تحقيق

هيرودوس يشعل «حرب الآثار» بين الفلسطينيين والاسرائيليين

هو هيرودس «ملك اليهود»، قاتل اطفال بيت لحم الشهير، يعود شبحه مجدداً ليشعل حرباً جديدة  بين الفلسطينيين والإسرائيليين، انها حرب من نوع آخر تتناثر شظاياها من حول قبره المكتشف حديثاً، وعنوانها هذه المرة «الآثار» بخلفيات سياسية.

تعود القصة الى العام 2007 حين قاد سلم قديم استخدم في جنازة ملكية، أثرياً اسرائيلياً إلى حل لغز عمره ألفا عام وهو موقع مقبرة هيرودس الاكبر الذي أطلق عليه الرومان لقب «ملك اليهود»، حيث أعلن البروفسور يهود نيتزر، من معهد علم الآثار في الجامعة العبرية بالقدس، أن «البحث المديد عن قبر هيرودس الكبير انتهى الى الكشف عن آثار قبره على المنحدر الشمالي – الشرقي من جبل هيروديوم».

مخاوف وتشكيك
اكتشاف قبر هيرودس اشعل يومذاك جدلاً بين الفلسطينيين والإسرائيليين ، اذ كان من شأنه وضع حد للمزاعم الاسرائيلية – الفلسطينية المتعارضة بشأن المنطقة الواقعة بين بيت لحم وصحراء يهودا، فرأى زعماء المستوطنين الاسرائيليين ان اكتشاف قبر الملك اليهودي يدعم مزاعمهم في المنطقة، بينما عبر الفلسطينيون عن مخاوفهم من أنه يمكن أن يستخدم كذريعة لزيادة بناء المستوطنات اليهودية جنوب القدس، واعربوا عن تشكيكهم في التابوت الحجري لخلوه من الكتابات والنقوش.

«معرض هيرودس العظيم»
جدال وصراع تجددا مؤخراً مع اطلاق «متحف إسرائيل» في القدس «معرض هيرودس العظيم» المكرس للارث المعماري لحقبة حكم هيرودس، وهو يضم معروضات من تلك الحقبة وبينها تابوت ملك اليهود هيرودس، الامر الذي اثار استياء بعض العلماء الذين رأوا فيه «إرادة إسرائيلية في استغلال علم الآثار لغايات سياسية». وهكذا ومع هذا المعرض اشتعلت «حرب الآثار» بين الطرفين.
فنادراً ما كانت حجارة الآثار تشكل مدخلاً إلى جدالات متعددة تصب فيها توترات منطقة بأكملها كما هو الحال بين الإسرائيليين والفلسطينيين هذه الايام، منذ دعا «متحف إسرائيل» في القدس إلى زيارة معرض هيرودس الذي امتد حكمه من سنة 37 إلى 4 ما قبل الميلاد على أراضي يقع اليوم جزء منها في أراضي الدولة العبرية وآخر في الأراضي الفلسطينية بالضفة الغربية.

ألغام جغرافية – سياسية
يتضمن المعرض «ألغاماً» جغرافية – سياسية عدة. والجدل الأول انطلق حول تضارب الرؤى بشأن موقع تابوت هيرودس، منذ عثر الاثري الإسرائيلي على هذا الكنز الأثري في مدينة رومانية قديمة كانت تدعى «هيرودسيون»، وتبعد هذه المدينة بضعة كيلومترات فقط عن بيت لحم جنوب القدس في «منطقة س» التي يطالب بها الفلسطينيون وفق اتفاقيات أوسلو. لكن «الاتفاقيات المؤقتة» التي وقعت في عام 1990 تضع هذا الموقع الأثري تحت تصرف الإدارة الإسرائيلية.
وترفع قاعدة عسكرية إسرائيلية قريبة من الموقع حدة التوتر، ويشرح غلاغير فينويك مراسل فرانس 24 في إسرائيل: إن الإسرائيليين «ينهبون كل ما يريدون دون طلب ترخيص من أي كان». وإن كانت أبواب الحفريات متاحة في موقع هيرودسيون أمام الباحثين الإسرائيليين فإن السلطات الفلسطينية تؤكد أن نقل الآثار الى خارج الموقع، وفي أغلب الأحيان بغاية عرضها في إسرائيل، يجب أن يخضع الى مفاوضات. وتنوي السلطات الفلسطينية رفع شكوى قضائية أمام منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة – اليونسكو – التي صارت فلسطين عضواً فيها منذ 2011.
ويؤكد دافيد ميفورا مدير المعرض في «متحف إسرائيل» أن هذه الكنوز الأثرية استعيرت وأنها «ستعاد كلها إلى مالكها بعد انتهاء المعرض». ورداً على سؤال عما اذا  كانت ستعاد للفلسطينيين أجاب ميفورا «لا. الآثار ليست في الوقت الحالي ملكاً لا للفلسطينيين ولا لأي أحد آخر. ما أردت قوله هو أنها لن تبقى في المتحف».

قنبلة موقوتة
ومع أن هوية المالك لا تزال غامضة، فإن مسألة استغلال الآثار في المستقبل لم تعد لغزاً. فالسياحة المرتبطة بالتراث الأثري للشرق الأوسط المتقلب التاريخ، من أهم مصادر الدخل في إسرائيل. ومدينة هيرودسيون الرومانية القديمة أدرجت ضمن مخطط 2010 الذي أعدته الحكومة الإسرائيلية ضمن برنامج «مشروع مواقع التراث الوطني».
ويحمل مشروع حماية المواقع الأثرية الممتد على خمس سنوات في طياته قنبلة موقوتة. حيث تندد جمعية «إيماك شافييه» الإسرائيلية والتي تضم علماء آثار وناشطين سياسيين بدوافع الحكومة الإسرائيلية فتتهمها بالرغبة في «إعطاء دفع جديد للصهيونية» وذلك «لمواجهة التراجع الإيديولوجي والثقافي وأزمة الهوية في صفوف الشباب والجمهور بصفة عامة، والتي تهدد الوحدة الوطنية ووجود إسرائيل».
وتنتقد الجمعية بشدة هذا الاتجاه نحو توظيف الآثار لخدمة أهداف سياسية، وتحذر من خطر طمس ثراء المواقع الأثرية لصالح نظرة تعمل على «تهويد» التاريخ.
أما الفلسطينيون فيستخلصون انعكاس هذا الوضع عليهم، اذ ندد حمدة طه نائب الوزير الفلسطيني للسياحة والآثار باستغلال تابوت هيرودس «لإيجاد مبررات سياسية وتاريخية لتوسيع سياسة الاستيطان الإسرائيلية في فلسطين».

ملك اليهود المكروه
يحتل هيرودس مكانة خاصة في التاريخ الديني، فهو أعاد بناء الهيكل في القدس. ويقول انجيل متى إنه أمر بـ «مذبحة الابرياء» وهي قتل كل الاطفال الذكور في بيت لحم حيث ولد السيد المسيح خوفاً من أن يفقد عرشه «لملك يهودي» جديد. وعرف عن هيرودس، الذي حكم يهودا من عام 37 قبل الميلاد الى 4 قبل الميلاد، بمشاريع اقامة النصب، وبناء قلعة ماسادا والمعابد والقصور في قيصرية. وفي هيروديوم شيد مجمعاً كان قصراً ومعبداً ومركزاً ادارياً وقبراً. ووفق ايهود نيتزر ان هيروديوم تعتبر بين مشاريع هيرودس العمرانية لأنها «الموقع الوحيد الذي يحمل اسمه وهو المكان الذي اختار ان يدفن فيه ويجري تذكره». ووفقاً لما ورد في انجيل متى، فإن يوسف ومريم والطفل يسوع هربوا الى مصر للنجاة من مذبحة هيرودس للأبرياء. وقد توفي هيرودس لاحقاً في أريحا وكان عمره 70 عاماً. وكتب المصدر التاريخي الرئيسي لذلك الزمن، جوزيفوس فلافيوس، ان جسد هيرودس أخذ في موكب ملكي لدفنه في هيروديوم. وقال نيتزر انه بعد حوالي سبعين سنة وخلال التمرد اليهودي ضد الرومان دمر المتمردون قبر الملك الذي كان يمقته كثيرون من السكان.
وقال نيتزر: «كان هذا عملاً من أعمال النهب، كان عملاً انتقامياً. كان التابوت الحجري قد تعرض للضرب بمطرقة. وهذا يعكس الغضب تجاه هيرودس بعد موته».

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق