وجود تقنية التسجيل المسبق آنذاك. وعندما عرض علي المنتج مروان حداد النص استوقفني دور الخوري الياس. وهو يعلم اساساً وجهة نظري ورأيي في الأدوار التي يمكن أن ألعبها، فوافقت لأنني شعرت أنه سيشكل مفصلاً في مسيرتي الفنية.
كيف يصلي الأبونا؟
لكن الأصعب من تأدية الدور كان إقناع الجمهور به فكيف توصلت إلى هذه المرحلة وأنت الآتي من طائفة مختلفة؟
بعدما قرأت النص اتصلت بالمخرج الكبير ألبير كيلو الذي تربطني به صداقة عمر ومشوار فني طويل. وعندما التقينا قلت له سأؤدي دور «الخوري الياس» في مسلسل «أماليا» وأريد أن تضعني في صورة مفصلة عن هذه الشخصية. يعني كيف يصلي «الأبونا» وكيف يحمل المسبحة وكيف يتعامل مع أبناء رعيته ومع الخورية… ولم أكتف بذلك، بل التقيت بكاهن رعية بيت الدين الأب إيلي أبو عبس فطلبت منه الإذن للدخول إلى الكنيسة وصرت أقرأ الرسائل وأراقب تفاعل المؤمنين مع رتبة القداس، كما تعلمت كيفية التعاطي مع أبناء الرعية من خلال القداديس التي شاركت فيها. وعندما أعود إلى البيت أضيء الشمعة وأصلي المسبحة. في اختصار كانت تجربة مهمة على المستويين الشخصي والمهني. أما على مستوى اختلاف الدين فأنا إبن الشوف ونحن نعيش هنا كعائلة واحدة من دون أن نميز بين مسيحي أو درزي كما تعلمت في مدرسة مسيحية وكانت علامة مادة الدين المسيحي تحتسب من أساس مجموع العلامات.
سبق واديت دوراً دينياً في مسرحية القديس شربل للمخرج ريمون جبارة فهل كان ذلك سبباً في إسناد دور الخوري الياس اليك؟
يجوز، لكنني علمت أن إسناد الدور جاء بالتوافق بين المنتج مروان حداد والمخرج سمير حبشي. وعندما لاحظ المخرج حبشي اهتمامي بالدور أعطاني الحرية المطلقة في التصرف وكان مرتاحاً جداً للروحية التي توصلت إليها.
الخوري الياس اعترض على فكرة زواج ابنه المدني بينما في الواقع تزوج مدنياً منذ 50 عاماً؟
صحيح لكن الدور يفترض أن أخلص له. وأنا اعترضت على فكرة زواج إبني مدنياً لأنه يتناقض ورسالتي الدينية وهذا ما تسبب في إصابتي بالجلطة الدماغية عندما علمت أنه عصى رغبتي وتعاليم ديانته المسيحية، وفضلت أن أتبع رسالتي الرعوية على عاطفتي الأبوية. لكن في النهاية انتصرت رسالة الأبوة لأنني لم أكن لأسامح نفسي فيما لو أصاب إبني مكروه.
زمن الكبار
من باب الصدف أن تكون دائماً بين أيدٍ أمينة كمثل المخرج ريمون جبارة وسمير حبشي؟
أنا حريص على ذلك. فأنا تلميذ المخرج جان فياض الذي كان يصر على تأدية الدور أمام الممثل. ويقال عني أنني صعب في التعامل مع الأشخاص الذين لا يقدرون رؤيتي. فإذا لم يكن المخرج صاحب رؤيا عميقة وقادراً على نقل تفاعلات الإنسان وحركاته كما هو الواقع أرفض التعامل معه. فالدراما الحقيقية هي عندما ينزل المخرج إلى السوق ويدخل المطبخ لتحضير القهوة مع ربة البيت. وإذا لم يتحول الكلام الوارد في النص إلى حركة وشعور وانفعال يفشل المسلسل مهما كانت أهميته. وللعلم فإن المخرج جان فياض كان أول من أدخل الكاميرا إلى المطبخ لنقل وقائع تحضير القهوة أو الأطباق ليكون أكثر التصاقاً بالواقع.
تتكلم بشوق وشغف عن الكبار ومنهم المخرج جان فياض. أين هم هؤلاء الكبار اليوم؟
المخرج جان فياض يجلس في بيته لأنه عندما طالب بأجر مرتفع بات موضوعاً على اللائحة السوداء، علماً بأنه كان ينجز حلقة بكاملها في يوم واحد وبواسطة 3 كاميرات. وكان يهتم بعمله ويتحمل مسؤوليته. وهذا ما يجب الإقتداء به، لأن مسؤولية المخرج كما الممثل والكاتب توازي مسؤولية وطن.
تتقن فن التجويد واللفظ السليم وهذا ما نفتقده اليوم. فما هي النصيحة التي تسديها الى الممثلين الذين لا يعطون اللغة العربية حقها في اللفظ؟
هناك تحوير في الكلام والمخارج وليس فقط مجرد أخطاء. مثلاً عندما أقول إذاعة أشدد على «ذ» وكذلك الحال في أحرف «ث» والـ «ذ». أما اليوم فقد نجد أن حرف القاف في كلمة «القانون» أو «الحق» يتحول إلى «أ». وهذا مؤسف حقاً.
ألا تنزعج عندما تسمع أخطاء الآخرين تتردد مباشرة على الهواء؟
أحياناً أسمعهم يقولون لي أنني أبالغ في التجويد أو أتدلل، لكنني مصر على أن احافظ على قيمة اللغة العربية. وأنا مشهور في كوني أحمل القاموس دائماً اثناء تدريب التلامذة والإعلاميين على اللغة. وعندما أشك في أصل إحدى الكلمات، أو في القاعدة الإعرابية، اعود إلى القاموس لنبش الحقيقة.
لماذا وصلنا إلى هذا الدرك من الإستخفاف بلغتنا؟
عندما زرت مكاتب محطة «سي إن إن» في الولايات المتحدة منذ مدة، سألت المذيعين والمذيعات عن طريقتهم في تحضير النشرة. فكان الجواب أنهم يأخذون الوقت الكافي لقراءتها قبل دخول الأستديو. لكن عندنا يكتفي بعض المذيعين في إلقاء نظرة على العناوين علماً بأن التحضير ضروري من باب الإحترام للناس ولمحطته وللخبر كما لنفسه.
من الادوار التاريخية الى الدراما الحديثة
إهتمامك باللغة العربية وإتقانك لها كانا وراء إسناد الأدوار التاريخية اليك؟
أديت ادوار كل فلاسفة العرب والشعراء وعلماء العرب في وقت كان زملائي يؤدون الدراما الحديثة. ومن دون شك كان لإتقاني اللغة العربية بجدارة الأثر المباشر في إسناد الأدوار التاريخية الي.
لكنك أيضاً دخلت مجال الدراما الحديثة؟
صحيح فقد شاركت في «نساء في العاصفة» للكاتب شكري أنيس فاخوري ثم أكملت معه في «قصة حب» الذي اديت فيه دور والد الممثل عمار شلق الذي يغرم بفتاة معوقة (نادين نجيم) ولم أعترض على فكرة الزواج بها، لأن أهمية الإنسان تكمن في عقله وليس في مظهره الخارجي. ثم شاركت في مسلسل «أجيال» للكاتبة كلوديا مرشليان وأخيراً «أماليا» للكاتب طارق سويد. وأعترف ان كل الادوار كانت مقنعة بالنسبة الي وإلا ما كنت لأوافق على أي منها.
من هي الوجوه القديمة التي تحن إليها عند دخولك الأستديو اليوم؟
من ذاك الزمن أعشق وفاء طربيه وألفيرا يونس ومارسيل مارينا وسميرة بارودي وهند طاهر… كلهم يعودون إلى الذاكرة لا سيما في طريقة تعاملنا كزملاء داخل الأستديو ومساندتنا لبعضنا البعض. كما أبكي من غابوا عنا في الجسد ومن لا يزالون يعيشون في خفايا الذاكرة والزمن بعدما أقعدهم المرض ومنهم الممثلة القديرة سعاد كريم.
لكن الواضح أنك لم تجد صعوبة في التعامل مع الجيل الجديد؟
إطلاقاً وهناك الكثير ممن أقدر وأحترم طريقة ادائهم وتمثيلهم وكيفية تقبلهم للملاحظات.
لماذا ابتعدت عن العمل الإذاعي؟
وأين نحن من العمل الإذاعي اليوم، الذي كنا ننجزه ونقدم من خلاله الفن الراقي والمعلومة الشفافة والثقافة التي لا بديل عنها؟ وإلى جانب العمل الإذاعي كانت لدي صولات وجولات في الإخراج الإذاعي مع الفنان محمد كريم الذي كان يرفض تسليم مهام الإخراج لأحد سواي لأنه كان يدرك أنني صعب ولا أقبل بالإستسهال. واللافت أن كبار الممثلين نجحوا إذاعياً قبل أن ينتقلوا إلى شاشة التلفزيون مما يؤكد على اهمية مدرسة الإذاعة لأنها تصقل الصوت واللفظ، خصوصاً ان الإتكال يكون على السمع فقط.
هل من سيناريو جديد تقرأه حالياً؟
حتى الساعة لا شيء. وفي العادة أستغل هذا الوقت للعودة إلى الكتب والمراجع. كما أقرأ كتاباً لـ «طه العبد» الذي عمل كمنفذ في الدوبلاج عن «الأداء والإلقاء» لأضع له المقدمة نزولاً عند طلبه. ج. ن