رئيسيسياسة عربية

كواليس المكائد في نظام الاستعصاءات

يضع تقرير ديبلوماسي غربي مقاربة لافتة للواقع اللبناني، في ضوء ما يشوبه من استعصاء على الحلول. وفي وسع المراقب ان يقرأ في طيات التقرير وخلفياته حذراً غربياً من امكان انهيار حال الاستقرار الهش، ربطاً بالوضعين السياسي والاقتصادي – الاجتماعي الآخذين في التحلل، وكذلك مخاطر تسليم مختلف الافرقاء بالفراغ سبيلاً لملء الوقت الضائع في انتظار الحسم في الحرب السورية.

يشير التقرير الديبلوماسي الغربي الى انه على رغم التحذيرات من حدوث فراغ سياسي في لبنان بعد استقالة رئيس الحكومة نجيب ميقاتي وتعثر تشكيل الحكومة الجديدة، يظهر العديد من السياسيين اللبنانيين غير قلقين، ويبدون ارتياحاً مضموراً لمسار الامور ومآل التطورات، بعكس ما تشي به التطورات الآنية والمرتقبة. وعلى رغم ان انهيار حكومة الرئيس نجيب ميقاتي اثار، في الواقع، خطر زعزعة الاستقرار واشاعة القلاقل في لبنان مع تأثير امتداد الحرب في سوريا، ثمة من يصف الأزمة الراهنة في البلاد باعتبارها انجرافاً مؤسستياً ترك مجالاً واسعاً للمناورة السياسية في بيئة مستعصية على الحلول، اذ من بين هؤلاء الساسة من يعتقد او يتوهم بأنه من الممكن أن تخفف المناورات السياسية الراهنة بين مختلف القوى والاحزاب والمجموعات، مخاطر الجمود الذي تعانيه المؤسسات اللبنانية، وتالياً فتح المجال امام الوصول الى اتفاق في شأن القضايا الرئيسية. لكن اللاعبين السياسيين في لبنان يبدون أيضاً حرصاً على استغلال حال اللاستقرار، بهدف انتزاع تنازلات من منافسيهم وإضعافهم، بمعنى ان لا حافز لهؤلاء اللاعبين كي يبادروا الى تقديم تنازلات في القضايا ذات الأهمية، وتالياً يجنحون الى ترك مصير الحكومة والانتخابات البرلمانية في عهدة الوقت، وتالياً التأجيل، على رغم ان التغافل عن الواقع والركون الى حال من ادارة الازمة، اي الارجاء، قد ينتجان فراغاً شبيهاً بفترة فراغ سابق تلا انتهاء ولاية الرئيس السابق اميل لحود، ولم ينته الا بحرب موضعية قام بها «حزب الله» وحلفاء له في بيروت والجبل، وفرضت على مختلف افرقاء الازمة اللبنانية الاحتكام الى اتفاق رعته القيادة القطرية، والى القبول بالقائد السابق للجيش الجنرال ميشال سليمان، رئيساً للجمهورية.

المشكلة
ويذكّر التقرير بأن الأزمة السياسية المستمرة منذ فترة طويلة في لبنان، لم تبدأ مع الصراع السياسي بين ائتلاف قوى الثامن من آذار (مارس) بقيادة «حزب الله»، وتحالف قوى الرابع عشر من آذار (مارس) الذي يقوده تيار «المستقبل». والمشكلة لم تنشأ مع حكومة ميقاتي الذي تموضع في مكان ما في الوسط بعد خروجه من التحالف الذي يقوده «المستقبل» اثر تسميته من التحالف الذي يقوده «حزب الله» رئيساً للحكومة، لكنها تعمقت بعد استقالته في 22 آذار (مارس). اتت الأسباب المباشرة للاستقالة وبدء مسلسل الانهيارات السياسية، على خلفية مناقشة شرسة في مسألة إصلاح القانون الذي سيحكم الانتخابات البرلمانية المقررة في حزيران (يونيو) 2013.
ففي حين فضل تيار «المستقبل»  والزعيم الدرزي وليد جنبلاط اعتماد النظام الانتخابي الراهن (المعروف بقانون 1960)، عارض ائتلاف الثامن من آذار (مارس) الوضع الراهن وأصر على البديل المعروف باسم القانون الأرثوذكسي، والذي حظي بشعبية بين المسيحيين المتوزعين بين الائتلافين، على رغم ان هذا المشروع الانتخابي هذا مثير للجدل لانه يكرس طائفية النظام. ولم تؤدّ مشاريع قوانين عدة هجينة تم طرحها وجمعت عناصر من كلا الاقتراحين، الى تقديم حلول انتخابية ناجعة، اذ اتخذت كل الأطراف مواقف متشددة وصلت الى حد الاشتباك، بدءاً من محاولة ميقاتي مواصلة الأعمال التحضيرية للانتخابات، وليس انتهاء بالتقاذف الاعلامي الاخير بين القوتين المسيحيتين: «التيار الوطني الحر» و«القوات اللبنانية» على خلفية ما اعتبره التيار «تنصلاً قواتياً من مشروع القانون الارثوذكسي وانقلاباً على الاجماع المسيحي الذي كرسته البطريركية المارونية وضم مختلف افرقاء النزاع المسيحي»، اي التيار والقوات والمردة والكتائب، وادى الى انهيار مشروع قانون الارثوذكسي في مجلس النواب.
ويشير التقرير الى ان الخلاف الانتخابي، أدى اولاً إلى استقالة ميقاتي وانهيار حكومته، لكنه ايضاً انتج أعراض ارتفاع التوتر بين السنة والشيعة في لبنان وعسكرة متزايدة لهذا التوتر، تغذيها الحرب في سوريا المجاورة. ويلفت الى ان تسمية النائب تمام سلام رئيساً للحكومة العتيدة في الاسبوع الاول من نيسان (ابريل)، بأرجحية نيابية كبيرة
بلغت 124 نائباً من اصل 128 وبمشاركة فريقي الصراع، ولم يؤد بعد الى ايجاد حل للمسألة الحكومية المتعثرة والمتأثرة حكماً بالصراع الانتخابي كما بمآل الحرب السورية، اذ لا يزال اطراف رئيسيون في المعسكرين السياسيين المتنافسين لبنانياً يراهنون على ان التطورات السورية ستبدّل في ميزان القوى المحلي، وستنصر طرفاً على آخر، لذا ليس من السهل فصل الازمة السورية عن المسار اللبناني، حتى لو كانت السياسة الرسمية اللبنانية المعلنة هي النأي بالنفس عن كل ما يحوط لبنان من ازمات وتوترات، واستظلال «بيان بعبدا» الذي وافق عليه في وقت سابق كل الاطراف المشاركين في جلسات الحوار الوطني.

المكائد
ويعتبر التقرير الديبلوماسي ان «الكواليس اللبنانية» حبلى بالمكائد والافخاخ التي ينصبها فريقا الصراع كل للآخر. فعلى سبيل المثال، يتوقف رأي «حزب الله» من اي حكومة جديدة، على موقفها مما يعتبره الحق في الحفاظ على جناحه العسكري وعلى سلاحه، في حين يسعى تيار «المستقبل» بما اوتي من قوة ودعم وحنكة، لحجب هذا الحق عن «حزب الله»، وتالياً اسقاط عبارة «الجيش والمقاومة والشعب» التي وردت في بيانات كل الحكومات التي تشكلت بعد ازمة ايار (مايو) 2008 والتي نتجت عن اشتباك سياسي – عسكري بين «حزب الله» وتيار «المستقبل» اثر محاولة حكومة الرئيس فؤاد السنيوره تفكيك سلاح الاشارة (شبكة الاتصالات) العائد للحزب. لذلك يضغط «المستقبل» وتحالف قوى الرابع عشر من آذار (مارس) لتشكيل حكومة محايدة ذات ولاية مؤقتة تقتصر على إجراء الانتخابات النيابية بموجب قانون 1960 (أو، بصورة أكثر واقعية، بموجب نسخة معدلة عن هذا القانون). وتشترط هذه القوى اسقاط عبارة الجيش والمقاومة والشعب – وهي عبارة تغطي ترسانة سلاح حزب الله وما يملك في خزائنه – من بيان الحكومة المرتقبة. ويتكىء تيار «المستقبل» في مقاربته هذه على «بيان بعبدا» الذي رعاه الرئيس سليمان والقائم من جهة على الحياد والنأي بالنفس عن الازمة السورية، ومن جهة اخرى على وضع استراتيجية دفاعية للبنان في وجه اي حرب اسرائيلية ممكنة، مع ابقاء الامر المركزي بالمواجهة في المؤسستين السياسية والعسكرية، في حين تكون المقاومة الاسلامية، اي الجناح المسلح لـ «حزب الله»، سنداً للجيش اللبناني، لا مبادراً كما هي الحال منذ نشوء هذه المقاومة في منتصف ثمانينيات القرن العشرين.
في المقابل، تصر قوى الثامن من آذار (مارس) على تأليف حكومة انقاذ وطني، هي عبارة عن تشكيلة حزبية تضم كل الفصائل ولا يقتصر دورها على ادارة العملية الانتخابية. وربما هذه هي أفضل فرصة لـ «حزب الله» كي يضمن دعماً صريحاً لاستقلاليته العسكرية، بصرف النظر عن مآل الانتخابات النيابية، سواء جرت في موعدها او ارجئت. ويؤيد الحزب في مسعاه حليفه «التيار الوطني الحر» بقيادة الزعيم المسيحي البارز ميشال عون. والحزب خلافاً لغيره من الفصائل، هو الأقل اهتماماً بمسألة القانون الانتخابي، لانها لا تشكل تهديداً يذكر لقاعدة قوته، الا من باب تأمين الغطاء السياسي والقانوني لسلاحه، وتمكين شريكه المسيحي من الحفاظ على كتلته النيابية الوازنة، بما يؤدي حكماً الى فو
ز تحالف قوى الثامن من آذار (مارس) في الانتخابات النيابية، وتالياً السيطرة على الغالبية النيابية وعلى الحكومة التي ستنبثق عنها، واستطراداً سيتمكن هذا التحالف من التأثير مباشرة في الانتخابات الرئاسية اللبنانية المقررة في ايار (مايو) 2014، والتي يراها عون الفرصة الاخيرة له لوصوله الى رئاسة الجمهورية.
ويلفت التقرير الى ان مجمل هذه التعقيدات والترهلات والارهاصات، تزيد الامور تعقيداً وتصعّب المفاوضات النيابية والحكومية. ويرى ان الاعترافات المتبادلة والمتقابلة للزعماء اللبنانيين تظهر بما لا يقبل ادنى شك انهم يستخدمون الأزمة السياسية لابتزاز بعضهم البعض، وانهم لن يتورعوا عن استخدام الشارع وتجاهل العملية السياسية لفرض آرائهم او افكارهم، وهذا كان دأبهم في اكثر من ازمة سابقة.

قبضة فراغ
ويوضح التقرير الديبلوماسي الغربي ان فشل القوى السياسية في التوصل إلى اتفاق، قد يترك لبنان في قبضة الفراغ، خصوصاً مع تبني الفصائل المتناحرة موقف الانتظار والترقب لنتائج القتال في سوريا والذي أثر تأثيراً عميقاً في ميزان القوى في لبنان. وينبّه الى مخاطر الفراغ والعدم السياسي، بالتوازي مع البيروقراطية اللبنانية المعروفة، والضغوط المتزايدة على الاقتصاد وتباطؤ النمو في القطاعات الرئيسية، الضعيفة اصلاً، مما قد يؤدي الى انهيار شامل، مع بروز تقارير اقتصادية ومالية رسمية تحذّر من امكان تعذر دفع رواتب موظفي القطاع العام خلال فترة اقصاها ايلول (سبتمبر) المقبل، في حال بقيت الازمة السياسية على استفحالها. ولا شك في ان هذا الواقع سيدفع بشرائح واسعة من اللبنانيين الى احتلال الشارع احتجاجاً على ما ستصير عليه احوالهم المعيشية، علماً بأن قطاعات واسعة من العمال، وخصوصاً المعلمين وموظفي القطاع العام، يهددون بالعودة الى الشارع على خلفية تعذر اقرار زيادة رواتبهم وفق صيغة سبق لحكومة ميقاتي ان اقرتها قبل يوم من انهيارها.
ويقول التقرير ان فريقي النزاع، حتى اللحظة، لا يملكان حافزاً قوياً قد يؤدي الى التوصل إلى صفقة كبرى. فقوى الرابع عشر من آذار (مارس) تراهن على ان الصراع الدائر في سوريا سيستنزف «حزب الله» استراتيجياً، مما يجعل هذه القوى في وضع أفضل لإعادة تأكيد نفسها سياسياً. اما قوى الثامن من آذار (مارس) فتركن، ولو باطنياً، الى قدرتها على الحسم في اللحظة السياسة المناسبة والمؤاتية لها، بصرف النظر عن العملية السياسية (الانتخابات او الحكومة) بحكم التفوق العسكري لـ «حزب الله». كما تبدي ارتياحاً الى وضع النظام السوري في حربه ضد معارضيه، مع بروز بدايات ثنائية دولية بين الولايات المتحدة الاميركية ودول «البريكس» ترى هذه القوى انها ستصب حكماً في مصلحة هذا النظام وستصلب عوده.
ويختم التقرير المذكور: «ربما الأكثر إثارة للقلق والهلع هو أنه مع مجلس نواب أو من دونه، مع حكومة او من دونها، سيبقى لبنان رهينة نتائج القتال في سوريا، بدلاً من ان ينصرف زعماؤه الى ترميم مؤسساتهم الرسمية المشلولة والمعطلة بالازمات المستفحلة، والى اعادة تكوين نظامهم المبني على الاستعصاءات».

طلال عساف

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق