صحة

التليف الكيسي… إنه الإختناق التدريجي!

عيش كتير بتسمع كتير! مثلٌ قديم. والأمثلة، كلما اختبرنا الحياة أكثر، تصحّ أكثر! فها هو مرض التكيس الليفي يعترضُ سبيلنا معرفاً إيانا عليه… فما هو التليف الكيسي؟ من يصيب؟ وماذا يصيب؟ تسمعون بالإختناق التدريجي؟ سمعتم بأحدٍ وضع كفيه على عنقِ أحد وشدّ؟ التكيس الليفي يفعل فعل الإختناق! خذوا نفساً عميقاً وتعرفوا على مرضٍ غريبٍ عجيب!

في تعريف أول، التكيس الليفي هو مرض ينجم عن مخاط سميك يُشبه الغراء، لزج، يتراكم في الجسم ويسد الشعب الهوائية ويؤثر على الأعضاء الداخلية وخصوصاً على الرئتين والبنكرياس. هذا إذاً في التعريف. لكن ماذا عنه أبعد من التعريف؟ وهل هو، ما دام يخنق، نادر؟

وراثي صعب ومكلف جداً
رئيس الجمعية اللبنانية لطب الأطفال الدكتور عماد شكر يُصنف التليّف الكيسي كمرض وراثي جيني، يصيب أجهزة عدة في الجسم وسببه خلل تكويني في الغدد، كل الغدد، وعلى رأسها غدد البنكرياس وغدد الروايا والإمعاء والمصارين… هو، في اختصار، مرض صعب جداً وطويل ومكلف جداً جداً. ويحدثُ نتيجة طفرات في الجين الموجود على كروموسوم 7. وهناك لمن يهمه الأمر أكثر من 600 طفرة في هذا الجين.
من يُصيب هذا المرض؟
يص
يب، بحسب شكر، الأطفال، ويظهر غالباً في الأيام الأولى التي تلي الولادة، أو قد يتأخر اكتشافه قليلاً، لكن نادراً ما يصل هذا الى أبعد من أشهر لأنه، كما علمنا، يصيب كل الغدد والرئتين. والرئة، كما تعلمون، هي مضخة التنفس والأوكسيجين والحياة وعوارضها سريعة لذا تكون إشارات التليف الكيسي واضحة في الجسم وتظهر على شكل مشاكل حادة في التنفس والتهابات بكتيرية في الرئتين وسعال مزمن. ويؤدي تراكم المخاط الى تلف دائم في الرئة والى تشكل ندوب أو تليفات وخراجات فيها. في كل حال، إمكانيات تشخيص المرض قبل الولادة ولمن يهمه الأمر متاح عبر الفحص الوراثي.
  هل نفهم من هذا أن المرض لا يظهر عند البالغين؟
بلى، قد يتأخر ظهوره حتى مرحلة متقدمة لكن في حالات نادرة جداً جداً.
لنُسلم جدلاً أن إثنين، قريبين جداً، أحبا بعضهما وتزوجا وأنجبا طفلاً، فكيف يكتشفان أن مولودهما يعاني من التليف الكيسي منذ البداية، قبل استفحال المرض؟ يجيب شكر: يبدأ المرض غالباً على شكل التهاب الشعب الهوائية «برونشيت»، وهذه الحالة تتكرر، برونشيت وراء برونشيت في شكلٍ غير اعتيادي ما يُثير الشك فيقرر الطبيب إخضاع الطفل الى اختبار التليف الكيسي. وقد يُكرر الطبيب هذا بمجرد أن يعرف أن الوالدين من ذوي القربى وأن في العائلة حالة من هذا النوع.
  

تعطل وظائف الجسم
يتسبب المرض بمشاكل جمة في الجهاز الهضمي ناجمة عن تراكم المخاط اللزج، الدبق، على البنكرياس، والبنكرياس كما تعلمون هو الجهاز الذي ينتج الأنسولين، أي الهورمون الذي يساعد على التحكم بمستويات السكر في الدم، وهو الذي يساعد أيضاً، أو يفترض ان يساعد، على هضم الطعام. ويؤدي كل هذا الى حالات إمساك شديدة ويتسبب بسوء التغذية وضعف النمو وفقدان الوزن كما ان النقص في الأنسولين قد يتسبب بشكلٍ من أشكالِ مرض السكري يُعرف باسم داء السكري المتعلق بالتليف الكيسي.
تبدأ إذاً وظائف الجسم تتعطل واحدة تلو واحدة، وتصبح الحياة، حياة الطفل وأهله، جحيماً! والعمل، كل العمل، حالياً في اتجاه تحسين نوعية هذه الحياة وإطالة عمر المريض الذي بات قادراً، بحسب شكر، على أن يعيش الى أربعين عاماً بنوعية حياة أفضل بعد أن كان معدل عمر المريض سبع أو ثماني سنوات بنوعية حياة جد قاسية!

اصابات مجهولة
مهمٌ جداً اكتشاف هذا المرض، كما أمراض كثيرة، منذ بداياته. والطب قادر على أن يفعل حينها الكثير. الأملُ إذاً موجود لذا يفترض أن يعرف الناس، كل الناس، أن ثمة مرضاً ما زال يُعدّ الى الكثيرين مجهولاً! ثمة أطفال يولدون ويموتون مختنقين من دون أن يُشخص مرضهم! ثمة أطفال يُصارعون المرض الصعب ويغادرون الى دنيا الحق من دون أن يتلقوا أي علاج ولو تخفيفي يقيهم براثن هذا التليف الكيسي! التوعية إذاً ضرورية: يا ناس يا هو ثمة مرض خطير يعاني منه الأطفال، بعض الأطفال طبعاً، يبدأ برونشيت ويتطور فانتبهوا منه!
هناك، في أوروبا وأميركا الشمالية، نحو 13 ألف إصابة، ويرتفع هذا الرقم في أميركا اللاتينية وجنوبي إفريقيا والشرق المتوسط الى عشرين ألفاً. وهناك في كل العالم ما يعادل 70 ألف إصابة. والسؤال: ماذا عن لبنان؟ يجيب شكر: هناك مئة إصابة معلومة وكثير كثير من الإصابات التي لم يُعلن عنها وهي تتركز في بعلبك وضواحيها والبقاع وضواحيه وفي مناطق الجرد!

خطة مواجهة
بدأت دول العالم وبينها لبنان في وضع استراتيجية لمواجهة هذا المرض الوراثي الفتاك وتأمين العلاج الفعال الى كل من يحتاج إليه. وهذا ما تعمل من أجله الجمعية اللبنانية لطب الأطفال بالتنسيق مع وزارة الصحة والمؤسسات الضامنة، لأن العلاج، بحسب شكر، جد مكلف ويحتاج الى تضافر أكثر من كفٍ أبيض. في كل حال، ثمة علاجات حديثة هادفة، تُعطى عبر التنشق، تُثبت يوماً بعد يوم فعاليتها، كما يرتكز العلاج على اعتماد طرق تغذية تُعوض عن الخلل في الغدد. في كل حال، التوعية مطلوبة والعلاج هدف يمكن من خلاله: تحسين نوعية الحياة ووظائف الرئة والحد طبعاً من دخول المستشفى ومساعدة الجهاز الهضمي على امتصاص الفيتامينات والمواد المغذية وبالتالي النمو في شكل طبيعي.
هل لنا أن نُحدد من جديد الأعراض، كل الأعراض والعلامات، بوضوح؟
مؤشرات عدة تظهر أبرزها: مخاط سميك ولزج يتسبب بسعال مستمر يؤدي الى إخراج بلغم. صفير في الصدر. انقطاع في التنفس. تراجع في القدرة على القيام بالأعمال اليومية الروتينية. التهابات متكررة في الرئة. التهاب الممرات الأنفية وإنسدادها. ضعف في النمو. قصر القامة. صعوبات في الخصوبة. إنسداد معوي وعدم قدرة الإمعاء على امتصاص المواد المغذية في الطعام. ويكون البراز دهنيا ورائحته جد كريهة. وما دمنا نتحدث عن البراز نشير الى أن إحدى العلامات هي صعوبة الطفل من التغوط الأول بعيد ولادته مباشرة وظهور ملوحة شديدة في جلده. كما أن اليد، يد المريض، تكون منقبضة وأصابعه مستديرة.
 

  الوقاية لا تنفع
تريدون أن تعرفوا عنه أكثر؟
يعتبر الثامن من أيلول (سبتمبر) يوم التليف الكيسي العالمي. والطب لم يكتشف لسوء الحظ دواء من شأنه أن يشفي مرض التليف الكيسي كليا لكن العلاجات المتوافرة قادرة على أن تحسن جودة الحياة. ولا يكفي أن يتابع طبيب أطفال المصاب بل يحتاج هذا الى مجموعة إختصاصات بينها طبيب رئتين وطبيب جهاز هضمي وم
عالج نفسي وطبعا طبيب أطفال. والأمر الآخر الذي يُفترض أن نعرفه حول التليف الكيسي هو أن الوقاية معه، على عكس كثير من الأمراض، لا تنفع، فهو يكون أو لا يكون، لكن إذا حصل وكان فالوقاية اللاحقة تكون بمنع نشوء مشاكل صحية خطيرة مختلفة تتأتى عادة عن الإصابة.
 
طفلكم مصاب؟
ليس هذا سهلاً طبعاً لكن هذا لا يعني التعامل معه بأسلوب مختلف، بغنجٍ أكثر وبصرامة أقل، كما لا يعني عدم إخضاعه الى اللقاحات كلها التي يخضع لها الطفل السليم. عاملوا طفلكم بشكلٍ جد عادي، مثله مثل كل الآخرين، وثقوا أن الطب يتطور والعلاج الشافي حتى لو كان الآن، في هذه اللحظة، غير موجود بعد فإن الأبحاث مستمرة. ألم تسمعوا بمقولة: يموت الإنسان حين يفقد قدرته على التمني لا حين يفتقد القدرة على التنفس؟

نوال نصر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق