رئيسيسياسة عربية

رسم خريطة جديدة للواقع السياسي العراقي

يوشك تحرك المعتصمين في ساحات وميادين بعض مدن الوسط العراقي احتجاجاً على اجراء حكومة نوري المالكي تجاه شريحة من سكان العراق، وبالتحديد السُنّة العرب، على دخول شهره الخامس على التوالي، من دون ان يظهر في الافق ما يوحي بأنهم قبلوا بما قدمه المالكي من تنازلات، وبما حققه لهم من مطالب رفعوا لواءها، منذ لحظة ان قرروا ولوج خيار التصعيد المفتوح، والنزول الى الشارع.

ان زمن العودة الى طاولة الحوار مع الحكومة توطئة لمرحلة جديدة، لا يكون عنوانها المواجهة، ومن دون ان تلوح في الافق بوادر ومعالم توحي بأن المعارضين قادرون على فرض ما يريدون بشكل ظاهري او مضمر من اهداف ومقاصد، من شأنها ان تعيد رسم خريطة جديدة كل الجدة للواقع السياسي العراقي الذي انفرطت معالمه وحدوده بعد اول انتخابات عامة جرت في العراق اثر سقوط نظام صدام حسين في العام 2005.
ومما زاد المشهد تعقيداً والوضع تأزماً لدى المعارضين والمعتصمين ان حكومة المالكي وضعت هؤلاء مؤخراً وجهاً لوجه امام تحد بالغ الصعوبة، وذلك عندما اطلقت القوى الامنية التي تحوط بساحات الاعتصام في ساحة الحويجة احدى مناطق الموصل، نيران اسلحتها على المعتصمين في هذه الساحة فأردت اكثر من 52 شخصاً منهم، واوقعت نحو مئة جريح في خطوة غير مسبوقة، مما اوحى للمتابعين بأن الحكومة العراقية قررت خريطة طريق جديدة لمرحلة جديدة من التعاطي مع هؤلاء المتمردين عليها، هي مزيج من العنف والليونة معاً، خصوصاً بعدما حاصر المالكي نفسه المعتصمين بسيل من الاتهامات ابرزها انهم يتحركون بتوجيهات من تنظيم «القاعدة» وانهم بحراكهم التصعيدي انما يخدمون منظمات الارهاب ويغطون ممارساتها والتفجيرات التي تقوم بها، وان مطالبهم ذات طابع مذهبي فتنوي.

اتهامات مفبركة
ولعل اخر خاتمة هذه الاتهامات كانت ان ساحات وميادين الاعتصامات صارت بؤرة تأوي وتحمي المسلحين والمجموعات الارهابية وترسانات لاسلحتها، وهو ما شكل مبرراً لعناصر القوات الامنية للهجوم المباغت على المعتصمين في ساحة الحويجة وسواها، وبالتالي فتح ابواب التصعيد والمواجهة على مصراعيها من جانب الحكومة على المعتصمين والتهديد بخطوات اكثر حزماً حيالهم، ووضعهم امام خيارين احلاهما مر، فإما فض هذه الاعتصامات، واما انتظار المزيد من مظاهر الحزم والشدة.
بناء على كل هذه المعطيات والوقائع الميدانية والسياسية العنيدة، بدا واضحاً ان المعتصمين والمعارضين باتوا امام مرحلة جديدة وامام خيارات اخرى مختلفة، لم يعد ينفع معها ترداد الشعارات التي رفعوا لواءها منذ بواكير تحركهم، ولم تعد تجدي انماط التحرك اياها واشكالها.
لذا، فإن السؤال المطروح بإلحاح هو: ما هي الخيارات التي يمكن ان يتخذها هؤلاء، وما هي الشعارات التي يمكن ان يرفعوها من الان فصاعداً، خصوصاً ان ثمة قناعة بدأت تترسخ في كل الساحة العراقية فحواها ان المالكي نجح الى حد بعيد في استيعاب حركة المحتجين، وفي جعلهم في وضع المراوح القاصر.
منذ بداية النزول الى الشارع، بدا المعتصمون والمحتجون في حال ارتباك او على الاقل في حالة عدم ثبات على شعار جلي واساسي يمكن ان يتمسكوا به ويدافعوا عنه حتى النهاية ومهما كانت الاثمان.
فالمعلوم ان المحتجين نزلوا الى ميادين الاعصام اثر ذيوع نبأ القاء السلطات العراقية القبض على فريق حراسة وزير المال واحد اقطاب «القائمة العراقية» المعارضة رافع العيساوي، اذ خشي هؤلاء ان يلاقي العيساوي مصير نائب الرئيس العراقي السابق طارق الهاشمي بقصد اقصاء كل القيادات المعارضة للمالكي وتصفية نقاط القوة لدى المعارضة ولا سيما قادة الطيف السني.
ثم رفع هؤلاء شعارات اخرى اكثر تطوراً من قبيل اطلاق سراح معتقلين ومعتقلات بالمئات ومن دون محاكمة والغاء اجراءات قانونية لالقاء القبض على اشخاص معينين، وايقاف مفاعيل الكثير من القوانين المتصلة بقانون المساءلة والعدالة واعادة الاعتبار الى اشخاص ومجموعات ألحق بها هذا القانون الضيم والاجحاف.

المطالبة باقالة المالكي
وبعد ان آنس المعارضون من انفسهم قوة، ولا سيما بعد ان ازداد عدد المشاركين في الاعتصامات وبعدما زاد بقاء الناس في الساحات والميادين اكثر من شهر، وبعدما اقفلت كل دعوات الحكومة العراقية الى الحوار، وبعدما لم يتجاوب المحتجون مع تنازلاتها وتجاوبها مع المطالب، وبعدما بدا  وجود تعاطف من جانب «التيار الصدري» معهم، رفع المحتجون والمعتصمون والمعارضون من وتيرة شعاراتهم، اذ طالبوا الصف السياسي الداعم للمالكي بالعمل على اقالته وتقديم شخصية اخرى سواه، ليتم تثبيته مكانه وليكون فاتحة مرحلة جديدة من العملية السياسية في العراق.
وفي خضم كل ذلك، كان ثمة سؤال محوري يفرض نفسه، وهو: هل ان المعتصمين نزلوا الى الساحات والشوارع وبقوا طوال هذه الفترة مرابطين في العراء، من اجل هذه «الحفنة» من المطالب التي كان يمكن التفاوض عليها والمطالبة بها عبر اشكال وانماط اخرى من التحرك الذي لا يتخذ هذا الطابع الصدامي المفتوح، ام ان حدود هذا الحراك واهدافه المضمرة تتعدى الحدود المكشوفة لترتبط بمقاصد لها علاقات بصراعات المنطقة وخريطة التحالفات والتغييرات والتحولات فيها، خصوصاً على ضوء ما يحدث في الساحة السورية منذ عامين وبضعة اشهر؟
الاسئلة ذاتها فرضت نفسها وبقوة على المعتصمين وقياداتهم، خصوصاً ان التناقضات والتباينات ظهرت على هؤلاء، اذ برزت فئة وزعامات افصحت عن رغبتها في فتح ابواب تحاور مع السلطة والحكومة، وبدأت بالفعل في فتح قنوات لهذه الغاية بشكل جلي ومكشوف، في حين ان شريحة اخرى من المعتصمين تعاطت بسلبية مطلقة مع هذه الدعوات الى التواصل مجدداً مع الحكومة في بغداد والى التفكير بخيارات اخرى غير خيار التصعيد والقطيعة والسلبية.
وحسب المعطيات والمعلومات، فإن التباين بين المعتصمين ظهر على مدى ايام بأجل صوره لدرجة ان ثمة قطاعات واسعة من المعتصمين اخلت ساحات الاعتصام، لا سيما بعدما طال الامر وقدمت حكومة المالكي اقصى ما يمكن تقديمه، وبدأت الامور تراوح مكانها.

تطورات متسارعة
لكن ثمة تطورات متسارعة سمحت للتيار التصعيدي بأن يعلي صوته، ابرزها:
– مجزرة الحويجة وتداعياتها ونتائجها.
– عجز قيادات المعارضة السياسية وخصوصاً اركان «القائمة العراقية» والذين خرجوا منها لاحقاً عن استيعاب المتظاهرين والمعتصمين.
– تبلور قيادة «ميدانية» للمعتصمين هي التي فرضت نفسها وصار النطق باسم المحتجين بيدها.
– عدم اقتناعهم بما قدمته الحكومة من تنازلات وما حققته من مطالب، وفقدان الثقة اصلاً بشخصية المالكي وبوعوده وتعهداته وقدرته على الذهاب بعيداً في رحلة الاصلاحات المنشودة التي تخرج سُنّة محافظات الوسط مما يعتبرونه تهميشاً متعمداً.
  وبناء على كل تلك المعطيات، فإن ثمة من يرى ان المعتصمين باتوا يعدون العدة لولوج عتبة مرحلة جديدة عنوانها استمرار الاعتصامات والمواجهات مع حكومة المالكي، توطئة للكشف عن الشعار الاخير الذي سترفعه هذه المرة بكل صراحة، وهو شعار الدعوة الى «الاقليم المستقل» اي خيار «الاقليم» في المادة 19 من الدستور العراقي والتي تبرز حق محافظتين او اكثر في تكوين اقليم مستقل، بناء على طلب الاستفتاء عليه، وهو ما يتيح عملياً لابناء هذا الاقليم ادارة شؤونهم بأنفسهم بمنأى عن حكومة المركز.
هذا التوجه الذي ما زال في طور التكوين النهائي والافصاح عن نفسه دفعة واحدة، مهد المعتصمون له من خلال تطور لافت تمثل في تحديد الناطق بلسان ساحات الانقسام محمد طه حمدون قبل فترة وضع اربعة خيارات لوضع حد للازمة وانهاء الاعتصام وهي:
– استبدال المالكي بمرشح اخر يقترحه التحالف الوطني العراقي.
– تقسيم العراق.
– المواجهة العسكرية.
– انشاء اقليم.

انشاء الاقليم
ولان الخيار الاول طرح ولم يلق تجاوباً من المعنيين المتمسكين بالمالكي والرافضين لاي شروط تعرض عليهم، خصوصاً من المعتصمين، ولان الخيارين الثاني والثالث يبدوان مستحيلين في ظل موازين القوى الحالية التي تميل الى مصلحة حكومة المالكي، فإن الجلي ان المقصود من الاساس هو الخيار الاخير اي انشاء الاقليم.
في الايام القليلة الماضية، سرت معلومات فحواها ان قيادات ومراجع سياسية ودينية وعشائرية لسُنّة العراق ستعقد مؤتمراً عاماً في عاصمة اقليم كردستان، اربيل في نهاية شهر ايار (مايو) الحالي، بغية تحديد الخيارات النهائية للتحرك والاعتصام الجاري ورسم خريطة طريق للمرحلة المقبلة.
البعض يتوقف عند مسألة اختيار اقليم كردستان مكاناً لعقد هذا المؤتمر وهو الداعم لاي توجه فيدرالي، وعند ابعاد اللقاء وتوقيته وما سبقه من مقدمات ليستنتج بأن انصار شعار «الاقليم» المستقل هم الذين سيتجرأون على طرح شعارهم هذا علانية والشروع في ترويجه وتسويقه كخيار اخير، خصوصاً ان هذا الامر ان تحقق وتم تبنيه بشكل موسع في هذه المرحلة يعتبر بيئة حاضنة وارضية خصبة على المستويين الداخلي والاقليمي.
الطريق الى صيرورة مثل هذه الدعوة امر قابل للحياة، وليس بالامر اليسير السير به  فدونه عقبات وعراقيل موضوعية وذاتية عدة، لكن الثابت ان الخطر في ان تصير مثل هذه الدعوة شعاراً تتبناه غالبية سُنّة العراق، سيزيد مأزق الساحة العراقية.

ابرهيم بيرم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق