مهرجانات بيت الدين أقلعت على طريق الحرير
على خطى ماركو بولو افتتحت مهرجانات بيت الدين لياليها، فكانت ليلة ولا كل الليالي. الامتيازات كثيرة، والدهشة التي غمرت الحاضرين في انتظار أن تقلع الرحلة الموسيقية على طريق الحرير كانت في محلها، بعدما فكرنا أن قصة الرحالة الايطالي ماركو بولو رقدت في كتب قصص الأطفال والتاريخ والجغرافيا. تلك الليلة كان كل شيء متكاملاً تماماً كما القمر الذي أضاء ليل قصر الأمير بشير الثاني الشهابي. ولولا مزاجية بعض الجمهور، نسي أن للموسيقى حرمة وللفنان تحية يجب أن يقدمها له، لاكتملت رحلة ماركو بولو على طريق الحرير…
لم يكن التحدي الذي أخذته لجان مهرجانات لبنان الدولية بالسهل. فأصداء التوتر المتنقل من الشمال إلى صيدا فالبقاع فجبل لبنان وصلت الى آذان المنظمين كما الجمهور. لكن الإثنين رفضا الخضوع لثقافة الحرب والموت. وتلك الليلة كانت الشاهد على ذلك. فالجمهور الذي وضع وراءه كل فلاشات القنص والتجمعات أمام ساحة النجمة على خلفية التمديد لمجلس النواب وقواعد الصواريخ في منطقة بلونة، وصل إلى ساحة بيت الدين في الموعد المحدد. شخصيات رسمية، سفراء، إعلاميون، وجمهور بيت الدين النخبوي والشعبي الملتزم بالفن الراقي، كلهم كانوا هناك ليتحدوا ثقافة اللاحياة في مقابل ثقافة «نعم للحياة».
وبدأت الرحلة
مجرد دخول باحة المهرجان يدرك الزائر مدى العلاقة التي تكونت عبر الأعوام بين المنظمين والمسؤولين عن المهرجان والجمهور. هنا السيد الحسيني الذي حفظ وجهه جمهور المهرجانات عند طاولة بيع التذاكر، وعلى المدرجات تقف السيدة ماجدة بهامتها الستينية لتوزع على الإعلاميين المنشورات والكتب الخاصة بحفلات بيت الدين وتراقب بدقة الإعلاميين الوافدين للمرة الأولى من مؤسسات إعلامية محلية وعربية وعالمية. «لحظات». كلمات تعبر الفضاء الرحب لتعيد ترتيب صفوف المقاعد. لكن اللبناني تعود على منظومة الفوضى. وهو يرفض حتى أن يلتزم بموعد بدء الحفلة على رغم وصوله باكراً إلى باحة بيت الدين. نظرة إلى الخلف من قبل المنظمين وتعليق من أحد شباب فريق التشريفات: «لا تزال غالبية الكراسي شاغرة». لكن لا بد من بدء العرض.
تعريف باللغتين العربية والفرنسية عن الرحلة الموسيقية التي مشى على خطاها ماركو بولو ويبدأ العرض وسط صمت تام. بداية مع عازفة آلة «بيبا» الوترية الصينية «لينغ لينغ يو»، و«اولزهان بيبوسينوفا» من كازاخستان التي أدت قصائد البدو الذين كانوا يتنقلون بين بحر قزوين وبحر اليابان، والمغني الشعبي المنغولي «أمرا» الذي قدم نمطاً أدائياً شعبياً. واللافت أن الأداء لم يتضمن كلمات وحروفاً إنما ارتكز على مخارج أصوات تحاكي انفعالات الإنسان وأصوات الطبيعة.
من الهند الى لبنان
من محطة إلى أخرى تصل السفينة إلى الهند مع الإنشاد الديني الصوفي مع فرقة «ديفانا» وفرقة «غير» الراقصة، وصولاً الى أرمينيا مع «ايمانوال هوفهانيسان» عزفا على آلة «دودوك» الهوائية ترافقه الفنانة عبير نعمة التي أبدعت في إنشادها باللغة الأرمنية. وواكبت العرض، اوركسترا أوبرا «تيميشوارا» الوطنية بقيادة المايسترو اللبناني الشاب لبنان بعلبكي، وأخرجه الفرنسي آلان فيبير.
السفينة تحط في إيران. محمد معتمدي يناجي بصوته مقطوعات حزينة من الغناء الفارسي الكلاسيكي يرافقه تخت إيراني تقليدي مطعم بعازفين لبنانيين ويونانيين، قبل أن يحط العرض رحاله مع عازف العود والمؤلف الموسيقي شربل روحانا، والمغنية عبير نعمة في لوحات غنائية من المشرق العربي وانماطه التقليدية من «الميجانا» اللبناني إلى موشحات قديمة، وأخرى من ألحان الراحل سيد درويش. وختامها مسك مع فرقة «سيما» السورية للرقص.
