بغداد: رسالة ممهورة بالاحمر القاني الى العالم

لم يشأ خصوم رئيس الحكومة العراقية نوري المالكي وفي مقدمهم تنظيم «القاعدة»ان يمرروا الذكرى العاشرة للاحتلال الاميركي للعراق وسقوط نظام صدام حسين والتي تصادف في الثلث الاخير من شهر اذار (مارس)، من دون ان يؤكدوا لمن يعنيهم الامر وفي مقدمهم الممسكون بزمام القرار في بغداد، انهم ما برحوا حاضرين وما زالوا رقماً صعباً، وان بمقدورهم ان يتركوا بصماتهم الثقيلة الوطأة على الوضع العراقي، فشنوا سلسلة هجمات ارهابية في مناطق مكتظة من العاصمة، تركزت على تفجير السيارات المفخخة، فكانت الحصيلة اكثر من 200 قتيل وجريح في يوم واحد.
مشهد الدمار واشلاء الجثث والدماء التي تغطي اسفلت الشوارع والساحات، ليس جديداً على العراقيين وسواهم، فهو صار جزءاً من دورة حياتهم شبه اليومية ومادة من مواد السجال السياسي والصراعات على اختلاف تلاوينها، ولكن الاكيد ان الفاعلين والجناة، ارادوا ان يعطوا للذكرى معنى اخر، وان يرسلوا للعالم برمته رسالة ممهورة بالاحمر القاني، فحواها ان العراق لم يستقر بعد، وانه ما برح يراوح في خضم المأزق، رغم مضي اكثر من عقد من الزمن على انقلاب الاوضاع فيه رأساً على عقب، وسبعة اعوام على نهوض تركيبة حكم مختلفة تماماً.
واستطراداً، ان الساعين الى خلخلة اسس هذه التركيبة لم يقنطوا بعد، بل ما انفكوا حاضرين بقوة يفعلون فعلهم ساعة يرون ذلك مناسباً ومؤاتياً لمصالحهم ولحساباتهم السياسية.
وبطبيعة الحال، يدرك المراقبون عن كثب تطورات الوضع في الساحة العراقية، خصوصاً بعد نزول المعارضين الى الشوارع والساحات واستمرارهم في حراكهم منذ نحو ثلاثة اشهر، ان هذا الوضع لم يكن يحتاج الى هذا الكم من الدمار والقتل، ليعرفوا ان الازمة في الساحة العراقية منتصبة بعناد، تطل برأسها بقوة على اكثر من منحى وصعيد، وهي إن هدأت في جانب، يشتعل اوارها في جانب اخر.
مواجهات
خلال الاسبوع الماضي، هدأت على جبهة المالكي – اربيل، ليرتفع منسوب المواجهات على جبهة المالكي ومعارضيه السياسيين الرئيسيين وتحديداً «التيار الصدري» بزعامة مقتدى الصدر، والقائمة العراقية بزعامة اياد علاوي.
فالمعلوم ان الامور كانت قد تأزمت اخيراً بين المالكي وزعيم كردستان العراق مسعود البرزاني في اعقاب اقرار الموازنة العراقية العامة في البرلمان في غياب نواب الائتلاف الكردي، لرفضهم بعض بنود ومواد الموازنة ولا سيما تلك المتصلة بإقليم كردستان. وعلى الاثر شنّ البرزاني حملة اعتراض سياسية ضد حكومة المالكي والمالكي نفسه، وصلت الى حد التلويح تكراراً بانفصال الاقليم في خاتمة المطاف.
لكن وبعد ايام قليلة، عاد الهدوء الى خطاب البرزاني والائتلاف الكردي عموماً، واعرب الاكراد صراحة عن رغبتهم في التعاطي بشكل ايجابي مع بغداد لحل الازمة العالقة في شأن الموازنة العامة.
واكثر من ذلك، ذهب البرزاني في معرض اعادة ترطيب علاقته ببغداد الى حد التحذير علانية اطرافاً عراقية لم يسمها بالاسم، ولكنها معروفة، من التلويح باستخدام السلاح في الازمة الحالية.
وعلى رغم ان البرزاني شدد مجدداً على تمسك اقليم كردستان العراق بحقه في الدفاع عما يعتبره مكتسباته. فالمعلومات الواردة من بغداد تحدثت عن اتصالات مباشرة غير معلنة بين الطرفين الكردي من جهة، والمالكي من جهة اخرى.
ومهما يكن من امر، فالواضح ان حسابات الطرف الكردي ومصالحه المعقدة والدقيقة كعادته منذ ان انفجر الخلاف بشكل واسع وجلي بينه وبين المالكي قبل نحو سنة، ووصل الى حد غير مسبوق، تحول دون مضيه قدماً في سياسة القطيعة النهائية مع المالكي، اذ يحرص دوماً وبعد كل اندلاع مواجهات سياسية وغير سياسية مع المالكي على تهدئة الاوضاع واعادة الامور الى مجاريها بشكل تدريجي، انما بمعنى اخر ترجمة عملية لسياسة عدم جرف المركب والجسور التي اتبعها الطرف الكردي العراقي منذ الاحتلال الاميركي للعراق مع الحكومة القائمة في بغداد، على رغم ان هذا الطرف ذهب في مراحل عدة الى مسافات بعيدة مع جهات تناصب المالكي العداء، فهو على المستوى الخارجي نسج علاقة وثقى مع الحكام الحاليين في تركيا، وعلى المستوى الداخلي، شكلت عاصمة اقليم كردستان العراق – اربيل، حاضنة للحراك الثلاثي الاضلاع المعادي للمالكي والذي رفع في مرحلة من المراحل شعار الدعوة الى ترحيل المالكي طوعاً او قسراً، وان الامور لن تستقيم في العراق ما دام هذا الرجل في سدة الحكم.
خفض التوتر
وفي كل الاحوال، وسواء عادت الامور بعد حين الى طبيعتها بين المالكي والاكراد ام لم تعد، فإن خفض الطرف الكردي منسوب التوتر مع المالكي في هذه المرحلة بالذات، هو اجراء لمصلحة المالكي، اذ بإمكانه والحال هذه ان يواجه الساعين الى محاصرته سياسياً، ويقول لهم انه ما زال يحافظ على علاقته مع طرف اساسي في التركيبة العراقية وهو الطرف الكردي الذي له دور محوري اساسي، سواء داخل دائرة المعارضين للمالكي ام خارج هذه الدائرة.
ولعل من ابرز الوجوه المهمة للعلاقة الكردية مع المالكي، هي ان الطرف الكردي لا يبدو في وضع المتحمس لمغادرة الحكومة العراقية الحالية، وعليه فإن بقاء وزرائه في الحكومة يعني بشكل او بآخر، ضياع جهود خصوم المالكي الذين رفعوا اخيراً لواء الدعوة الى اسقاط حكومته.
فقبل فترة قصيرة، قرر وزراء التيار الصدري مقاطعة جلسات حكومة المالكي وذلك احتجاجاً على تأجيل الانتخابات المحلية في محافظتي نينوى والانبار، ولهذا التطور تداعياته وابعاده العديدة.
فهو يأتي بعد ايام على تهديد زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر بأنه عازم على الانسحاب نهائياً من حكومة المالكي.
والمعلوم ايضاً ان معظم وزراء القائمة العراقية قاطعوا جلسات الحكومة وهددوا بالانسحاب من الحكومة. واذا ما قرر هؤلاء جميعاً ومعهم الوزراء الاكراد، فضلاً عن ثلاث وزارات بلا وزراء منذ تأليف الحكومة العراقية الحالية (وزارات الداخلية والدفاع والامن الوطني)، فإن ذلك من شأنه فعلاً ان يؤمن استقالة نصف عدد وزراء حكومة المالكي، مما يجعلها في هذه الحالة ساقطة بموجب الدستور العراقي.
وهذا الامر اذا تحقق فمعناه ان المعارضين للمالكي، قد وصلوا الى مبتغاهم وهو اطاحة حكومته او هو شخصياً تمهيداً لحكومة جديدة، او توطئة لازاحة المالكي من الواجهة وتوجيه ضربة سياسية كبرى له وهو المتبوىء سدة اعلى منصب في العراق منذ نحو 9 اعوام.
