رئيسيملف

من لبنان الى الوطن البديل در!

في المبدأ يفترض أن تكون موسمية، لكن موجات الهجرة في لبنان صارت أكثر من دورية. أسبابها متعددة، قد تكون الحروب أو القلق على المستقبل أو الأمن أو الاقتصاد، ومهما تشعبت تبقى النتيجة واحدة: بطاقة مهاجر بدلاً من لبناني يفخر بهويته، وتفريغ الأرض من عنصر الشباب والكفاءات المنتجة. لكن لماذا رفع وزير السياحة فادي عبود الصوت هذه المرة محذراً من حجم هجرة الشباب؟ وهل يكون العدد تخطى الـ 35 ألف مهاجر سنوياً وتجاوزت نسبة هجرة الكفاءات 60 في المئة؟ ربما من المفيد أن يكون كل لبناني مهاجراً بالفطرة، لأن صمود البلد قائم على اموال المهاجرين، لكن ليس على حساب وطن بات يستقطب ما يقارب المليوني نازح سوري. واللبناني؟! فتشوا عنه امام ابواب احدى السفارات أو جالساً على رصيف مقهى يحلم بالهجرة.

مجرد أن يخلعوا ثوب التخرج يبدأ الحلم بالهجرة. ما يقارب الـ 50 في المئة من الخريجين يقفون امام أبواب السفارات في انتظار التأشيرة التي تفتح أمامهم فرصة عمل أو تضمن لهم مستقبلاً بعيداً عن هاجس القلق او البطالة. لكن موجة الهجرة ليست طارئة. فقبل عقد عن الزمن كان يصل عدد طالبي الهجرة إلى 35 ألفاً، 60 في المئة من عنصر الشباب. اليوم يقال إن العدد تجاوز هذا الرقم، وتحديداً منذ العام 2005 بحيث تحولت الهجرة إلى نمط وثقافة لكل لبناني يطمح بمستقبل هادىء. لكن هل يكون واقع البطالة الذي بدأ يدق ناقوس الخطر وراء صرخة وزير السياحة فادي عبود الذي حذر مؤخراً من تمادي هجرة الشباب اللبناني؟ واستطراداً، ألا يفترض ان يكون مفتاح الحل بيده وبيد كل مسؤول في الدولة؟

جمود فبطالة فـ … هجرة
مستشار وزير السياحة ميشال حبيس اعتبر أن موسم الهجرة في لبنان ليس حالة إستثنائية، ولا يشكل ظاهرة في وطن يكاد كل بيت لبناني فيه  يحمل بطاقة مهاجر. لكن الواضح أن انعكاس الأزمة السورية على الوضع السياحي وعدم مجيء السياح العرب والخليجيين أدىا إلى إقفال عدد من المطاعم وتهديد القطاع الفندقي، خصوصاً أن حركة الإشغال والحجوزات لم تتخط الـ 40 في المئة  مما ساهم في شل الحركة ورفع نسبة البطالة. إزاء هذا الواقع كان من البدهي ان يبحث عنصر الشباب عن مخرج لضمان مستقبلهم وذلك عبر طرق أبواب الهجرة.
بحسب برامج الامم المتحدة الانمائية، بلغت نسبة الشباب اللبناني المهاجر 30 في المئة، فيما نسبة 65 في المئة من الشباب الذين تراوح أعمارهم  بين 25 و35 سنة يفكرون في الهجرة. أما الدراسات المحلية فتشير إلى أن أكثر من ثلثي الشباب الجامعي يسعون إلى الحصول على تأشيرة هجرة إلى إحدى الدول الأوروبية أو القارة الأميركية من دون العودة إلى الوطن. وترتفع هذه النسبة بين خريجي الجامعات وتحديداً كليات الهندسة والطب. وإذا سلمنا بأن ظاهرة الهجرة اللبنانية ليست جديدة، إلا ان عدد الذين غادروا البلاد خلال الأعوام العشرة الاخيرة يقدر بعشرات الآلاف، غالبيتهم من الشباب، حتى بات عدد المهاجرين اللبنانيين يفوق أربعة أضعاف عدد المقيمين فيه.
وتسألون عن الأسباب؟ لنقل إنها لم تعد سراً، لا سيما في زمن الحرب الباردة وثورات الربيع العربي. فالبطالة التي استفحلت في ظل غياب سياسات حكومية واضحة لسوق العمل، وازدياد الشرخ بين متطلبات سوق العمل وبرامج إعداد الكادرات المهنية والتقنية في الجامعات، وعدم وضع برامج لخلق فرص عمل  جديدة للشباب، كل هذا ساهم في تحفيز الشباب على الهجرة.

