لطالما كانت النبتة الخضراء – هذا الرمز الخارق للحياة – بتجذرها وثباتها في الارض وشموخها نحو السماء، بتفرعات اغصانها وظلالها الوارفة، بتفاعلها مع الشمس والهواء، بنموها وازهارها وثمارها، بذبولها وانزوائها وتعريها من الاوراق، لطالما كانت خير ملهم للشعراء والكتاب والفنانين من زوكسيس الى شي تاو ومن معلمي المنمنمات الى العصور الوسطى، وصولاً الى مبدعي الفن المعاصر، وفي كل الاوقات لم تتوقف الحياة النباتية عن اضفاء سحرها على الفنانين، وأليس مغبغب في زيارة لها الى المتحف الوطني استوقفها مشهد تابوت صور الذي يعود الى القرن الثاني بعد الميلاد بزينته الرائعة المرصعة بالاكاليل والازهار والاوراق والاغصان تلتف بحنان حول ابطال الميتولوجيا، وتحتضن وقائعها كأنها تسير بهم احياء وخالدين في رقصة ابدية…
هذا المشهد بالذات دفع صاحبة الغاليري الفنية الى التفكير بمعرض جماعي يضم اعمال الرسامين والمصورين والنحاتين والحفارين من العالم، اولئك الذين شكلت النباتات جزءاً اساسياً من مسيرتهم الفنية، فكان معرض «مجد النبات» الذي ساهم في تنظيمه المؤلف والناقد الفني جيلبير لاسكو وضم اعمال 23 فناناً من العالم في لبنان، وتحديداً في غاليري أليس مغبغب الاشرفية – بيروت والى 26 تموز (يوليو) المقبل، والهدف الاساسي منه الاضاءة على نظرة الفنانين المعاصرين ابناء عصر الثورة الرقمية الى النبات: معرض غني يتيح للزوار معاينة كيف تأثر الفنانون بالنبات وكيف عبروا عن دهشتهم وانشدادهم الى حياة الارض.
ايقاعات الطبيعة
حين نتأمل معرض «مجد النبات» الذي جمع فنانين من اليابان والصين وبولونيا والمانيا وبلجيكا وايطاليا وفرنسا وبريطانيا ولبنان، نرى ان كلاً منهم عبر من منطلق نظرته الفنية وباسلوبه الخاص والمميز عن النبات، ونرى ان هؤلاء على اختلاف اهوائهم استوعبوا انطلاقات الطبيعة: مظاهرها، نموها، ايقاعاتها، فصولها الى تغيرات الضوء والمناخات، حتى ظهروا من خلال نتاجهم كأنهم يسمعون ايقاعات الطبيعة ونغماتها، فها هو فرنسوا هوتان الرسام والنحات يبدو كأنه اشتغل كعامل حديقة او عامل غابات استوائية، فوضع اغصاناً وملامح شلحات ومحفورات اغصان جعلها تنجدل وتتعانق ونلاحظ باعجاب كيف انه يحيك الوحشي والمؤطر والطبيعي والاصطناعي الغرائبي، والمألوف هو الفن المعاصر والكلاسيكي الموجود في الوقت الراهن والخارج عن الزمن المنفعل والمضبوط والمحدد واللامتناهي المادة والاشكال، وهكذا دواليك.
واثناء جولتك على المعرض ستلاحظ ان بعض الفنانين يكشفون لك عن ازهار واعشاب غير متوقعة، ازهار مدهشة غريبة تحير الناظر اليها وهم يستخدمون لتظهيرها مواد مختلفة مثل احدى الفنانات التي تستعمل الوحل، تعجنه تنحت ازهاراً غير واضحة في بعض الاحيان ذابلة معطوبة، انها ازهار وحشية خشنة ودقيقة، نراها تارة كئيبة وطوراً فرحة. وهذا هو الشاعر الرسام صامويل كويسن وقد قطع ورقة نقدية حفرعلى وجهها رسم ازهار رقيقة دمرت الورقة النقدية التي لم تعد صالحة للاستعمال بل اصبحت تطريزاً قيماً على مساحة مشغولة بدقة.
وعلى هذا المنوال يمضي المعرض بأسره حافلاً بالمفاجآت والجمالات، فأزهار شارل بيل مثلاً بألوانها الكثيفة المتوقدة او الغامضة تبهر الناظر، تبدو كأنها تشتعل بالحرارة عبر رسوم تجمع بين السعادة والحنين ولوحات تنضح اجواء شاعرية كأن الموسيقى الهادئة تنساب منها انسياباً.
مستنقع من السحر
باسكال كورسيل من جهته يسير على خطى كلود مونيه ويقدم نباتات مزهرة او اغصاناً مكسوة بازهار ربيعية، تضيع كلها في مستنقع من السحر، فنباتاته هي زخرفات ناضجة، خطوطه حرة واحجامه ذات ايقاعات منسجمة وعناوين لوحاته قصائد.
اما النحات جان برنار سوسبيرغي فيستعمل الفولاذ المحفوف والملمع، يقف قرب الطبيعة وعلى مسافة منها، بمعنى انه لا ينسخ الطبيعة بل يترجم، يتصرف، ويقدمها مختلفة فالزهرة تصبح عنده اشبه بزهرة ميكانيكية.
ولا بد ان تستوقف الزائر الازهار الخيالية لديدييه لونوريه الذي يقول ان مبدأ الزهرة بالحد الادنى بسيط، يتيح له الاستحواذ على احتمالات تصويرية لا تحصى، بحيث يعود دون اعلان الى تاريخ الفن والى احتمالات خيالية اخرى، وهو يرسم على قماش صناعي مطبوع بالرسومات الاكثر بساطة.
وبالنسبة الى الرسام الياباني تاكايوشي ساكابيه الذي سبق ان واكبناه في معارض سابقة، نراه يعمل لتحقيق التوازن في رسوماته، يقول ما يبدو غير مكتمل، هو في الواقع متحقق تماماً وماذا نقول عن الحقول الرطبة بريشة مالغورتزاتا باشكو، حيث تنتصب اعشاباً برية انطباعات خضراء ليلكية زرقاء تبرز وتلمع.
وبالانتقال الى منحوتات اكسيل كاسيل البرونزية المعروضة تحت عنوان اوراق صغيرة، نلاحظ انها موضوعات تأمل، مصنوعات ناعمة ووجوه هندسية مثيرة. وفي هذه الاثناء نرى ان النحاتة آن ديلفيو تخلق منحوتات حائط اعشاب، جذوع مستطيلة خفرة وخطوط متوثبة، احدى الناقدات شبهتها بحلل زينة لفناني اوقيانيا.
الفنانة اللبنانية فاديا حداد تخيلت قناعاً اخضر في احتفال الطبيعة والرسامة الفوتوغرافية هدى قساطلي لم تزل تفتش عن الزمن الضائع في البيوت اللبنانية القديمة التي حفظتها في صورها، في لحظاتها الاخيرة قبل عمليات الهدم الممنهج. في هذه الايكنوغرافيا للغياب نرى النباتات في تلك الجنات المنهارة التي هجرها سكانها، النباتات الآكلة احتلت الرواقات الداخلية المفتوحة على السماء والتي اخترقت الفضاء. الطبيعة انتصرت هنا لكنها بعد عملية الهدم اندثرت فلم يعد لها وجود – علقت أليس مغبغب – وحدها الآثار تؤشر الى ذاكرة انقرضت جزئياً… بقايا ايام انقضت!.
كوثر حنبوري