الياس لحود… قصيدته لا تشبه أية قصيدة أخرى
بمناسبة صدور الاعمال الشعرية للشاعر الياس لحود، في اربعة مجلدات، في تجليد فني فاخر، عن «دار الفارابي» في بيروت، عقدت ندوة في اطار «المهرجان اللبناني للكتاب» حول هذه الاعمال، شارك فيها عدد من الادباء والشعراء والنقاد. باكراً كتب الياس لحود الشعر، كتب القصيدة المعاصرة الجديدة، البعيدة عن التقليد، وعن السائد. قصيدته لا تشبه اية قصيدة اخرى، سواء في الشكل او في الجوهر. انه يدرك تمام الادراك، ان عصره غير العصور الغابرة، وان انسان اليوم انتقل نحو آفاق مختلفة، تاركاً وراءه الملاحم والمعلقات والمطولات الشعرية، التي لم تعد تتلاءم مع العصر الجديد المثقل بالتكنولوجيا والغرائب من كل نوع ولون… اكتشف الياس لحود، مع غيره من شعراء العصر، أكان في لبنان او في دنيا اللّه الواسعة، ان القصيدة الحاملة سمات العصر، بعيداً عن تحجر الماضي وقيوده، وبعيداً عن خزعبلات الحاضر، هي التي ستعيد انسان اليوم الى قراءة الشعر. كتب لحود الكثير الكثير من القصائد، والكثير من الدواوين، كتب معاناته ومعاناة الآخرين. وكما كتب القصيدة الفصحى المتطورة، كذلك كتب القصيدة العامية التي تخطى من خلالها العديد من شعرائها. وهو ما زال يكتب ويكتب ويكتب…
قدّمت الندوة وأدارتها الدكتورة نايلة ابي نادر، معتبرة ان تكتب الشعر في زمن لم تعد فيه الكلمة اكثر من صفّ أحرف تملأ الصفحات لغواً، هذا يعني انك تريد التحدّي لتفصح عن جديد يخالف ما هو سائد. ان تكرّس عمرك وطاقاتك الدفينة لكي تنتج مجلة محترفة تزهو بمضامين متألقة، في ايام تقلصت فيها نسبة الانشغال بالكتابة كما القراءة، هذا يعني انك اصبت بمس من الشغف غير مكترث بالنتائج مهما كانت مخيبة. ان تختار الشعر مساراً في البحث عن الحقيقة وتوخّي المعنى الكامن فيها، هذا يعني انك انضممت الى قافلة من المبدعين الذين روّوا الفكر «بماء قصائدهم»، وطبعوا الذاكرة بعطرهم. فالشعر على حدّ تعريف ارسطو «اكثر فلسفة وأعلى قيمة من التاريخ».
القلق الوجودي والثورة
وتشير نايلة ابي نادر الى ما قيل في السابق: «يمس الشعر العدم، فتسري فيه الحياة»، فكيف ان مسّ الشعر الياس لحود، هذا الرجل الممتلىء حكمة وشغفاً وابداعاً؟ ما عساه يكون هذا الشعر المتدفق من مسام لوّحتها شمس القصيدة، ولوّنت سحنتها بسحر القول المبين؟ من عساه يكون هذا الشاعر المسكون برغبة البوح بما يدهش ويأسر القلوب كما العقول بعيداً عن الرتابة والملل والهباء؟ مسكون هو بهاجس الانسان، القلق الوجودي عنوان تحركه، والثورة المتأججة في خفاياه وقود يحرك قلمه باتجاه التغيير. لا يرسم طريق القصيدة مسبقاً، يتركها تنساب أمامه ليتعرّف عليها في ما بعد.
تجربة شعرية
الدكتور ديزيره سقال تحدث عن التجربة الشعرية في كتابات الياس لحود، مشيراً الى انه لا يمكننا ان ندرس تجربته هذه دراسة صحيحة ما لم ننظر في اعادة تشكل ذاته الشعرية، ومن خلالها لغته، في كل مجموعة من مجموعاته. ان اللغة الشعرية التي ابتدأ بها في ديوانه الاول «على دروب الخريف»، تغيّرت بوضوح في ديوانه الثاني «والسدّ بنيناه»، ثم تغيّرت مجدداً في «فكاهيات بلباس الميدان»، وهكذا… والفكاهة التي تقع عليها في «الفكاهيات» تبدو مختلفة عن تلك التي تجدها في المجموعات اللاحقة… ولكن، يمكننا اعتبار ديوان «الفكاهيات» محطة التحوّل الاساسية الاولى في شعر هذا الشاعر.
باب الصدمة المشرّع
يرى ديزيره سقال، ان الياس لحود يشرّع لنا باب الصدمة حين نقرأ شعره. ونقصد بالصدمة صبّ هذا التغيّر، مرة واحدة، امام قارىء نصّه. فهو يفاجئك، وينزل اليك حيث لا تتوقّعه، ويبني جملته لتقودك الى غير ما تتصوّر انها يمكن ان تقودك اليه، تأتيه من الشرق، فتجده في الغرب، وتأتيه من الغرب فتجده في الشرق، وتحاول ان تحاصره بين الشرق والغرب فاذا هو في مكان آخر…
لهذا السبب – يقول ديزيره سقال -ان عنصر المفاجأة واللامتوقع هو الذي يسيّر نصّ هذا الشاعر، والخط الذي يسير فيه ليس خطاً مستقيماً، بل متعرّج، واللغة التي يُبنى عليها غير مألوفة، لأنها متشظية، بمعنى انها تستخرج من الذاكرة النقاط التي لا تتصوّر انها يمكن ان تستخرجها، وتستحضر من الغائب فيها ما لا تتوقع منها ان تستخرج.
صرخة الشاعر
الدكتور سامي ادهم يرى، انه عندما صرخ شاعرنا الكبير الياس لحود: يا مدن الموز وماء الزهر وأجراس الليمون، كان ينادي الوجود الصامت، ينادي الارض والمدن وماء الحياة واجراس المعابد المعلقة في اعالي الجبال الشامخة وفي اعماق الوديان، انها انطولوجية الارض المنسية. انطولوجية الحضور وليس الحاضر. الحضور المرئي في الوطن واللامرئي في المهجر.
الى ان يقول: ينادي الشاعر الكبير مدنه الفاضلة، يؤسس لمدن عظيمة، يؤسس لأثينا جديدة مع فارق بالزمن. يؤسس لمدن رومانية بهياكل بعلبكية. يغذي مدينته الفاضلة بدمه. يستشهد في سبيلها، يقاتل لبنائها، يتحدى الصعاب، لكنه يظل بسيطاً مرحاً ينشر الفرح بالرقص والموسيقى وخمرة الجمال. يعشق الارض ونبات الارض.
الشاعر بالمحكية
الدكتور جورج طراد تحدث عن المحكية في شعر الياس لحود، معتبراً، مَن اعتاد قراءة الياس لحود شاعراً بالفصحى قد يستسهل فكرة قراءته شاعراً بالمحكية، لكنه سرعان ما يكتشف ان هذه النقلة تحتاج مهارة خاصة ودربة متأنية لان ثمة ادوات لا بدّ من امتلاكها لدخول عالم الياس لحود المبني بمحكية خاصة ومشغولة، وان بدت عفوية الانسياب.
ويرى، ان علينا الاعتراف بان الياس لحود شاعر صعب والصعوبة بمعناها الفني لا تعترف بالحواجز بين لغة ولغة، ومصدر هذه الصعوبة يكمن، على ما اعتقد، في حرص الياس لحود على اشتغال تفاصيل نصّه، رؤية ولغة وبناء وايقاعاً، داخلياً وخارجياً، على حدّ سواء. والساعي الى امتلاكه انما يعود لاحقاً ويكتشف انه مارس رياضة القبض على الهواء، ليس إلا، اللهمّ إلا اذا اكتفى قارئه بالأجواء التي يمكن ان يشيعها النص اللحودي، فصيحاً ومحكياً، في نفسه، لانه يوحي اكثر بكثير ممّا يقول، ويحرّض اضعاف اضعاف ما يمكن ان يبدو عليه نصّه البريء.
جسر من التعب
يعتبر جورج طراد، ان شاعراً بوزن الياس لحود وبموهبته، عرف كيف ينسينا ما يمكن ان تعاني منه المحكيات من ثغر، لانه قادر على الارتفاع باللغة وحملها فوق الشوائب والمنزلقات. هو الذي يقول الرؤيا الفسيحة بعبارات ضيقة ومقتصدة، لانه يعرف كيف يخلّص شعره من الشرح والسرد…
ويخلص الى القول، باختصار، يتبدّى لنا الياس لحود في محكيته شاعراً لا يندفع وراء السجيّة المجانية، مع ان ذاكرة المحكية قد تغري بذلك، انما هو يشتغل نصّه فتكتنز دلالاته وتتتالى، وكأن القارىء مأخوذ الى حيث الابداع هو رديف للتعب. والياس لحود، على خطى ابي تمّام، يعرف جيّداً ان لا متعة تنال الا على جسر من التعب!
من الرومانسية الى الالتزام
اما الدكتور نبيل ايوب فاعتبر: شاعر متفرد هو، نقش قصائده ايقونات ببصمة جعلتها لا تشبه سوى ذاته. هو من بلدة في جنوب الجنوب، اطلقته شاعراً رومانسياً شغوفاً سرعان ما حوّله تفاعله مع احداث الوطن الى شاعر ملتزم…
بعد ذلك كله، ألقى الشاعر الياس لحود، مجموعة من قصائده الحاملة في ابياتها المعاناة والدهشة.
اسكندر داغر