ولكن ثمة وقائع ومعطيات تبدد امكان الاسقاط الدستوري لحكومة المالكي لاعتبارات عدة، منها ان التيار الصدري ورغم خصومته الشرسة مع المالكي، فإنه لحسابات واعتبارات عدة لا يذهب بالعلاقة معه الى حد مقاطعته نهائياً او العمل على اقالته واسقاطه بغية اسقاط معادلة قائمة حالية وقيام معادلة اخرى، لدرجة ان الاطراف الاخرى في المعارضة الحالية باتت تعرف حقيقة هذه المعادلة وتدرك ان ليس بمقدور الصدر ان يتحمل مسؤولية تأمين تغطية شيعية لاسقاط المالكي نهائياً، على رغم ان الصدر اعتاد ايصال الامور مع المالكي الى حافة الهاوية، ثم التراجع الى الوراء. وهذا النهج اتبعه منذ ان قرر فجأة في اوائل الصيف الماضي الانضمام الى لقاء اربيل المعارض والذي صار لقاءً ثلاثياً لمشاركته فيه بعدما كان مقتصراً على القائمة العراقية وعلى التحالف الكردستاني.
عطاء
في ذلك الحين، امّن حضور الصدر للتحالف المعارض للمالكي غطاء كان يفتقده وهو الغطاء الشيعي، لكن هذا الحضور لم يكتمل وذلك عندما تراجع نواب التيار الصدري عن التوقيع على عريضة سحب الثقة من المالكي.
وفي غضون ذلك، حافظ المعارضون للمالكي والذين نزلوا الى الشارع للتعبير عن معارضتهم هذه، على وتيرة حراكهم واستمروا في تسيير التظاهرات وتنظيم الاعتصامات في الانبار والموصل وديالى وصلاح الدين وجنوب كركوك.
ولم يكن هذا الامر هو النقطة الوحيدة التي تسجل لمصلحة المتظاهرين المعارضين للمالكي، بل ان هؤلاء نجحوا في امور ثلاثة اساسية:
الاول: انهم استطاعوا محاصرة حراك زعماء العشائر والشخصيات التي سعت خلال الفترة الماضية الى القيام بمساعي الوساطة بين المتظاهرين وحكومة المالكي، اذ ان هؤلاء الزعماء بقي تحركهم في بداياته الاولى ولا سيما ان قيادات اساسية في المعارضة اعلنت انها لا تمحضها التأييد وانها لا تنطق بلسانها.
الثاني: ان الامم المتحدة عبر بعثتها في بغداد، دعت الحكومة العراقية الى تلبية مطالب المتظاهرين في اسرع وقت ممكن، مؤكدة انهم يشعرون بـ «عدم الامان والتهميش»، محذرة من انها لن تبقى على الحياد في حال انتهاك حقوق الانسان.
الثالث: ان وزير الخارجية الاميركي جون كيري الذي زار بغداد في نهاية الاسبوع الماضي في اطار الجهود الاميركية لتطويق النظام في سوريا في الدول المجاورة، اكد على ضرورة حل الازمة العراقية الحالية في اسرع وقت والوقوف على رأي المتظاهرين ومطالبهم.
شعارات التظاهرات
اضافة الى ذلك كله، فإن المتظاهرين رفعوا شعاراً جديداً لا شك في انه مثير لاهتمام العراقيين وهو عجز الحكومة عن السيطرة على الوضع الذي يشهد كل يوم انتكاسة كبيرة، معتبرين ان تفرد رئيس الوزراء باتخاذ القرارات ادى الى وقوع فوضى عارمة نجمت عنها اراقة دماء الابرياء.
وفي مقابل ذلك، فإن ثمة عاملاً اخر برز لمصلحة المالكي، ومفاده ان نائب رئيس الوزراء العراقي واحدى قيادات القائمة العراقية صالح المطلك رفض السعي الى اقالة الحكومة الحالية وانه يستعد وكتلة «الحل» (احد مكونات القائمة العراقية) بزعامة جمال الكربولي للعودة الى الحكومة، ما ادى الى ظهور انقسام حاد بين قادة الكتلة العراقية التي ينتميان اليها.
ابرهيم بيرم