ساعة ونصف الساعة كانت مدة رحلة ماركو بولو على طريق الحرير. واستحقت قي أكثر من فاصلة التصفيق من خلال الحبكة التي حاول رفيق علي أحمد أن يربط من خلالها الواقع اللبناني بأسلوب حياة الأمبراطور قبلاي خان الذي اشتهر بعدم التمييز في «الخان» بين إنسان وآخر وأيضاً من خلال المشهدية التي اقتربت في بعض الومضات من مسرح الرحابنة لا سيما في تمريره مفاصل حوارية عن الواقع السياسي إنطلاقاً من روحية النص المسرحي. لكنه استدرك أن المسألة أبعد ما تكون عن الحقيقة. والأمبراطور قبلاي خان لم ولن يكون يوماً على صورة ومثال أي زعيم او سياسي لبناني. وهنا نكتشف كجمهور، أهمية إعادة نبش صورة ماركو بولو التي تعرفنا إليها في الروايات والقصص من دون أن نربطها يوماً بالواقع.
محطات الرحالة ماركو بولو الإيطالي الذي عاش في القرن الثالث عشر على طريق الحرير الذي كانت تسلكه القوافل بين الصين وأوروبا مروراً بجنوب آسيا، زادها ألقاً حضور رفيق علي أحمد الذي أتقن لعب دور الرحالة وشارك أداء ورقصاً وحتى غناءً في بعض المقاطع، فاستحق التقدير والتصفيق الحاد كما الفرقة الهندية والمؤلف الموسيقي شربل روحانا والفنانة عبير نعمة التي حمست الجمهور وأيقظته من بعض المحطات التي كانت تخبو فيها الرحلة الموسيقية على طريق الحرير بسبب الفراغ الذي هيمن احياناً على خشبة المسرح، وهبوطه أحياناً أخرى.
لكن في النهاية كان لا بد للرحالة من أن يستريح ويتلقى الشكر والتقدير من جمهور المدرجات. لكن الواضح أن بعضاً منه أضاع البوصلة، فانسحب قبل انتهاء العرض وتقديم الممثلين والمؤدين والعازفين تحية الشكر.
ج. ن
من بغدادي الى سكك الحديد
المحطة الأولى والأخيرة
في زمن تغلبت فيه ثقافة الفيسبوك والتويتر على ثقافة القراءة والكتابة كان لا بد من فكرة تضرب. وهذا ما سعى إليه منظمو المعارض الثلاثة التي أقيمت على هامش مهرجانات بيت الدين. الأول تضمن مجموعة أعمال للمخرج اللبناني الراحل مارون بغدادي وشملت إلى سيرة حياته، صوراً عن ألأفلام التي قدمها عن الحرب اللبنانية في مشوار عمره القصير (1950- 1993) مع شرح مفصل ضمن نص أدبي رائع، إضافة إلى صور جمعت بين بغدادي وزعماء سياسيين لبنانيين أمثال الرئيس الراحل بشير الجميل والرئيس نبيه بري وزعيم المختارة وليد جنبلاط. ولفت الزوار عرض لبعض كتب بغدادي ودفاتره الشخصية لا سيما دفاتر أعماله ومقتطفات من أهم ما كتب عنه في الصحف اللبنانية.
المعرض الثاني تضمن 7 أعمال للفنان أناشار بصبوص وهي كناية عن مجسمات إيحائية مصنوعة من الحديد. وختامها مسك مع معرض عن خط سكك الحديد الذي توقف عن العمل خلال الحرب. وشمل المعرض صوراً عن بقايا سكك الحديد في كل المناطق اللبنانية إضافة إلى مجسمات تم جمعها من محطات القطار الذي كان يشكل وسيلة نقل رئيسية في لبنان.
ويستمر مهرجان بيت الدين حتى العاشر من آب (اغسطس) المقبل، ويقدم باقة واسعة من العروض منها أمسية جاز مع المغنية الأميركية ديدي بريدجوتر، والموسيقي السوري كنان العظمة مع عرض «أصداء من سوريا – حي على الياسمين»، والمغني العراقي كاظم الساهر مع قصائد لنزار قباني، ويختتم المهرجان في العاشر من آب (اغسطس) بأمسية مع المغنية الفرنسية باتريسيا كاس مخصصة لأبرز نجاحات واغنيات سيدة الغناء الفرنسي إديت بياف في تحية لهذه الاسطورة الفرنسية بعد مرور خمسين عاماً على وفاتها وذلك ضمن جولة عالمية تقوم بها كاس حالياً.