سياسة عربية

العراق: المالكي يحاول التقدم… مستغلاً التناقض بين المعارضين

لم يغيّب مشهد الصلاة الموحدة السنية – الشيعية التي شهدها احد مساجد بغداد نهار الجمعة الماضي، بناء على دعوة من رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، بهدف تخفيف حدة الاحتقان المذهبي والسياسي والامني، وبقصد التأكيد على ان الازمة في مكان آخر، لم يغيّب هذا المشهد واقعاً مراً اخر، فحواه ان الازمة في الساحة العراقية آخذة في التصاعد بشكل دراماتيكي ومستمر منذ نحو خمسة اشهر، بل وتؤذن بالدخول في فصول ومراحل اكثر دراماتيكية مع غياب الحلول والتحديد السريع لمعالم التفاهمات التي تبرز من حين الى آخر.

لم يعد جديداً القول ان الازمة القائمة بعناد في العراق هي مزدوجة، اي انها ازمة حكومة المالكي وازمة المعارضين بشراسة لهذه الحكومة والباحثين بشغف وجموح عن تغيير ما في المعادلات الماثلة وتحول معين في الوقائع المقيمة منذ اجتاحت القوات الاميركية هذا البلد في ربيع العام 2003 واسقطت نظام صدام حسين.
ففي وقت هذه الصلاة الجامعة في العاصمة وقبلها كانت محافظة الانبار تشهد مزيداً من هجمات مسلحي القبائل على مخافر الشرطة ونقاط تمركز القوات الامنية وعلى دورياتها مما ادى الى سقوط اكثر من 30 عنصراً
امنياً خلال اقل من اسبوع واحد، فضلاً عن عدد من الجرحى والمخطوفين.
هذه الهجمات التي اتصفت بالعنف والضراوة قياساً الى ما سبق، خلفت انطباعاً لدى المراقبين جوهره ان الامور في الاقاليم والمناطق التي نزلت شريحة واسعة من سكانها الى الميادين والساحات منذ فترة طويلة في اعتصامات واحتجاجات ضد المالكي واداء حكومته، وتمحورت مطالب المشاركين فيها حول الغاء القوانين ذات الصلة باجتثاث البعث والار
هاب، واطلاق المعتقلين والمعتقلات من سجون الدولة وتحقيق ما يعتبرونه توازناً مفقوداً في مؤسسات الدولة واجهزتها، اخذت منحى تصاعدياً تجاوز اطر مطالب مرفوعة والتحرك من اجل تحقيقها وفق الادوات والاطر السلمية، اذ اضحت عبارة عن اعلان تمرد وعصيان وفتح المواجهات العسكرية مع قوات الامن التابعة لاجهزة الدولة.

مواجهة مفتوحة
هذا الواقع الذي صار بمثابة قصة مواجهة مفتوحة معلنة، لا سيما بعدما هددت صراحة جهات معارضة بما يفيد بأن مسلحي عشائر في وسط العراق، نظموا انفسهم وجمعوا قواهم استعداداً لمواجهة امنية مع القوى الامنية الرسمية وذلك رداً على ما اسموه «عنف الدولة» التي هاجمت قبل فترة غير بعيدة قواها الامنية المتظاهرين المعتصمين في بلدة الحويجة احد معاقل معارضة المالكي وحكومته بالقرب من الموصل مما ادى الى سقوط ما لا يقل عن خمسين قتيلاً واكثر منهم من الجرحى.
هذا الواقع المستجد المنطوي على اخطار ومحاذير واحتمالات عدة، اعاد الى اذهان المراقبين للشأن العراقي مسألتين اثنتين:

