صحة

تذكر ايها الطبيب الانسان انك… انسان!

هو المؤتمر الطبي السادس والأربعون للشرق الأوسط، يعني أتى قبله 45 مؤتمراً، يعني أيضاً انه اتكلّ على تاريخٍ عمره أكثر من نصفِ قرن… فهل أتى الجديد على نسق القديم؟ وماذا يعني أن تستضيف الجامعة الأميركية في بيروت مؤتمراً طبياً للشرق الأوسط يتجاوز مفهوم الصحة التقليدي الى المفاهيم الجديدة المبتكرة؟ وماذا يعني الابتكار في الطب؟ في الجامعة الأميركية في بيروت، في المؤتمر الطبي السادس والأربعين للشرق الأوسط، هدر العلم وتفجرت الطاقات وسالت المعلومات وارتقت الأهداف التكوينية، بكلِ صلاتِها، الى مستوى الانسان… الانسان!

يُقال: رجلٌ واحدٌ شجاع هو أكثرية… فكيف إذا ضمّ مؤتمر طبي عشرات الرجال الشجعان؟! ماذا لو سمعنا على مدار يومين وأكثر عشرات الأطباء يتكلمون بصوتٍ عالٍ، ملؤهُ الإلتزام، عما يُفترض أن يكون في الحقل الطبي غير التقليدي! نعم غير التقليدي… فنحن في عصرٍ جديد تجتاحه عوامل كثيرة، لم تكن في غارب الزمان، وتحتاج باستمرارٍ الى إعادة تقويم وتجديد وابتكار.
الدكتور علي شرارة، رئيس قسم أمراض الجهاز الهضمي والكبد في المركز الطبي في الجامعة الأميركية، ترأس اللجنة المنظمة للمؤتمر السادس والأربعين للشرق الأوسط. وهو، منذ البداية، أراد أن يُشكل استثناء، فأصر على أن يكون رئيساً سنة واحدة، في حين ان النظام العام ينص على أن يأتي الرئيس لسنتين. هو  يثق بأن ما يُحقق في مؤتمر أول قد لا يتكرر في مؤتمر ثان، من تنظيم الشخص والجماعة عينهما، ويُعلق: «حين يُقرر الإنسان تحقيق طموحاته في مشروعٍ ما يفعل أقصى ما يستطيع فإما ينجح وإما يفشل. وجميل أن يُعطي المحاولة التالية الى طامحٍ آخر». هذا ما فكّر فيه الاختصاصي في الجهاز الهضمي والكبد لكن بعيداً عن مدة الولاية الأصلية وتخليه عنها في وقت نرى الكل، في الطب كما في السياسة كما في الاقتصاد، يحلمون بالتمديد!! بعيداً عن كل هذا نسأل: هل الدكتور علاء شرارة راض عن مسار المؤتمر السادس والأربعين؟

مع كل مؤتمر ثورة طبية
بدأت أعمال المؤتمر الطبي السنوي للشرق الأوسط قبل 63 عاماً، في العام 1950 تحديداً، لكن بسبب الحرب والارتكابات الأمنية في أكثر من تاريخ ومحطة، جرى 46 مؤتمراً في 63 عاماً. ويومها، قبل 63 عاماً، لم تكن هناك جامعات أميركية في المنطقة غير الجامعة الأميركية في بيروت التي كانت مقصداً من كل المنطقة. واعتاد الجميع أن يشهدوا مع كل مؤتمر ثورة طبية – صحية، بكل ما لكلمة ثورة من أبعاد ومعان. المؤتمر يأتي غالباً شاملاً، لكنه تميز هذه السنة بضمِهِ ورش عمل تهم المجتمع، كل المجتمع بكلِ شرائحِهِ وأنماطِهِ وطبقاتِهِ، وهذا يعني، بحسب الدكتور علاء شرارة، أنه تم تطوير برنامج هذا العام كمنتدى صحي عالمي بناء على مواضيع جوهرية تمّ إنتقاؤها لتتناسب مع رؤية المركز الطبي في الجامعة الأميركية، وتتكوّن من التعليم الطبي المبتكر الذي ضمّ ورشة المحاكاة الأولى في لبنان، الى الصحة العالمية والطب الإجتماعي والبحوث السريرية والطب الوقائي وإصلاح نظام الرعاية…
جميلٌ جداً أن تُطرح كل هذه العناوين بصوتٍ عال في حضرة أطباء تراوح عددهم بين ألف و1500 طبيب، ناقشوا 37 متكلماً و50 محاضراً من 13 دولة من دول المنطقة وأوروبا وأميركا الشمالية… لكن نُكرر: هل الدكتور علاء شرارة راض عن المؤتمر الطبي السادس والأربعين للشرق الأوسط؟

الإنسان في الطبيب!
رئيس المؤتمر، الواضح دائماً في كلامِهِ، يؤيد أن معادلة واحد زائد واحد لا تصلح في تقدير نجاح أو فشل مؤتمر، فالغاية من المؤتمر السادس والأربعين، الذي جرى بالتعاون مع كليفلاند كلينيك، كانت تسليط الضوء على مركزية العنصر البشري، وتحديداً على الإنسانية في الطب. هذا إذا ما هو جديد ولكم أن تُقدروا، كبشرٍ، خواتيم هكذا مؤتمر! فالطبيب لا يكفي أن يحمل شهادة في الطب، بل عليه أن يكون إنساناً أيضاً! وكم نحتاج بالفعل الى الإنسان في الطبيب؟!
تألق افتتاح المؤتمر بحضور البروفسور دايفيد ساندرز، المدير المؤسس لكلية الصحة العامة في جامعة جنوب إفريقيا، الذي سبق وناضل لتحقيق الرعاية الأولية العادلة في إفريقيا. الرعاي
ة الأولية إذاً نضال. والنضال في موضوع يخص رعاية الإنسان، في أي بقعةٍ من العالم، سواء صُنفت عالماً أول أو ثالثاً أو عاشراً، يُفترض أن تُستخلص منه التجارب. التجارب تصقل. والاستماع الى التجارب تُعلّم الدروس والعِبر. والعلم، بحسب الدكتور شرارة، تغير كثيراً، فنشأت إختصاصات في قلب الإختصاصات، و«ما عاد همنا إعداد مؤتمرات بقدرِ ما نهدف الى تحقيق أهداف، لهذا أطلقنا على المؤتمر الطبي السادس والأربعين اسم: منتدى الصحة العالمية الشامل. الأهداف شغلتنا كثيراً في هذا المؤتمر. حاولنا مثلاً أن نقول، من ضمن كل ما قلناه، أنه آن الأوان لأجراء مسحٍ شامل لسرطان القولون، الذي هو المسبب الثاني لموت النساء بعد سرطان الثدي، لكننا نادراً ما نسمع عنه! نحن لا نريد أن نقول للعالم انتبهوا ونقطة على السطر بل نريد أن نتمثل بالتجربة الهولندية التي عرضها باحث من هناك استعرض كيفية إجراء هولندا مسحاً شاملاً لسرطان القولون. نريد أن نحذو حذو هولندا في وضع القطار على السكة واستعراض ما جنته من فوائد وما تكبدته من أعباء. نحن لن نطالب، والكلام الى شرارة، بإجراء مسح لسرطان الدماغ النادر لكننا نصر على إجراء مسح لسرطان القولون المتفشي، الذي يمكننا أن نتحكم به ونشفى منه بنسبة ثمانين في المئة إذا استوعبناه».
ضمّ المؤتمر ورش عمل للتلاميذ الذين سيُصبحون يوماً ما أطباء. والهدف كان إيقاظهم على حقيقة أن العلم لا يكون بمجرد حفظ المعلومات بل بالبحث الدائم وببناء العلاقات الوطيدة مع المجتمع المدني والإنسان في قلب المريض. «حاولنا أن نقول للتلميذ: أنت لست رجلاً آلياً «روبوت». انت باحث وإنسان ومبتكر أيضاً. التركيز على الإنسان كان هدف المؤتمر. وحتى في الرسم الذي اخترناه شعاراً وضعنا وجوهاً وأشكالاً بشرية في حبة الدواء المركزة للتأكيد على الإنسان في كل ممارساتنا الطبية اليومية».

اللاعدالة في الطب
نتحدث عن «الإنسان» ونتحدث عن «النضال”» ونتحدث عن «اللاعنف» ونحن نتكلم عن مؤتمر طبي! تُرى هل يتذكر الأطباء كم مهمتهم صعبة؟ تُرى هل يتذكرون أن في الطب أيضاً عدالة؟ وماذا تعني العدالة في الطب؟
اللاعدالة سُلّط عليها الضوء، عبر أكثر من كلمة ومداخلة وبرهان، بينها ما تحدث به البروفسور الأفريقي المناضل ساندرز من أن العولمة باتت تؤثر سلباً على الصحة العامة العالمية من خلال اللامساواة بين الشعوب وحالات العنف وانعدام الأمن الغذائي وسوء التغذية…
كيف نُحسن؟ ثمة مشكلة في الرعاية الأولية فكيف نُحسنها؟ كيف نُحسن التوعية؟ التلاميذ يبتعدون عن الإنسان في الطبيب فكيف نُحسن مسارهم ونعيدهم الى حيث يجب؟ وكيف وكيف… كثيرة هي الهواجس والاسئلة التي طرحت. وقد جرت، بحسب رئيس المؤتمر، أبحاث سريرية وحكى ستة خبراء عن خبراتهم. واجريت ورشة عمل عن التدخين والقانون 174 وراجعنا خلالها مخاطر التدخين وسألنا بصوت عال: إذا أقلعنا عن التدخين ماذا نربح وماذا نخسر؟ والنتيجة: لا خسارة مطلقاً والمكسب للجميع. وأعددنا ورشة عمل تدريبية للأطباء حول كيفية مساعدة المدخنين ليُقلعوا عن عبودية السيجارة.
المؤتمر الطبي السادس والأربعون للشرق الأوسط ضمّ أيضاً ولأول مرة في لبنان ورشة محاكاة، جرى التدريب خلالها على مجسم بشري «مانيكان»، ومعلوم كم بات هذا النوع من التدريب مطلوباً في العالم كبديل أساسي لتدريب الأطباء والفريق الصحي على العوامل البشرية المؤدية الى ارتكاب الأخطاء الطبية.
تمّ إذاً المؤتمر الطبي السادس والأربعون للشرق الأوسط، بزخمٍ من رئيسه الدكتور علاء شرارة والفريق الرائع المساعد. نجح المؤتمر؟ لم ينجح؟  يكفي أن يكون كل من عبر الى قاعات المؤتمر عاد وخرج منها مزوداً بمفهوم الصحة الجديد، بأبعادِهِ الاجتماعية والاقتصادية والسياسية كلها. يكفي كل هذا لنقول: أن المؤتمر نجح… منذ البداية الى الخواتيم… والبداية كانت، لمن لم يعرف، حفلاً موسيقياً… أوليس التركيز الأول كان على الإنسان؟ ألم تقل آن بولين، الزوجة الثانية لملك انكلترا هنري الثامن، الموسيقية البارعة: وكيف يجرؤ من لا يتذوق الموسيقى أن يسمي نفسه إنساناً؟!.

نوال نصر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق