أبرز الأخبارملف

«نحنا مش متسولين… نحنا سوريين»

في وجوههم حكايات لا تشبه تلك التي يحلم بها أطفال من عمرهم. وفي عيونهم خبريات ومشاهد تروي ظمأهم إلى الحضن الدافىء والأحلام المزنرة بألوان الحياة الزهرية. جاءوا إلى لبنان بصفة «أطفال نازحين» فصاروا يحملون بطاقة متسول. وبين ليلة وضحاها استبدلوا السرير الدافىء برصيف يعج بأقدام «كبار» ودعسات تختلط فيها الشفقة بـ «رغبات» قد لا ينجو منها الكبار فكيف بطفل نازح متسول؟ تقرير المفوضية العليا لشؤون النازحين كشف أن نسبة الأطفال النازحين من عمر يوم إلى عمر 17 سنة، تبلغ نحو ستين في المئة من مجمل الموجودين في لبنان. وإذا كان الرقم المتداول حالياً يدور في فلك المليون ومئتي ألف نازح (ما بين مسجل وغير مسجل)، فهذا يعني أن هناك نحو 650 ألف طفل سوري نازح على الأقل، غالبيتهم على الطرقات. ومن هنا تبدأ الحكاية بصفحاتها السوداء.

ثمة من يقول: إن قصصهم من عمر الحرب ومنهم من يؤكد أنهم ولدوا في بيئة تسول. لكن لا شيء يبرر مشهد الأطفال النازحين يتسولون في شوارع العاصمة والضواحي بعدما فكرنا أننا صرنا في منأى عن هذه الظاهرة.
قبل عام نظمت وزارة الشؤون الإجتماعية حملة لوقف ظاهرة التسول في شوارع بيروت وضواحيها. يومها نجحت المهمة بنسبة كبيرة، على رغم الثغرات التي بقيت مفتوحة بسبب نقص التجهيزات وبيوت الرعاية لإيواء الأطفال المتسولين. لكن تزامن الحملة مع تدفق النازحين السوريين إلى لبنان واستقالة حكومة الرئيس نجيب ميقاتي أعادا الأمور إلى نقطة الصفر. وعاد مشهد التسول إلى الطرقات والمستديرات ليطرق على شبابيك السيارات بالنغمة واللهجة عينهما: «الله يخليك اشتري وردة. الله يخليك اعطيني خارجيتي…».
توسلات تخرجك أحياناً من نطاق الصبر المعقول. لكن إذا وضعنا المشهد على الطاولة نكتشف أن هناك شريحة كبيرة من الاطفال النازحين السوريين في بيروت اتخذت التسول كمهنة يومية لتحصيل لقمة العيش في مدينة لطالما سمعوا عنها وحلموا في زيارتها، فإذا بهم اليوم متسولون في شوارعها وأحيائها الراقية والشعبية، بعدما استبدلوا الحضن البشري بآخر من أبنية وجسور، ووقعوا معاهدات صداقة مع الجسور التي تحاكي دعساتهم، وترصد حكاياتهم الموجعة. مهمتهم اصطياد الناس عند المستديرات وفي عز عجقة السير. وهل أفضل من طرقات لبنان لاصطياد غنائم مماثلة؟ وقبل أن تضيع الغلة يتقاسمون فتات الطعام، ويجمعون بعض العلب المعدنية والعبوات البلاستيكية من سلال المهملات ليعودوا ليلاً إلى خيمهم أو إلى … العراء. في النهاية الشاطر بشطارتو. لكن النقمة كبرت على ما بات يعرف بظاهرة المتسولين من النازحين السوريين.