الاولى: ان تعاد عجلة الامور والاوضاع في بلاد الرافدين الى مرحلة السنوات الدامية الممتدة بين 2005 و2008 حيث وضعت البلاد على شفا حرب اهلية على اسس مذهبية لا سيما بعدما استشرت موجة عالية من العنف والقتل والتفجيرات والاغتيالات وعمليات التهجير والتطهير على اسس دينية ومذهبية تم تداركها بشق الانفس، وبعد عمليات نزف بشري ومادي، ما زالت الساحة العراقية تدفع اثمانها حتى اليوم.
الثانية: ثمة من لوح وألمح الى ان ما تم لجمه في السابق قد يصعب لجمه وتداركه في المرحلة الراهنة، خصوصاً بعدما اعلن زعماء «صحوات» وشيوخ عشائر انتقالهم جهاراً من دائرة الدعم والاسناد التاريخي للحكومة الى صفوف المعارضين لها والداعين الى رحيلها الفوري، علماً بأن قسماً من هؤلاء الزعماء والمشايخ تنكبوا مهمة المواجهة الشرسة والضارية لعناصر تنظيم «القاعدة» ابان بسط هذا التنظيم الارهابي هيمنته ونفوذه على العديد من مناطق محافظات الوسط العراقي، وجعلها قاعدة لمشروعه الخاص، ما ادى في خاتمة المطاف الى توجيه ضربة كبرى لوجود هذا التنظيم، فكان ذلك جسر عبور للدولة العراقية الناشئة من جديد يومذاك للعودة الى
هذه المناطق التي تقلص عنها نفوذها لاشهر عدة.

تفكك المؤيدين
وبناء على هذه المعطيات التي تدل على ان القواعد والمقامات المؤيدة لحكومة المالكي وللعملية السياسية التي تقودها هذه الحكومة بدأت بالتفكك والتراجع، وبدأت رحلة الانضمام الى صفوف معارضي هذه الحكومة والمتمردين على ادائها وسلوكها، وهو ما يمكن اعتباره نكسة للمالكي ولحكومته، وازدياداً لحلقات الازمة على عنق هذه الحكومة التي فتحت ابواب المواجهة على مصراعيها مع «القائمة العراقية» بزعامة اياد علاوي بما تمثله وما تضمه من شخصيات تعتبر ناطقة بلسان شريحة ديموغرافية عراقية مهمة، وبالتالي لم يعد لها مرتكزات وركائز في الوسط السني العربي الا مجموعة قيادات مجالس الصحوة وبعض زعماء العشائر.
واذا ما كان صحيحاً ان شريحة من هذه القيادات والزعامات باتت على طرف نقيض مع المالكي وحكومته، فإن ذلك بحد ذاته يعني ان المالكي بات في حالة تناقض تام مع شريحة عراقية وازمة مؤثرة.
واللافت في هذا الاطار ان المالكي عجز خلال الفترة الماضية عن ايجاد سبل لمعالجة الازمة، واعادة جسور العلاقة والثقة سواء مع المعارضين المزمنين له او المعارضين الذين فكوا لتوهم تحالفهم معه، وذلك نتيجة ان معا
رضي المالكي فقدوا فعلاً ثقتهم بوعوده وادائه او انهم قد وجدوا ان الظروف مؤاتية لاحداث تغييرات جذرية في خريطة المعادلات السياسية القائمة، فذهبوا بعيداً في رهاناتهم وذهبوا في الوقت نفسه بعيداً في مجافاة المالكي وعدم التجاوب مع المبادرات التي قدمها والمحاولات التي بذلها بغية التجاوب مع المطالب التي رفع لواءها المعتصمون المحتجون.

تناقض المعارضين
اما المسألة الثانية فتتجسد في حال الارباك والتناقض والمراوحة في الخيارات التي عاشها وما زال يعيشها معارضو المالكي ولا سيما اولئك الذين اختاروا طريق النزول الى الشارع والاعتصام في الساحات والميادين تصعيداً في الاحتجاج على اداء الحكومة العراقية.
فالمعلوم ان هؤلاء رفعوا لحظة نزولهم الى ميادين الاعتصام والاحتجاج شعارات هي في معظمها محقة، اقرت بشرعيتها حكومة المالكي نفسها، و
بادر قسم من الرحم السياسي الذي يدعم المالكي، وفي مقدمه التيار الصدري، فضلاً عن المرجعية الدينية العليا في النجف الى الافصاح عن تأييدهم لهذه المطالب ودعمهم لها والمطالبة بالتعجيل في النظر فيها، والاخذ بما هو محق ويتطابق مع القوانين والدساتير.
لكن خط سير حركة التظاهر والاحتجاج هذه بدأ بالتذبذب والضياع، اذ شرع المشاركون فيها في رفع منسوب التحدي للمالكي ولحكومته، ثم رفعوا شعار المطالبة برحيل المالكي نفسه كشرط اولي لفض اعتصاماتهم والخروج من الميادين والساحات.
وكانت المرتبة الاقصى في حراك هؤلاء المعارضين على مستويين.
الاول: دعوة قسم منهم الى المواجهة المباشرة مع القوات الامنية في مناطق ومحافظات بعينها بعد توجيه نداء الى رجال العشائر ومسلحيها للاحتشاد، وعليه كانت بعض المواجهات والهجمات المتكررة على الجيش ومخافر الشرطة وما اليها.
الثاني: رفع لواء الدعوة الى تشكيل اقليم سني في الانبار. هذا الشعار كان في البداية مجرد دعوة متطرفة تصدر عن زعيم من هنا او مجموعة من هناك، لكنها باتت في الايام القليلة الماضية لسان حال شريحة واسعة من المعتصمين والمعارضين.
وفي كل الاحوال يبدو ان امر الدعوة الى حمل السلاح في وجه السلطة وامر الدعوة الى اقامة اقليم سني مستقل اثارا تناقضات وخلافات داخل المعتصمين والمحتجين، لدرجة ان ثمة من رأى بأن الدعوة الى تشكيل اقليم سني في الانبار، ادت الى شق صفوف المتظاهرين في العراق، اذ سجلت على سبيل المثال خلافات بين قسم من المتظاهرين وخصوصاً من مجموعات الموالين للسعدي (الحزب الاسلامي والجناح العراقي لتنظيم الاخوان المسلمين) وصلت الى حد الاشتباك بالايدي بين الطرفين في الفلوجة، مما اوحى فعلاً بأن ساعة المواجهة الحتمية بين المعتصمين قد اوشكت على التحقق خصوصاً بعدما طال امد التظاهرات والاعتصامات.

والقيادة ايضاً
واللافت في هذا الاطار ان التذبذب والمراوحة لم يكونا فقط على مستوى قاعدة المحتجين والمعتصمين، فقد انعكسا ايضاً على قيادة هذا الحراك وهي قيادة طغى عليها الطابع الديني، لا سيما بعد بروز اسم رجل الدين الشيخ عبد الملك السعدي والاشارة اليه على انه المرشد الروحي للمعتصمين والمعارضين.
لقد صار معلوماً بأن هذا الرجل اعلن اكثر من مرة عن استعداده لبدء الحوار مع حكومة المالكي وكان اخرها بعد احداث الحويجة وما خلفته من تداعيات وتطورات، اذ اعلن عن مبادرة لبدء التحاور مع الحكومة المركزية، لكنه وفي مطلع الاسبوع عاد فأعلن عن سحبه لهذه المبادرة.
ومع ذلك فإن السعدي اعلن انه ضد خيارين يسير بهما المعتصمون، الاول الدعوة الى اقليم في الانبار، والثاني انه ضد اللجوء الى خيار السلاح والمواجهة مع قوات الحكومة.
وفي كل الاحوال، بدا جلياً ان كل الاطراف على الساحة العراقية باتت تعيش على وقع المراوحة في الازمة والعجز عن الخروج من شرنقتها، وما يحصل هو انتصارات موضعية يحققها كل طرف على الطرف الاخر ولكنها مسدودة الافق.

ابرهيم بيرم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق