هم في الأساس شباب جامعيون وطلاب ثانويون، نزلوا الى الأرض لاختبار العلاقة مع الشجرة ورائحة الأرض، والتعرف الى معاناة المزارع وتأمل قطرات عرقه المتصببة على التراب، والأهم ما سيحصدون من «غلة» في نهاية اليوم. طموح متواضع؟! صحيح. لكن مجرد ان نعلم بأن هذه المجموعة جاءت بناء على الدعوة التي أطلقتها مؤسسة «لابورا» تحت عنوان: «قطف معنا تفاح بلادك» فهذا يعني أن ثمة عقلية جديدة بدأت تترسخ في أذهان جيل الشباب. اذاً الحملة انطلقت، وذاك المشهد لن ينساه مزارعو التفاح في منطقة الشمال أبداً. ومن تعالى على نعمة القطاف بأيدي الطلاب الجامعيين وتلامذة المدارس هذه السنة بحجة انعدام الخبرة وأجرة اليد العاملة المياومة، سيتحسر حتماً على ذلك في السنة المقبلة بعدما لمس النتائج في خبرة القطاف والتوضيب وحتى في عملية نقلها إلى الشاحنات. أما أجرة اليد العاملة «فمع حبة مسك». اذاً هذه السنة تفاح، ولاحقاً الزيتون والاجاص وربما الكرز. قولوا الله!
إستكمالاً لرسالتها الهادفة الى دعم الشباب اللبناني للحد من الهجرة وغزو اليد العاملة الأجنبية للأرض ومواسم لبنان، نظمت مؤسسة «لابورا» في إطار برنامج «فرص عمل موسمية للشباب» في المناطق اللبنانية كافة، حملة «قطف معنا تفاح بلادك» بالتعاون مع أصحاب الأراضي والبساتين في منطقة الشمال، بهدف تأمين بعض المداخيل للشباب الثانوي والجامعي في بداية السنة الدراسية. أما العنوان الأبرز فتمثل في الشعار الآتي: «أرضك بتحبك، اهتم فيا».
تجاوب سريع ولكن
«عندما أطلقنا الشعار لم نفكر بأن التجاوب سيكون سريعاً أو على الأقل على هذا الحجم» تقول منسقة برنامج لابورا – الشمال ميرنا بشارة، مضيفة: «الكل يعلم أن الشباب الجامعي وطلاب المدارس والمعاهد المهنية يبحثون عن عمل موسمي خلال عطلة الصيف. ونحن هنا في الشمال نلاحظ ذلك من خلال نزولهم إلى سوق العمل المتمثل في القطاع السياحي، يعني فنادق ومطاعم ومقاهي الأرصفة والملاهي الليلية. المهم أن يؤمنوا مصروفاً إضافياً يساعدهم على تأمين جزء من قسط التسجيل في الجامعة أو لشراء الكتب والمستلزمات المدرسية. لكن المفاجأة كانت في أعداد الطلاب الذين تقدموا لتسجيل أسمائهم في مكتب لابورا – الشمال، مما شجع المعنيين على الدخول في المرحلة التالية».
وتوضح بشارة أن «اندفاع الشباب حمسنا على القيام بالخطوة التالية التي تمثلت في الإتصال بالتجار الذين يضمنون الأراضي الزراعية. يومها تلقينا وعوداً عدة. لكن المفاجأة كانت في عدم وجود ثقة بالشباب اللبناني وقدرته على الإلتزام بأعمال الأرض والقطاف. فالقناعة الراسخة في الأذهان عن الشباب اللبناني أنه من النوع الذي لا يتحمل المسؤولية ويكتفي في تحصيل مصروفه من أهله وتمضية وقته بين الملاهي الليلية أو التكلم على الخليوي أو الجلوس أمام شاشة الكومبيوتر. هذه الصورة هزتنا في العمق، لأننا ندرك ان هناك فئة لا يستهان بها من الشباب اللبناني الفاعل على الأرض ويملك خبرة ولو أولية عن عمليات القطاف. لكن لا نعلم لماذا طلع التجار بهذه النتيجة؟».
إقناع التاجر قبل المزارع
في أي حال لا المنسقية في البرنامج استسلمت لهذا التفصيل ولا الشباب الجامعي. وتضيف ميرنا: «لا نخفي أننا اشتغلنا كثيراً على هذه الذهنية لأنه كان من الضروري إقناع التاجر قبل المزارع. وهذا منطقي. فالتاجر يفكر في مصلحته الشخصية ونسبة الأرباح التي سيجنيها من كل مشروع. وأعترف بأننا في النهاية نجحنا في إقناع البعض في تغيير الذهنية لكن متأخرين. واستطعنا ضمان مشروعين فقط. ولو توافر لنا عدد أكبر من المشاريع لتمكنا من تشغيل الـ 150 طالباً الذين تقدموا بطلبات للمشاركة في حملة القطاف».
ومن العوائق التي واجهت منسقي الحملة، تزامن بدء الحملة مع موعد افتتاح السنة الدراسية في منتصف شهر ايلول (سبتمبر)، «ولو لم نأخذ الوقت في إقناع التجار لتمكنا من البدء في الحملة في وقت مبكر، أي قبل دخول التلامذة إلى مدارسهم. وبذلك اقتصر العمل في الأرض على طلاب الجامعات والمهنيين».
السابعة صباحاً كان يتجمع الشباب للنزول إلى بساتين التفاح، وتضيف ميرنا: «لقد أثبتوا أنهم على قدر من المسؤولية والأهم أننا صرنا نلاحظ وجود يد عاملة لبنانية في الأرض بدلاً من الأجنبية». لكن هل نفهم إنها الحاجة وانعدام وجود فرص عمل موسمي هذه الصيفية بسبب عدم قدوم السياح وراء نزول الشباب إلى الأرض؟ «قد يكون ذلك من الأسباب المباشرة، لكن الثابت أننا اكتشفنا تغيراً ما في ذهنية الشباب اللبناني الذي بدأ يتعلق أكثر في الأرض. وقد تجلى ذلك في نزوله إلى الأرض واستعداده لتلقي الأوامر وقبوله بالأجر الذي يقبضه العامل الأجنبي المياوم في يوم القطاف».
التسعيرة حددت بين 20 ألف ليرة و30 ألفاً في اليوم الواحد، ولكن بعض المزارعين اقر بعجزه عن دفع هذا المبلغ. وإنطلاقاً من ذلك خصصت مؤسسة لابورا صندوقاً تعاضدياً لدعم موازنة الطلاب وسد عجز هذه الفئة من المزارعين، «وأحياناً كنا نزيد القيمة المحددة لتصل إلى 30 ألفاً بهدف تشجيع الطلاب وتحفيزهم».
القطاف للفتيات والتوضيب والنقل للشباب
المنسق في حملة لابورا – الشمال الدكتور سايد أنطون الذي شارك الشباب في حملة «قطف معنا تفاح بلادك» أوضح أن أهداف الحملة تنطلق من مبدأ تعلق الشباب اللبناني بأرضه خصوصاً أن الغالبية تتلقى تحصيلها العلمي والجامعي وتخطط للسفر مباشرة إلى الخارج. واعتبر أن عامل الوقت أعاق العمل «لكننا أخذنا العبرة من دروس السنة». فما هي الملاحظات التي سجلها على الأرض
من خلال مشاركته الطلاب حملة القطاف؟
«إذا انطلقنا من أهداف الحملة المتمثلة في عودة الشباب المسيحي إلى الأرض سواء في التوظيف أو مشاركته في الحياة الزراعية نرى أنها أعطت مفعولاً ولو متواضعاً كونها الخطوة الأولى في رحلة الألف ميل. إلى ذلك لا بد من أخذ معايير وصعوبة العمل في الأرض. وهذا تحد جديد بالنسبة إلى الطلاب. فطبيعة الأراضي المزروعة بالتفاح هي في غالبيتها وعرة ومتدرجة، أضف إلى ذلك أنه بعد القطاف هناك عملية التوضيب في الصناديق التي يستوعب كل منها نحو 25 كيلو، ويفترض نقله إلى الشاحنة أو السيارة التي تبعد عن المكان نحو 100 متر. إذاً هي عملية شاقة «لكن روح التعاون بين الطلاب ساهم في توزيع المهام. فتولت الفتيات أعمال القطاف بمساعدة الشباب طبعاً. في حين اقتصرت عمليات النقل والجزء الأكبر من التوضيب على عنصر الذكور».
لا ينكر الدكتور سايد أنطون حاجة السوق في مواسم القطاف الى اليد العاملة الأجنبية، «فحتى الساعة ما زلنا عاجزين عن تعبئة السوق باليد العاملة اللبنانية وما زلنا نحتاج إلى السورية لكننا على الأقل استطعنا أن نسد الحاجة بنسبة 5 في المئة منا يؤكد قدرتنا على إيفاء نصف حاجة السوق من اليد العاملة اللبنانية.. وهذه النسبة مهيأة للتصاعد إذا ما تحضرنا للحملة في وقت مبكر في السنة المقبلة». ولفت إلى روح التعاون التي تجلت بين المزارع والشباب «حتى انهم شعروا بأنهم في بيوتهم في بعض الأحيان».
التزام بالارض
نعود إلى الأهداف المعنوية وهنا يستوقفنا كلام بعض الطلاب الذين شاركوا في الحملة واعتبروها مفصلية في حياتهم «لم أفكر يوماً ان أنزل إلى أرض زراعية واشارك في أعمال القطاف علماً بأن جدي يملك قطعة أرض، وفي كل سنة كنا نراقب العمال السوريين الذين يتولون أعمال قطاف التفاح والزيتون». ويؤكد الطالب أنطوان الدويهي أن مشاركته في حملة «قطف معنا تفاح بلادك» عزز من معنوياته الوطنية وصار يفهم اكثر معنى التعلق بالأرض. ويضيف: «كنت حريصاً على كل حبة تفاح تسقط من الشجرة، ومهتم للتراب الذي تدوسه قدماي. حتى العلاقة بالشجرة تصبح مميزة ورائحة التراب العالقة على الملابس تشبه أجمل أنواع العطور».
من المقرر ان يغادر أنطوان لبنان بعد أسبوع لمتابعة تحصيله العلمي في إحدى الجامعات الأميركية، لكنه اكد أنه سيعود إلى تلك الشجرة التي ساعد في قطاف التفاح عن أغصانها وحفر على جذعها إسمه وتاريخ أيام القطاف. لكن هل تكفي حملة قطاف واحدة لتعزيز علاقة الشباب اللبناني بالأرض؟
نعود إلى ميرنا بشارة التي أوضحت أن الهدف الأساس من الحملة يتمثل في تعزيز روح التزام الشباب اللبناني بالقضية الأم وهي الأرض حتى يتعرف إليها أكثر، من خلال التواصل المباشر معها ليدرك أهميتها على جميع المستويات الوطنية والإقتصادية والبيئية. وهذا يساعد على تعلق الشباب بالأرض وعدم إقدامهم على بيع شبر واحد منها في المستقبل. النقطة الثانية هي تحمل الشباب المسؤولية والإتكال على الذات من خلال العمل في الأرض والإستيقاظ في ساعة مبكرة والإقتناع بالمصروف اليومي واعتباره جزءاً من قسط التسجيل الجامعي أو لشراء الكتب والقرطاسية. صحيح ان المبلغ لم يتجاوز الـ 350 ألف ليرة لبنانية كبدل ساعات عمل على مدى أسبوعين لكنه شكل حافزاً للطلاب للعودة إلى الارض في السنة المقبلة ومضاعفة ساعات العمل لزيادة الإنتاج والراتب».
تدريب على القطاف
التعلق بالأرض يعني التعرف إلى طبيعتها ومشاكلها ومعاناة المزارع، وحتى لا تكون الخطوة ناقصة عمدت لابورا إلى تخصيص ساعات إرشاد وتدريب للطلاب قبل النزول إلى ورش القطاف. وشملت الدورات التي وزعت على حصص قليلة التعرف إلى الأرض وكيفية القيام بأعمال القطاف والتوضيب والتمييز بين الثمار الناضجة وتلك التي لا تزال تحتاج إلى وقت لتنضج على «أمها»، إضافة إلى بعض التعليمات عن المواد العضوية والأسمدة. وتولى عملية التدريب مهندس زراعي ومتخصصون في مجال العمل في الأراضي الزراعية.
إلى جانب حصاد المنتوج الزراعي كان هناك حصاد معنوي على حد تعبير ميرنا بشارة. «فروح التعاون التي لمسناها اثناء عمل الشباب في الأرض كانت مميزة. أضف إلى ذلك اننا كسرنا الصيت الشائع بأن الشباب اللبناني «غنوج» بطبعه ولا يتحمل العمل في الأرض، وهمه الوحيد السهر والتحدث على الخليوي. كما عززنا من فكرة التعاون بين المزارع اللبناني والتاجر والعامل اللبناني بدلاً من الأجنبي. وأكدت بشارة ان مؤسسة لابورا ستبدأ العمل للتحضير لمواسم السنة المقبلة، من خلال فتح قنوات الإتصال مع عدد أكبر من التجار. وقد تم الإتفاق حتى الساعة مع عدد منهم وأبدى كل منهم استعداده لتشغيل 50 طالباً كحد ادنى، على أن يبدأ العمل منتصف شهر تموز (يوليو) المقبل ومنهم مطلع شهر آب (اغسطس) هذا عدا عن المزارعين الذين تم التعاون معهم هذه السنة مما يعني تشغيل يد عاملة لبنانية مضاعفة. وهكذا نضمن أن تبقى أموال اللبنانيين في الداخل بدلاً من تحويلها إلى الخارج من خلال اليد العاملة الأجنبية.
رئيس مؤسسة لابورا الأب طوني خضرا شدد على أهمية العمل في الأرض خصوصاً أنه يساعد في تجذر الإنسان بوطنه وأرضه، إذ «لا يكفي أن نتكلم دائماً عن أهمية التعلق بالأرض وعدم بيع شبر منها إلى الأجانب ونحن لا نملك معلومة واحدة عن هذه الأرض ولم تطأ أقدامنا أرضاً زراعية ونشم رائحة التراب ونتحسس تعب المزارع ومعاناته». وأعرب الأب خضره عن تأثره بفرح المزارع اللبناني ولا سيما مزارعي التفاح باليد العاملة اللبنانية لأنهم تعرفوا من خلال الحملة على رضى الآباء والأجداد.
إلى ذلك عبر الطلاب عن سعادتهم في هذه التجربة التي إختبروها للمرة الثانية مع لابورا، وشجعوا رفاقهم على خوض التجربة شاكرين لابورا على «تأمين فرص عمل موسمية لهم والتي تساعدهم على تأمين بعض المداخيل على أبواب الجامعات والمدارس». كما لفت الشباب الى «أنهم سيتوجهون الى لابورا لتأمين فرص عمل لهم خلال الفرص المدرسية والجامعية، وسيشجعون زملاءهم في المدارس والجامعات على تجربة العمل في الأرض، لأنها تجعل الإنسان يشعر بأنه يأكل فعلاً من عرق جبينه».
تأخير افتتاح العام الدراسي
لابورا وعدت الطلاب بإيجاد فرص عمل موسمية لهم، ونفذت وعدها. أما الخطوة التالية فبدأ الإعداد لها بحسب المنسق في مكتب لابورا – الشمال سايد انطون وتتمثل في التنسيق مع المدارس الكاثوليكية لتأخير مواعيد فتح ابواب السنة الدراسية حتى مطلع تشرين الأول (اكتوبر) كما كانت العادة بدلاً من منتصف أيلول (سبتمبر) أو في الأسبوع الأخير منه، لأن ذلك يعيق من تسجيل تلامذة المدارس خصوصاً ان الغالبية تضطر إلى إقفال بيوتها الجبلية ومغادرة المنطقة بدءاً من منتصف ايلول (سبتمبر). وقد رفع المنسقون هذا الطلب إلى رئيس مؤسسة لابورا الأب طوني خضره لدراسته وإحالته بعد الموافقة على الأمانة العامة للمدارس الكاثوليكية.
أما على مستوى التجار فالواضح ان العقلية بدأت تلين بحسب المواسم وحتى الساعة هناك لائحة لا يستهان بها من التجار المتعاونين مما يساعد في تشغيل أكبر نسبة من اعداد الطلاب الجامعيين ومنهم من حملة «الماسترز» والمهنيين وتلامذة المدارس. ومن المقرر أن يشمل موسم القطاف في السنة المقبلة الإجاص إلى جانب التفاح. أما موسم الكرز فمن المستبعد أن يتم قطافه على يد الطلاب اللبنانيين لأنه يبدأ في شهر حزيران (يونيو) شهر الامتحانات.
ويبقى موسم الزيتون! فهل ينجح التلامذة في هذا التحدي خصوصاً ان معايير قطاف الزيتون تتطلب جهداً وتعباً مضاعفين؟ وإذا لم ينجح الرهان على الزيتون هناك العنب والكرز. المهم أننا أنزلنا الشباب اللبناني إلى الأرض وعززنا روح التجذر عنده. ومن حفر إسمه على شجرة تفاح هذه السنة وشجرة كرز في السنة المقبلة سيعود إليها ولو بعد اعوام برفقة أولاده وربما أحفاده إذا ما قرر الهجرة يوماً.
جومانا نصر