هجرة قسرية
الخبير الإقتصادي الدكتور إيلي يشوعي وصف هجرة العقد الحالي بالقسرية، ولفت إلى ان هناك ثلاثة عوامل رئيسية ادت إلى تفاقم موجات هجرة الشباب اللبناني وهي: انخفاض عدد السكان بحيث لا يتجاوز عدد اللبنانيين 4 ملايين نسمة وربما أقل وغياب مفهوم الدولة. لكنه أوضح أن عدد سكان البلد لا يرتبط بغياب الدولة، لأن التركيبة واحدة وكذلك المفهوم العام والسلوكيات والأخلاقيات. إذاً المسألة ليست تبعاً لعدد السكان. أما العامل الثالث فيتوقف على الطبقة التي تسلمت زمام إدارة الملفات الإقتصادية من «خبراء
ومستشارين» وكلها غير كفية أو غير قادرة على إدارة شؤون الإقتصاد في البلد.
نصل إلى القطاعات الإنتاحية التي تساهم في تشغيل اليد العاملة وهي الصناعة والزراعة والبناء والقطاع الفندقي. في القطاع الصناعي، يشير يشوعي وبكثير من الحرقة، إلى العوامل أو العوائق التي وضعتها الدولة في وجه الصناعة، منها فرض أسعار مرتفعة على الطاقة التي تصنف الأغلى في المنطقة، ورفع الحماية عنها. اما في الزراعة فيمنع على اي مزارع الإنتساب إلى الضمان أو الحصول على قرض مصرفي. نصل إلى التجارة وقطاع البناء، وكلها كما يؤكد يشوعي، دخلت في النزاع وصولا إلى القطاع السياحي المهدد بالإقفال بعدما أفلس ثلث العاملين والمستثمرين فيه.
السياسة المالية سبب إضافي آخر لتهجير الشباب اللبناني بحسب قراءة الدكتور يشوعي: فـ «السياسة النقدية المتبعة ساهمت في رفع معدل الدين العام وهجرة الشباب، إضافة إلى مقاربة حجم الإقتصاد من حجم الدين العام». وتمنى على السياسيين أن يعوا خطورة نتائج تفريغ الأرض من عنصر الشباب وإلا سيكون الأجنبي وتحديداً الأفارقة والآسيويون والنازحون بديلاً عن الشعب اللبناني الأصيل، واعتبر ان العيوب التي تكشفت اليوم على خلفية الأزمة السورية والربيع العربي كانت تسترها منافع الخارج والصادرات البرية عبر الحدود السورية وقدوم السياح العرب والخليجيين إلى لبنان، إضافة إلى الإستثمارات العربية وتحويلات اللبنانيين في الخارج.
تركزت الهجرة المكثفة خلال العقود الماضية على الرجال مما أدى إلى حصول خلل في التوازن بين النساء والرجال وارتفاع معدل العزوبية لدى النساء في شكل كبير بين العامين 1970 و1996. وهذا ما أدى لاحقاً إلى ارتفاع معدل هجرة النساء العازبات في شكل غير مسبوق خلال العقدين الماضيين، ما أعاد بعض التوازن بين الجنسين. أما أسباب الهجرة المباشرة فتتركز حول مسألة البحث عن عمل وتحسين مستوى المعيشة، بعدما وصل مؤشر البطالة بين الشباب الذين تراوح اعمارهم بين 18 و35 سنة إلى 30 في المئة.

حقائق وارقام كارثية
الباحث الإجتماعي الدكتور عبده قاعي اعتبر ان صراع الزعماء على ارض الوطن وضع الشباب اللبناني امام خيار الهجرة بسبب الصراعات المذهبية وتلهي المسؤولين عن توفير فرص حياة لهم. فكان من البدهي ان يبحثوا عن وطن بديل امام ابواب السفارات. كلام قاعي، يستند إلى دراسة أجراها الباحثون وأظهرت ان الهجرة تحولت إلى «جزار وطني» بسبب المشاكل السياسية. أما الحلول المقترحة للحد من الهجرة فتتمثل بحسب قاعي في إلغاء الطائفية، القضاء على الفساد، وتوفير بيئة اجتماعية وسياسية واقتصادية قادرة على استيعاب قدرات الشباب بدلاً من أن يكون الوطن آلة لقتل الشباب بالصراعات الداخلية، أو تهجيرهم.
ويشير مسح المعطيات الإحصائية للسكان والمساكن الى أن الهجرة تضاعفت منذ العام 2005 وراوحت بين 60 و65 ألف مهاجر سنوياً. وساهم هذا النمو في عدد المهاجرين إلى ارتفاع معدل الشيخوخة في مقابل انخفاض عدد الفئات الشابة. واللافت أنه في كل استطلاع تبدي نسبة كبيرة من الشباب رغبتها في الهجرة حتى وصلت في العام الماضي إلى 60 في المئة. ورد نحو 39،3 في المئة من المقيمين المستطلَعين أسباب الهجرة إلى رغبتهم في ضمان مستقبلهم، فيما عزت نسبة 3،25 في المئة السبب إلى الوضع الأمني السيىء في لبنان. وخلص الباحثون  إلى نتيجة كارثية مفادها أن تزايد هجرة العائلة النواة، أي التي تضم إلى الأهل طفلاً أو اثنين، ارتفعت خلال الأعوام الأخيرة ، وهي تطاول كل الطوائف، إضافة إلى تزايد هجرة الفتيات.

 

كفاءات وادمغة الى الخارج
غالبية طالبي تأشيرات الهجرة هم من اصحاب الكفاءات وحملة الإجازات العالية. والمسألة لم تعد سراً بعدما ثبت علمياً أن 50 في المئة من الخريجين يغادرون فور تسلمهم الشهادات ومنهم من يبدأ في تحضير طلبات الهجرة قبل دخول الجامعة. وتتوزع الكفاءات اللبنانية العالية في الخارج بمعدل 86 ألفاً في أميركا وكندا والمكسيك، و36 ألفاً من ذوي الكفاءة المتوسطة، و29 ألفاً من الكفاءة المنخفضة.  أما في أوروبا فيصل عدد اصحاب الكفاءات اللبنانية إلى 67 ألفاً من ذوي الكفايات العالية ونحو 41 ألفا كفاءة متوسطة، وما يقارب 78 ألف كفاءة منخفضة. أما في آسيا وأوقيانيا فيراوح العدد بين 18 ألف كفاءة عالية، و20 ألف كفاءة متوسطة، و26 ألف كفاءة منخفضة. ويحتل لبنان المرتبة الثانية بين الدول بالنسبة الى عدد المتخرجين العاملين في الولايات المتحدة، حيث إن 40 في المئة من الأطباء المتخرجين من كليات الطب في لبنان يعملون في الولايات المتحدة.
ان ما يحتاج إليه لبنان هو صدمة ايجابية تنزع المناعة عن النظام الاجتماعي السياسي – الثقافي الذي دخل مرحلة الإحتضار، وازداد سوءاً بعد الطائف، إضافة الى عدم إيلاء الطبقة الحاكمة الإهتمام الرسمي لجيل الشباب، إن من ناحية برامج توجيهية وتحفيز القطاعات الإنتاجية، أو من جهة سياسة المحسوبيات والوساطات. أما الكلام عن توظيف الانتشار لمصلحة لبنان، فلم يعد يغري حتى المقيمين فيه، بحسب الدكتور قاعي، الذي اعتبر أن تداعيات تفريغ المجتمع من عنصر الشباب بات يهدد مستقبل البلاد، خصوصاً أن الهجرة تطاول حصراً الأدمغة المثقفة والشباب الجامعي، واليد العاملة المنتجة مما يؤدي إلى تراجع عجلة الإقتصاد. أما على المستوى الإجتماعي فإن هجرة الشباب تؤدي إلى انخفاض معدل الولادات كما تحول المجتمع اللبناني إلى مجتمع يزخر بالكهول والشيوخ. واعتبر أن اندماج المهاجرين الشباب في المجتمعات الجديدة يعزز فكرة عدم العودة إلى وطنهم الأم. وهذا الموضوع كان ولا يزال موضوع دراسة جدية لدى الهيئات الرسمية والأهلية، كونه يرتبط مباشرة بمستقبل لبنان ونزفه البشري المستمر وما يلحق ذلك من تفريغ للارض وهجرة للطاقات.