وبحسب الإحصاءات التي أجرتها مفوضية الأمم المتحدة لشؤون النازحين، هناك على الأقل اربعة آلاف طفل سوري نزحوا إلى لبنان من دون ذويهم، تم تسجيلهم في سجلاتها. وينقل أحد المتطوعين في جمعية «معاً لمساعدة الأطفال النازحين السوريين»: إن شوارع بيروت تختصر مأساة السوريين الذين نزحوا هرباً من الموت والقتل والتعذيب، حيث يكاد لا يخلو شارع من وجوه تنضح بالبؤس وأجساد تتحرك بملابسها الرثة، هدفها التسول وبيع الغلة التي تحملها في أول النهار وتدور بها على الطرقات. لكن وراء كل وجه قصة وحكاية قد يتكلم عنها التاريخ يوماً ويحفرها في ذاكرة البشرية، نسمع البعض منها.
تقول سعدى (13 عاماً): «وصلت مع امي وأخواتي إلى بيروت منذ نحو 8 أشهر بعدما قتل والدي في ريف إدلب. مع حلول فصل الربيع بدأنا نعمل في الأراضي والمشاريع الزراعية، لكننا لم نتمكن من البقاء في إحدى القرى الجنوبية لأسباب سياسية كما سمعت أمي تتكلم مع إحدى السيدات. فانتقلنا إلى بيروت ومنها إلى جونية لأن والدتي تقول إذا توقفنا عن العمل لن نتمكن من دفع إيجار الغرفة التي نعيش فيها. ولم يبق أمامنا إلا خيار التسول في الشوارع.
سعدى كانت تحلم ببيت دافىء والجلوس على مقاعد الجامعة لتتخرج منها بشهادة ماجيستير في الهندسة كما تقول. اليوم تدرك وهي تحمل سلة الورد الدمشقي أن كل أحلامها طارت بعدما هجرت المدرسة منذ اندلاع الثورة في آذار (مارس) 2011. وصار الحلم مجرد تأمين لقمة العيش ودفع إيجار غرفة لا تتعدى مساحتها الـ 70 متراً مربعاً.
وعلى صفحات أخرى دونت المسؤولة في الجمعية حكاية منار التي تعرضت إلى التحرش من قبل صاحب الغرفة التي استأجرها أهلها في احد الأحياء الفقيرة في منطقة النبعة، فقررت الهرب لتجد نفسها في الشارع، سريرها الرصيف وقوتها فتات من مستوعب النفايات. وهناك تعرفت إلى شاب سوري وعدها بأن ينقذها من براثن التسول. لكنها اكتشفت أنها وقعت ضحية رجل «قوّاد» تلاعب بها وبمشاعرها. فهربت من جديد لتعود إلى التسول والعيش بين مستوعبات النفايات.
الثابت أن الفقر والعوز وراء وجود سلوى ومحمد ومنار وسواهم من الأطفال النازحين السوريين على الطرقات. لكن تداعيات هذه الظاهرة صارت تشكل خطراً على المجتمع اللبناني لجهة ارتفاع معدل جرائم السرقة والتحرش الجنسي، هذا عدا عن الأمراض والأوبئة التي ينقلونها من جراء التسول. مع ذلك تسمعهم يكررون: «نحن لسنا متسولين نحن سوريين».

 

 


وتشير إحصاءات مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في لبنان، الى أن نسبة الأطفال النازحين من عمر يوم إلى 17 سنة، تبلغ نحو ستين في المئة من مجمل الموجودين في لبنان. 45 في المئة منهم تراوح أعمارهم بين الأربع سنوات و17 سنة موزعين بين طلاب في مدارس خاصة ورسمية وهي النسبة الأقل، والباقي مشردون ومتسولون. والواضح أنهم باتوا يشكلون النسبة الأكبر بدليل توسع رقعة انتشارهم تحت الجسور وعند المستديرات وتقاطع الطرقات. إنطلاقاً من هذا الواقع استنفرت وزارة الشؤون الإجتماعية بشخص وزيرها وائل أبو فاعور، وأوعز بتكليف قوى الأمن الداخلي معالجة كل حالات التسول وإزالتها من الشوارع. أما من الناحية الإجتماعية فهناك استحالة لانتشال الأطفال المتسولين بسبب عدم وجود مراكز تأهيل مجهزة لهذا الغرض. من هنا قد تتدخل الأجهزة الأمنية اللبنانية لمكافحة ظاهرة التسول بشكل أساسي عبر المشغلين، أي عبر المافيات التي تشغل المتسولين مما يحمي المواطن السوري واللبناني معاً. وعلى رغم ادعاء جهات دولية وعربية عدة تقديمها الدعم والمساعدات للاجئين السوريين في لبنان الذين فاق عددهم مئات الآلاف، إلا أن مظاهر الفقر والعوز تتجلى على غالبية العائلات النازحة مما يضطرها إلى طرح أطفالها في الشوارع للتسول لتأمين لقمة العيش.
المتحدثة باسم المنظمة الدولية، دانا سليمان أوضحت أن الأطفال الذين لجأوا إلى المفوضية تم تسجيلهم بسرعة وهم يتلقون حصص التغذية المطلوبة، لكن بطبيعة الحال يبقى بعض الأطفال الذين لا يزالون مشردين وفي حالة عوز، مما يضطرهم إلى التسول. وتضيف سليمان: إن التقارير الواردة إلى المنظمة تشير إلى أن الأطفال السوريين يلجأون إلى التسول لتأمين لقمة عيشهم كهدف أساسي، فيما تفتقد الغالبية إلى  مكان تنام فيه، فتفترش الشوارع مكاناً لها،أو تنام تحت الجسور أو  في مستودعات وأماكن بائسة لقاء 5 دولارات يومياً، بعدما وصل إيجار المنزل الصغير في بيروت إلى 800 دولار أميركي.
حالات البؤس المتفشية في صفوف الأطفال النازحين لا تقتصر على التسول.  فظاهرة العمالة التي تتعارض ومبادىء شرعة حقوق الأطفال بدأت تتفشى في الشوارع. واللافت أن «السلعة»، لا تقتصر على بيع العلكة والورود والسكاكر الحلبية… إنما تتوسع لتشمل «جمع الخردة من النفايات». وقد بدأت تأخذ منحى إجتماعياً وصحياً خطيراً. لكن هذه الظاهرة ليست حديثة ولا طارئة على المجتمع اللبناني». فهي موجودة منذ زمن بعيد وانتشرت في أيام الحرب لتتحول إلى مهنة في حد ذاتها. ويضيف أحد تجار الخردة، أن تدفق النازحين السوريين أعاد هذه المهنة إلى الضوء، حيث يقوم في شراء الخردة من الأطفال السوريين، وتصديرها لاحقاً إلى الخارج. وأكد أنه يشهد يومياً على حلقة تزاحم الكثير من الأطفال على مكبات النفايات في بعض الشوارع الراقية في بيروت، لجمع «غلة» جيدة تكسبهم قوت يومهم.
تقدر منظمة العمل الدولية وصندوق الامم المتحدة للطفولة (اليونيسيف) عدد الاطفال العاملين في الدول النامية وحدها والذين تقل اعمارهم عن 14 سنة بنحو 200 مليون طفل. وفي الولايات المتحدة وحدها نحو 5 ملايين طفل عامل، بشكل شرعي او غير شرعي. ومنذ توقيع لبنان على مذكرة التفاهم مع منظمة العمل الدولية – البرنامج الدولي للقضاء على عمالة الأطفال – واطلاق البرنامج الدولي للقضاء على عمل الاطفال في العام 2000، بادر إلى وضع برامج لمعالجة القضايا الخاصة بعمل الأطفال في لبنان. وهناك 10 برامج يرعاها البرنامج الدولي (الهبة المقدمة من الحكومة الفرنسية) ومشاريع تهدف إلى:
– منع مئات الأطفال من ترك مدارسهم، خصوصاً الأطفال الذين يعملون ويدرسون في الوقت نفسه.
– إخراج مئات الأطفال من سوق العمل وتعليمهم.
– تزويد عائلات الأطفال العاملين بفرص للحصول على دخل بديل.
– منع الأطفال المعرضين للمخاطر من دخول سوق العمل.
– توعية وتعبئة المجتمع حول إنشاء وحدات خاصة بعمل الأطفال في وزارتي العمل والداخلية، والبلديات.
– تدريب مفتشي العمل على قضايا عمل الأطفال.
– تدريب الشرطة على كيفية التعامل مع الأطفال العاملين في الشوارع وتجارة الأطفال.
– تعزيز التشريعات الداعمة.
الاهتمام الدولي بمكافحة عمل الاطفال بات واضحاً بعد تزايد حرص المجتمعات البشرية على تأمين انجح الاجراءات الفورية والشاملة لحماية اطفالها من مخاطر العمل المحتملة وتأثيره على نموهم البدني والذهني والنفسي. فمن العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، الى اتفاقية حقوق الطفل الى تبني منظمتي العمل الدولية والعربية مجموعة معايير واتفاقيات تحمي الاطفال من أي استغلال اقتصادي واجتماعي، وتحظر استخدامهم في الاعمال التي تفسد اخلاقهم وتضر بصحتهم او تسبب خطراً على حياتهم وإعاقة نموهم الطبيعي، الى مبادرة منظمة العمل الدولية بانشاء برنامج للقضاء على عمل الاطفال، كلها ساهمت في الحد أو على الأقل في الإضاءة على مسألة عمالة الأطفال. والجدير ذكره ان اهتمام المنظمة بمكافحة عمل الاطفال يعود الى بدايات تأسيسها، فاعتمدت في العام 1919 اتفاقيتين حول عمل الاحداث، الأولى تحظر تشغيل الاحداث تحت سن 14 سنة في المنشآت الصناعية، تحظر الثانية تشغيل الاحداث دون سن الثامنة عشرة ليلاً.  وتوالى بعد ذلك اعتماد اتفاقيات وتوصيات منها من له علاقة مباشرة بعمل الاحداث ومنها من تضمنت احكاماً خاصة بهذا العمل.
في لبنان أكثر من 100،000 طفل يقعون ضحية عمالة الأطفال، المتاجرة غير الشرعية، الاستغلال والعمل في أوضاع خطرة، وهو يضم أعلى نسبة أطفال عاملين بين 10 و17 عاماً في العالم. والثابت أن الوضع تفاقم أكثر مع وصول النازحين السوريين إليه مما دفع بوزارة الشؤون الإجتماعية إلى تنظيم حملتها الإعلانية الأخيرة بعنوان «ما تساعدن… بتساعدن» في إشارة إلى الأطفال المتسولين الذين يقفون عند تقاطع الطرقات أو على حافة الأرصفة.
 الإختصاصية في علم الإجتماع كارمن بيطار أوضحت أن الإتجار بالبشر لا يقتصر على خطف الأطفال وبيعهم عبر الحدود. فإذا كان هناك شخص بالغ يدير هؤلاء الأطفال، ويجبرهم على التسول ليأخذ أموالهم في نهاية يوم العمل، تكون لدينا حالة واضحة من الاتجار بالأطفال، وهذا واقع الكثير من الأطفال المتسولين في الشوارع. ولفتت إلى أن غالبية حالات الإتجار تتمثل في تلقي العمال الفقراء وعوداً بفرص عمل أفضل ليجدوا أنفسهم بعد ذلك في وظيفة خطرة ويتعرضون فيها للاستغلال في مقابل مردود متدن».
تنص المادة ٦١٣ من قانون العقوبات على حبس المتسول الذي يستجدي باصطحاب ولد غير ولده أو أحد فروعه ممن هو دون السابعة من العمر من ستة أشهر إلى سنتين، مع التشغيل. كما تنصّ المادة ٦١٧ على معاقبة والدي القاصر اللذين تركاه مشرداً بالحبس مدة ستة أشهر ودفع غرامة من عشرين ألفاً إلى مئة ألف ليرة، وفي المادة ٦١٨ يعاقب بالسجن من ستة أشهر إلى سنتين، من دفع قاصراً إلى التسول لمنفعة شخصية.
هذا في القانون. أما على الأرض، فالأمور تبدو مختلفة. فقبل عام كانت نسبة عمالة الأطفال في لبنان تقارب الـ 15 في المئة. اليوم لا توجد أرقام نهائية أو دقيقة بسبب تدفق المتسولين من النازحين السوريين. وأياً تكن الأرقام فإنها حتماً ستستفز مطلق أي إنسان. فكيف إذا كانت فصول الحكاية من عمر الحروب البشرية؟!

جومانا نصر
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق