احتفالية الحياة من رحم الموت
حين توفيت ابنتها ذات الثلاثة والعشرين ربيعاً، كان امام الفنانة دلال فرح بيرد خياران: اما ان تستسلم للحزن والندب واما ان تتابع حياتها وتقاوم وترسم، فاختارت الطريق الثاني: الرسم الذي يوفر لها راحة نفسية وسط الوان تنسيها كل شيء… والمفاجأة كانت ان رسوماتها بعد موت ابنتها ناديا بالمقارنة مع سائر اللوحات المرسومة قبل حادثة الوفاة التي شكلت معرضها الفردي الثاني في غاليري اكزود الاشرفية – بيروت، جاءت ألوانها اكثر فرحاً واشراقاً، اي ان ردة فعلها حيال الموت كانت عكسية.
طبعاً لا تستغرب الفنانة هذه النتيجة فناديا كانت اهم مشجع وداعم لفنها في حياتها وهي التي آمنت بها كفنانة اكثر مما هي صدقت نفسها، وناديا هي التي اوصت امها في رؤية او حلم بألا تحزن عليها بل ان تتذكرها كلما شاهدت فراشة او وردة وكل ما نراه في الطبيعة. من اجل كل هذه الاسباب اهدت دلال هذا المعرض «سيلسبرايتنغ رزيلينس» الى روح ابنتها ولم تنكر ان هذا المعرض اعطاها سلاماً داخلياً وهي واثقة من انه بمثابة رسالة من ناديا، من خلالها او بواسطتها، الى الناس والمجتمع.
احتفالية الحياة
هذا ما شرحته دلال لـ «الاسبوع العربي» في حديث اعقب معرضها الذي تحول الى احتفالية بالحياة ومقاومة الألم والموت وفي كيفية تحويل المآسي الى طاقة ايجابية تفيد الذات والمجتمع، اذ كانت اكثر من مناسبة في افتتاح المعرض الذي يمكن ان نترجمه بتصرف «الاحتفال بالعودة الى الحياة».
«يوم الافتتاح شعرت انني لست وحدي وقطعاً لن اكون الاخيرة التي تمر بأحزان، خالتي مثلاً فقدت زوجها وابنها وابنتها وحفيدها» لكننا حين تشاركنا يوم الافتتاح كل تجربتها ووجعها، واخبرت كل منا كيف تعاملت مع مصيبتها صارت الرسالة اهم من الرسم رسالة الحياة، وقالت الفنانة بفخر ان ابنتها اثرت بكل من حولها في الجامعة وبين الاصدقاء الذين كتبوا كيف اثرت في حياتهم. وهذا امر يسعدها لان ابنتها لم تمر على هذه الحياة بدون ان تترك اثراً.
حين نجول على اللوحات التي تشكل منها المعرض، نلاحظ انها تدور بمعظمها حول الخلايا ونفهم اكثر سبب اختيار الفنانة لهذا الموضوع حين نزاوجها مع كتاباتها حول الروحانيات حيث يتضح ان لها فلسفتها الخاصة في الحياة والموت وتؤمن بان الموت مرحلة وان ابنتها لم تمت.
ومما لا شك فيه ان دلال إستطاعت في إكزود أن تتخطى مفهوم المعرض الفردي التقليدي إلى معرض فني، تفاعلي وتعبيري بإمتياز، والاهم انها تؤكد من خلال الخلايا التي رسمتها ان الحياة تستمر في جزئيات اللون الصغيرة التي تتفاعل مع القماش كأنها خلايا بشرية حية تسبح في جسد اللوحة وتعكس الطاقة الكبرى الموجودة في جسد الانسان والتي تتشظى وتنتج آلاف الخلايا يومياً كما تنتج فرشاة الرسم الاف النقاط الضوئية وهي ترقص على همس ايقاعي له حركته الفلسفية القادرة على احتواء الجمال الخلاق فهكذا كل شيء يتناغم في الكون.
جوانب الاحتفال
اما المناسبة الاحتفالية في اكزود فكانت غنية ومتعددة الجوانب كما اسلفنا:
الجانب الأول تمثل في لوحات الفنانة دلال فرح بيرد المشغولة بالمواد المختلطة «الميكس – ميديا» والأكريليك والزيت، من جهة، والمنشغلة بعملية إحياء الأمل والبذور من خلال رسم الخطوط والجزئيات البيانية الباهرة للأصل وتفرعاته من جهة ثانية، حيث تغوص ريشة دلال في ضوء اللون وإشعاعه كما في غرس الثمر ونمائه، محتفية بمعنى الإستمرار.
أما الجانب الثاني، فيكمن باحتفال غاليري «إكزود» بمرور عامين على افتتاح صالتها وبالعمل والمضي قدُماً، نحو خدمة الفن الغائي ، الذي يعزز دور بيروت الثقافي بشكل خاص، في رفد دور لبنان الحضاري، بشكل عام.
ويتمثل الجانب الثالث لهذه الإحتفالية، بقدوم زائرين مميزين، طيلة أيام المعرض، للحديث عن تجاربهم الإنسانية الأليمة، التي استطاعوا تخطيها، والإرتداد منها إلى لوحات الأمل، بينهم اهل عازفة القانون الراحلة ايمان الحمصي واصدقاؤها من مدرسة القلبين الاقدسين حيث ان اخر تلاميذها ميشال الهبر قدم عزفاً على القانون اثناء الحفل، والعامل المساعد في هذه الاجواء هو أن لوحات الفنانة دلال تنبثق من رحم التجربة، لتصل إلى دهشة الإستمرار وأضواء البقاء.
المعرض بجوانبه الثلاثة، يتيح للمتلقي، الإستمتاع بريشة دلال اللامعة، المرهفة اللون والحس والرمز، ويتيح له أيضاً الإفادة من حالات مؤثرة لأناس تخطوا مسارات الألم وذلك بجو من الايجابية.
يبقى ان دلال فرح بيرد تخبر انها بدأت ترسم في البداية كهاوية في اوقات الفراغ الا ان نقطة التحول بالنسبة اليها كفنانة كانت في برشلونة 2010 حيث رسمت اول لوحة زيتية في يوم واحد. وفي برشلونة زارت كل الغاليريهات والمتاحف وتعرفت على اعمال الكبار مثل بيكاسو، يومها رسمت خلايا في ليلة شتاء وانغمست في دراسة الخلايا وتعمقت فيها حتى تاريخ هذا المعرض.
كوثر حنبوري