حائط مسدود
الثابت أن البطالة في لبنان تخطت كل الخطوط الحمراء، ووصلت الأمور الى حائط مسدود. وبات الوضع المعيشي القائم يهدد شريحة كبيرة من الناس وينذر بأزمة خانقة. لكن اللافت أن الكلام عن موضوع البطالة بات من المحرمات على رغم تحذيرات الإقتصاديين من استفحال هذه الأزمة المؤثرة بشكل دراماتيكي على الوضع المعيشي للمواطن اللبناني.
نعود إلى الدكتور يشوعي الذي اعتبر أن مشكلة البطالة ناتجة عن خلل على الصعيدين الكمي والنوعي في العرض والطلب، وعن تدفق اعداد كبيرة من اليد العاملة غير اللبنانية وعن ضعف واضح في مستوى الإعداد المهني والتقني للقوى العاملة اللبنانية بحيث لم تعد تلبي حاجات سوق العمل. وتشير الدراسات إلى ارتفاع معدل البطالة في الوقت الحاضر نسبة إلى السنوات الماضية في ظل عمليات الصرف من الخدمة والركود الاقتصادي. وازدادت حدة الأزمة مع اعتماد الاقتصاد اللبناني على عمالة النازحين السوريين، مما ادى الى تسريح آلاف العمال منذ بداية 2013  فيما كان مؤشر البطالة في قطاعي الصناعة والزراعة في انحدار مستمر على خلفية حرب تموز (يوليو).
أثناء رعايته لمعرض وظائف 2013 الذي نظمته كلية ادارة الاعمال والعلوم التجارية في جامعة الروح القدس الكسليك، أعلن وزير العمل في حكومة تصريف الاعمال سليم جريصاتي، أن الوزارة في صدد وضع تصور لسياسة العمل في لبنان، بالتنسيق مع منظمة العمل الدولية، وبهدف الحد من البطالة والهجرة، خصوصاً لدى الشباب. وأبدى قلقه من الهجرة كما من البطالة، موضحاً «إذا كان بعض الهجرة دائرياً، أي موجهاً نحو البلاد المجاورة مما يضمن العودة إلى الوطن، والبعض الآخر انتقائياً، إذ إن اللبناني لا تروقه بعض الأعمال في وطنه، لا سيما تلك الخارجة عن منظومة الاقتصاد الريعي والخدماتي، لكن من الضروري التصدي لهاتين الآفتين لا سيما في ضوء ازدياد نسبة العمالة الأجنبية في لبنان في المهن والأعمال غير المحصورة بلبنانيين».
كلام جميل ويلعب على وتر أعصاب الشباب اللبناني. لكن هل يصدق أحد أن هذه الحكومة وسواها ستعمل على توفير فرص عمل عن طريق تكبير حجم الاقتصاد وزيادة النمو؟ إن من يقف على باب سفارة لن يتراجع خطوة واحدة إلى الوراء. ومن نال التأشيرة بدأ يخطط لسحب شقيق أو صديق إلى بلاد الغربة… والأصح إلى الوطن البديل عن بلاد الأرز.

جومانا نصر

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق