مهرجان

سليم باسيلا: الأدب مني ولست أدري كيف جئته أو جاءني!

في كتابه الأنيق «أوراق… إليها» وهو آخر كتاب أصدره المحامي والأديب سليم باسيلا، كتب يقول: «لم أعد أملك من أيامي إلا ان اعيش منها بعضاً منها، او ما بقي لي من بعضها». وفي شهر تشرين الاول (اكتوبر) سنة 2013، رحل سليم باسيلا الذي عرفته في سنة 1963، بعدما عرفت شقيقه المحامي والأديب أيضاً، جوزف باسيلا، الذي كان يتقاسم وإياه المكتب نفسه، في احدى بنايات ساحة النجمة، بالقرب من البرلمان، ومن «دار الكتب الوطنية». وبعد سنوات طويلة، أي في العقد الثامن من القرن الماضي عرفت شقيقتهما الأديبة والصحافية نازك باسيلا، حيث توليت نشر حلقات كتبتها عن سيرة الشاعر عمر أبو ريشة، في مجلة «الاسبوع العربي» وغيرها من التحقيقات المختلفة… وعلى هامش رحيل سليم باسيلا (1923 – 2013) أستعيد بعض ما أعرفه عن مسيرته الادبية، من خلال لقائي الاول به.

في الكتاب نفسه، اي في «أوراق… اليها» كتب سليم باسيلا يقول:
«قالت: كيف اعطيتني من حبك، كل حبك، وأنت تعرف أنك ستموت، غداً، او بعد غد.
قال: أعطيتكِ من حبي، كل حبي، لأنني اعرف انني سأموت غداً، او بعد غد».

أديب دون أن يدري!
إذاً، لا بدّ من الموت، طال الزمن ام قصر، «انه المنتصر الوحيد» كما قال ذات يوم جوزف ستالين.
الى جانب ممارسته لمهنة المحاماة، كان سليم باسيلا يقرأ كثيراً، ويكتب قليلاً. وكان يتتبع بكثير من الاهتمام مختلف النشاطات والتيارات الأدبية في العالم، من دون تمييز بين بلد وآخر، حتى بلغ عدد الكتب التي قرأها بالآلاف… وكان يكتب المقالات في الصحافة اللبنانية، والاحاديث في الاذاعة…
في بداية حديثي معه، حاولت أن أعرف «كمية» المحامي في شخصيته، ومن ثم «كمية» الأديب؟ ومن ثم العلاقة بينهما؟
بلا مواربة، أو بلا لف ودوران، قال لي: «انني محام. محام فقط. لذا، تبقى عندي، دعوى الناس بحرياتهم وأموالهم وحرماتهم، أجلّ القضايا شأناً، وأجدرها بتعهد، وأحقها بإهتمام. ولذا، يبقى تقليب اللسان فوق البراهين أشهى ما أشتهي في صناعات الكلام».
وعن الناحية الثانية قال: «أما الأدب فانه مني بحيث لا أدري كيف جئته او جاءني. وخلاصة ما بيني وبينه، انني اقرأ، في الأدب، كلما اشتقت روائح التراب المطمور، والارائك الخضر، واصوات الطواحين التي توشك البقاع البعيدة، ان ترجعها. واكتب، في الأدب، لأتخفف من ملالات، تلج عليّ، حتى لتكاد تمسك على انفاسي. فاذا كان الأدب بين الشوق ذاك، وهذه الملالات، فأديب، أنا، دون أن أدري».

تقليد أمين نخلة!
يومها، كان سليم باسيلا يكتب بأسلوب مختلف، محاولاً تقليد أمين نخلة… ولذلك قلت له: يتهمونك بالتأثر بصاحب «المفكرة الريفية»؟
فقال لي: «أمين نخلة صانع لآلىء. وهو ابرع من صوّر خاطرة بحرف ، وأقبل، بين اللين والطراءة، على الكلمات، يحرّك قاماتها الرقيقة برؤوس الأصابع، أما في مذاهب الفكر، فليس مما يؤخذ عنه، إلا القليل».

 العيش في الكلمة!
لم أقتنع بهذا الجواب، أو بالأحرى، لم يكن في مكانه الصحيح… فقلت له: عندما تكتب عن موضوع ما، يلاحظ انك تعطي نفسك النصيب الأوفر من الاهتمام وتعطي الكلمة المطربة نصيباً كبيراً. اما الامور الاخرى فتأتي في درجات ثانوية. فهل هذا صحيح… ولماذا؟
قال: «ليست الكلمة عندي وسيلة من وسائل التعبير. انها وجه من وجوه العيش. انني أعيش في الكلمة. وأعيش عليها. وهي ليست تعبيراً عن واقع. او حالة، او احسوسة. انها الواقع نفسه، والحالة والاح
سوسة. لذا تراها اكثر ما تكون تحملاً لمزاجي، أنا، وعصبي، حتى في الموضوعات التي تفترض موضوعية مطلقة. وقد يكون هذا ما يسيء الى الصنيع الفني. الا ان الصنيع الفني، هذا، لا يعني بقدر ما يعني ان اعيش، وان ارتاح الى مذاهبي في العيش، وان تبقى الكلمة وجهاً من وجوه هذا العيش. ثم ألا ترى في تداول بعض الكلمات من الطرب ما ليس على لسان بلبل يلوى على صدره بين ظل وماء، او بين فل وضيء، واقحوان مفلج؟ وهل تراني اطمع من الدنيا بأكثر من ان اطرب، بكلمة هي اطيب، عندي، من وصل او تعليل بوصل…».

لبعض الكلمات حلاوات
وفي الاطار نفسه، قلت لسليم باسيلا: استعمالك لبعض الكلمات والتعابير وتكرارك لها بات يقر بها من الكليشهات، فهل تجد صعوبة في الاقلاع عنها؟
فقال: للكلمة في  فمي طعم يكاد يكون طعماً مادياً. ولبعض الكلمات حلاوات يطيب لي ان استعيدها، فأستسيغها، وأذوقها، واسترد نكهتها مرات. لذا تراني اعود اليها في شوق المحتاج الى ما يطفىء ما بين اللسان والحلق».
واضاف: «هذه التعابير «المكرورة» لا ارى صعوبة في الاقلاع عنها. انما ارى حراماً ان تضيع لذائذها عليّ. واما ما بيني وبين هذه «التعابير والمفردات» فلن ينقطع ما دام حظي من الدنيا ان اكتب. واطرب… واحاول ان احصي نجوم الليل…».

بين الشعر والقصة
كنت اعرف ان علاقة سليم باسيلا بالشعر تتميز بنظرة خاصة، ولذلك سألته: كيف تفهم الشعر وتحبه؟ وهل ان مزاجك في القصة؟
اجاب: «لمونترلان في المرأة هذا الرأي: انما ان تحبها، او ان تفهمها. ولا تستطيع الاثنين معاً. هكذا الشعر. ولذا احب الشعر. ولا افهمه. بل احاول ان لا افهمه. واما اليوم الذي اعطى فيه ان أفهم الشعر كما يفهمه نفر من «الفاهمين» فيكون قد اسدل بيني وبين احب من احببت».
واضاف قائلاً: «وأحب الشعر كما يحبه الانسان المعافى: نسيم مارح. ونرجس مظلل. وعبقة من زهر وبوح. وكتمان. وجوب دنيا على ذوابات كلمة… وازمنة كأزمنة البلابل على الغصون».
وهو يرى: «وأما القصة فشعر هي. وهي قريبة الى مزاجي بقدر ما هي حرارة ومفاجأة، أي بقدر ما هي شعر».
وهنا سألته: ما رأيك في النظرة القائلة ان الكتابة عمل اخلاقي؟
اجاب: «انها محاولة متأخرة للدفاع عن نظرية الالتزام او «الارتهان» اذا شئت، في الادب. هذا، واني  ارى ان الكتابة عمل اشياء جميلة فقط».

بين زمن وآخر
وفي غمرة حديثنا عن الشعر، سألته: اي الشعراء اللبنانيين تقرأ؟
فأجاب: «كان لي زمن قرأت فيه سعيد عقل بشراهة. ثم أمين نخلة. اما اليوم فاني اكثر ما اكون ميلاً الى قراءة ادونيس، ويوسف الخال، وانسي الحاج. ونفر من صحابهم الشباب؟».
قلت: ماذا في شعر هؤلاء؟ وما رأيك فيه؟
قال: «حسّ بالاشياء جديد. ورفض لجمالية تقليدية. وزوايا من نفسك موات يوغلون فيها على رؤوس الاصابع… والاقلام، واما ما ارى في شعر هؤلاء، فما رأي مرسيل أرلان في السرياليين يوم قال فيهم: «قد لا ينجح السرياليون اليوم، في محاربتهم الخدع الشكلية في الشعر، الا انهم منتصرون حتماً، غداً، او بعد غد».

تعريب ثم اجترار
بعد الشعر، تطرقت الى القصة، سواء في لبنان، او في العالم…
عن القصة اللبنانية (يومها) قال لي: «انها كما ترى تماماً. تعريب اولاً. ثم اجترار. واشياء أخر».
وعن القصة في العالم، قال: «انها المدرسة التي يتزعمها ألن روب غرييه في فرنسا، والتي يحاول اقطابها التمكين لتقنية قصصية تقوم على انقاض البلزاكية. واما في اميركا فهي قصة «الادباء المنهزمين» الذين يتزعمهم جاك كيرواك والتي يعمل اقطابها في نطاق الوجوديين الفرنسيين على اسراف في التمرد والمجانة».

معضلة الالتزام
من الاسئلة التي طرحتها في ذلك الحين، على سليم باسيلا، السؤال الآتي: هل في الادب العالمي المعاصر معضلة؟
كان يرى، «ان معضلة الالتزام في الادب ما زالت حيث هي. ولعلها بقيت حيث تركها البير كامو في محاضرته الممتعة في السويد اثر منحه جائزة نوبل الادبية».
قلت: هل يتجاوب الادباء اللبنانيون مع زملائهم في معاناة هذه المعضلة؟
قال: «في ادب بعضهم معاناة لمعضلة الالتزام. وفي ادب البعض الآخر معاناة مصنوعة. وفي ادب البعض الاخير ما لست ارى له وصفاً».
سألته: هل الترجمة ضرورية؟
اجاب: «القراءة في الاصل اجدى».

بين القراءة والكتابة
ترى، ماذا كان يقرأ سليم باسيلا؟ وماذا كان يكتب؟ يومها.
كان يقرأ: «كتاب «الفوضى والليل» لمونترلان. وهي قصة طويلة اصدرها صاحب «العازبون» منذ ايام وذلك بعد انصرافه الى الادب التمثيلي مدة تربو على العشرين سنة. في «الفوضى والليل» يبقى مونترلان الاديب الذي اذا اطنب اعجب واذا أوجز اعجز».
واضاف: «انني اقرأ. وفي هذا عندي كل الممتعات. واما ما اكتب «فلوائح»  و«مذكرات» وما الى هذا من اعمال المهنة. واشياء في النقد الادبي. واشياء في ادب الوجدان».
وكان سؤالي الاخير له: ماذا تبتغي من دنياك؟
فقال: «ان أتوله، ولا اتعب من وله، وان تستيقظ عيون للنرجس على ما بي من تباريج والتعاج خاطر، وصبابات».

اسكندر داغر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق