برنار غصوب: بالمطرقة والازميل أروي حكاية الأرض وما عليها
على مدى تاريخها، عرفت بلدة بيت شباب الكثير من اهل القلم، سواء في الصحافة او الشعر او الرواية او التاريخ، وما الى هنالك من فنون الكتابة… والاسماء كبيرة وشهيرة. ولكن هذه البلدة، كانت وما زالت تفتقر الى اولئك الذين يمارسون الفن التشكيلي، وربما كان الفنان المبدع برنار غصوب، اول من مارس فيها هذا الفن الجميل، وبشكل يبعث على الدهشة والاعجاب، وهو حالياً، يعرض اعماله النحتية المعبرة والرائعة، في باحة دير مار مارون في القنيطرة – بيت شباب. ولا غرابة في ذلك، لان جده يوسف طنوس غصوب، الذي كان يتلاعب بالطين ويصنع منه الاواني الفخارية المختلفة الاحجام والاشكال، دفعه – من دون ان يدري – الى التلاعب بالصلصال اولاً، ومن ثم، بالمطرقة والازميل، وبالفرشاة والالوان، ويروي من خلالها حكاية الارض وما عليها. وقد كتب المفكر امين الريحاني مطولاً، في كتابه «قلب لبنان» عن صديقه ورفيقه في المدرسة الحاج أبو يسوع – جدّ برنار غصوب – الذي اعتبره الريحاني «الفخاري الحكيم، اللاعب بالطين، يعتقد كذلك ان اللّه خلق آدم من تربة بيت شباب…»! وكان الحاج أبو يسوع يقول له: «الانسان من التراب، يا أمين. والذي يشتغل بالتراب هو اقرب الى اللّه من الذي يشتغل بالحرير».
ماذا يعني لك النحت؟ وكيف اخترت هذا الفن بالذات؟
النحت في الدرجة الاولى، يعني الارض. ان تكون نحاتاً، يجب ان تعشق الارض وما عليها.
ان نشأتي في بلدة عريقة اسمها بيت شباب، عاصمة القاطع، وعاصمة الصناعات الحرفية، كالاجراس والفخار والديما (نسيج وطني) والحرير… كانت الحافز الاول لانطلاقتي الفنية، من رسم ونحت وتصميم.
اللقاء مع جدّي يوسف طنوس غصوب في محترفه لصناعة الفخار، رسم امامي الطريق… معه تعلمت التقنية وحرفية الصناعة، من دون ان انسى ألسنة النار في بردوشة (الفرن) جدّي التي لطالما رأيت من خلالها منحوتات تتلاعب وتتراقص.
من هنا بدأ عملي الفني، وخصوصاً بعد ان عملت في الطين (الدرغان) ورحت اصنع مجسّمات تجريدية جميلة.
ان بيت شباب، الرمانة المتفتحة – كما وصفها الشاعر الفرنسي لامارتين – كانت هي الشرارة الاولى لعالمي الفني.
صديق الريحاني
هل ان جدّك هو الذي كتب عنه امين الريحاني في كتابه الرائع «قلب لبنان»؟
جدّي يوسف طنوس غصوب لن انساه او أتناساه، فهو الفاخوري البارع الذي تميّز بصقل الخوابي والمخرزات، وهو صاحب الوجه الضاحك والنكتة العفوية، وهو الذي لطالما اكد على خصوصية صناعته وعلى نجاحها، من خلال قوله المأثور، على ان الطين، اي التربة في حارة التحتا ببيت شباب، ممزوجة – على حدّ قوله – بزيت الميرون وهو السبب الاساسي لنجاح هذه الصناعة. وهنا يؤكد على الروحانية الالهية والتجانس بين صناعة الفخار وصناعة الاجراس، في هذه البلدة.
وقد كتب الريحاني -جار البلدة في الفريكة – عن جدّي يوسف وعن هذه الحكاية بالذات، بعد زيارة محترفه في بيت شباب.
بداية الطريق
هل باستطاعتي القول، انك بدأت تحلم بالفن، وبالتالي بالنحت، منذ ذلك الحين؟
اذا سئلت من اين لي هذا الفن، فمن المؤكد ان لحرفية جدّي الدور الكبير. لم يكن في عائلتي الا جدّي فناناً. أليست صناعة الفخار نوعاً من الفنون؟ بالنسبة إليّ، انها الفنون كافة. فهذا الفن ينطلق من الأرض، من التربة التي يتم تحويلها الى اعمال تجمع بين التقنية والجمالية. ألم تكن هذه الصناعة الحرفية مصدراً اساسياً للاستعمال؟ من حفظ الزيت والزيتون والعرق والتين المطبوخ، والى ما هنالك من خيرات هذه الارض، في الخوابي والقوارير.
من جهتي، فان الموهبة التي اعطاني اياها رب العالمين، عملت على تنميتها وصقلها في النحت على جذوع شجر الزنزلخت والتوت والزيتون… أليست هذه الاشجار هي الركيزة الاساسية لطبيعة البلدات الجميلة كبلدة بيت شباب وجوارها؟
هكذا بدأت العمل بواسطة هذه الجذوع الملتوية التي لطالما اخذتني نحو مجموعة من التصميمات. ومن هنا، كانت تجربتي الفنية الاولى، مستعملاً الازاميل لحفر الخشبيات، وصولاً الى الحفّ بورق الزجاج، اي الطريقة البدائية التي عمل بها النحاتون الكبار.
ايمان بالارض والانسان
ما هو العامل الذي دفعك الى ممارسة هذا الفن؟
الفن رسالة، والفن ليس مُلك الفنان، بل مُلك الناس، مُلك الآخرين. ورسالتي في الفن بالدرجة الاولى، الايمان، ليس فقط الايمان الروحي، بل الايمان بالارض والانسان والجذور، بالاجداد الذين اعطوا لهذه الارض ولهذا الشعب، الكثير الكثير والكثير… وانا من المؤتمنين على هذه الرسالة، اذ ان لكل مثقف رسالته الخاصة، سواء كان كاتباً او شاعراً او رساماً او نحاتاً. فمن هذه الاعمال النحتية تنبعث رسالتي، فهي رسائل ايمان وحب وتواضع. ألسنا بحاجة في هذا الوطن، الى فئة مثقفة ومتواضعة، بعيداً عن التكابر، والعنجهية التي هي سلاح الفاشلين.
بين الصخر والنحات
اعتقد، ان فن النحت هو الاسلوب الاصعب بين الفنون التشكيلية،ولذلك فان الذين يمارسون النحت، هم قلة، ليس في لبنان فحسب، بل في كل بلد من بلدان العالم… فما هو رأيك؟
لعاشق الارض، وتحديداً لعاشق الصخر والمرمر، لا صعوبة لديه، أكان في فن النحت والرسم أو أي فن آخر. فالصخر يتميّز بالليونة عند النحات الذي يعشقه، وبين الصخر والنحات حكاية الخبز اليومي. فالمنحوتات في محترفه شبيهة بمجموعة حيوانات أليفة في حديقة منزله. فهو يراها كل يوم، يحاكيها وتحاكيه، يعشقها وتعشقه، يحتضنها وتحتضنه… فأين الصعوبة؟
إذاً، فلماذا هم قلة؟
لأن هناك خوفاً ورهبة من هذه المادة الجامدة. الصخر هو العنصر الاساسي لتخوف البعض من الغوص في تجربة النحت، فلا بدّ للنحات او الفنان ان يكون جريئاً في الدرجة الاولى، ويجب الا ينسى القول المأثور، ان لرواد كل تجربة انطلاقة جديدة. هذا هو الايمان اي الايمان بالوصول، بالرغم من كل الصعوبات في هذا الفن المذكور.
عناوين كبيرة وشاملة
كيف تختصر محتويات معرضك الجديد؟
لقد سبق لي ان عرضت اعمالي في لبنان وكندا والهند… تارة من خلال معارض فردية، وطوراً جماعية. من ناحيتي احبذ جداً المشاركة في المعارض الجماعية، اذ من خلالها يستطيع المشاهد المتذوق للفن، ان يقارن بين مدارس واساليب فنية عدة… عندئذٍ، بامكان الفنان تحسين ايقاعه الفني وتطويره.
في سياق هذا الحوار، قلت بأن الفن رسالة، من هنا، فان الهدف من كل معرض، هو التصويب على عناوين كبيرة وشاملة.
تعبير بالمطرقة والازميل
ماذا تذكر من هذه العناوين؟
اذكر عنوان «العائلة». ألم تكن يوماً العائلة متماسكة ومترابطة وخصوصاً في لبنان؟ اين هي اليوم من هذا العنوان؟ نرى في بعض الاعمال المعروضة مجسّمات لهذه العائلة، تشير الى ترابطها وتماسكها من حيث الفكرة والتقنية.
وهناك عنوان «الأُم»، أليست هي ذاكرة الحياة؟ من خلال المنحوتات نرى الأُم بمزاياها كافة. فهي الأُم المعطاء، والأُم الحاضنة لعائلتها، والأُم المتعانقة مع زوجها، الخ…
ومن ثم، هناك نظرة الى التاريخ، الى هذه الارض المقدسة، الى لبنان. اين هو لبنان؟ اين هو طائر الفينيق؟ اين هو قدموس؟ اين هي الأرزة؟ فهنا اشارة الى تجسيد جوهر هذا الوطن كما عرفناه منذ الصغر، وطن الحب والجمال.
لقد عبّرت عن هذه القيم بالمطرقة والازميل، وبالغبار احياناً. للوطن دور كبير في عطاءاتي الفنية.
اسكندر داغر