تشكيل

جميل ملاعب يكتب ابجدية الحياة بريشته

ما هذا الذي نراه في لوحات جميل ملاعب المتجددة التي شكلت معرضه «ابجدية الواقع» في غاليري جنين ربيز – الروشة بيروت؟ ما هذه الرموز والاشكال التي يطالعنا بها؟ اتراها الزوايا العالقة في ذهنه، في عينه وفي يده التي تهرب منها فواصل الحروف والالوان، ام انها اوقات اللحن الآتية اليه من هدير الموج او سقوط المطر في اول الشتاء او حفيف اوراق الحور المتساقطة؟ لا بد انها مزيج من كل تلك الجمالات. انها بالفعل تشبه مدونات لذكريات حياته بكل غناها، وهو الذي  يشبه نفسه بالرحالة الذي  ينقل الى لوحاته  كل ما في الحياة التي لم تزل تذهله بتجددها الدائم والذي يشعر حيالها بانه مهما جدد في فنه سيظل عاجزاً عن مجاراتها… انها الحياة في لوحاته، الحياة  التي تمثل بالنسبة اليه مشهداً سينمائياً لمكان ومادة ووقت…

اذا كنا شددنا على ان لوحاته التجريدية الحديثة هي نتاج ذاكرته فلأننا نعرف ان الفنان يؤمن بنظرية افلاطون في الفن بمعنى ان «لا معرفة  في الفن» لان زمن المعرفة صار بعيداً، هناك شيء اكبر هو الذاكرة. والتذكر اكبر من المعرفة نفسها لان التذكر هو الذي يقود الاحساس والماضي التراثي لكنه هو الكون كله والتجلي كله وهذا الامر ينطبق على الحياة والتقنيات والروح الفنية عبر ذاتها.
وبالرغم من ان معرضه حمل كل التجديد، التجديد الذي يدع المتلقي مفتوناً لفترة غير قصيرة، الا انه  ليس تجديداً يتجاوز المستقبل الا بقدر واقعيته الحاضرة وتفاصيله المباشرة، على حد قول جميل ملاعب الذي يؤكد ان عمله الحالي لا يشبه سابقه الا كما يشبه اليوم البارحة.

رد فعل على الطبيعة
وبالفعل فان المتابع يلاحظ ان المعادلة التشكيلية عند الفنان لا تنفصل عن التجربة الماضية ولا تتجاوز الواقع اكثر مما ينبغي، اما فعل الرسم ذاته عنده فليس الا رد فعل على الطبيعة…
الطبيعة لا تتوقف ولا تنتظر بل تتحرك وتجيب، وفي تحركها  معنى الوجود. الطبيعة تجيب في تحركها عبر استيقاظها المتواصل، عبر احتفالها الاكيد بولادة جديدة بيوم جديد لا يشبه غيره بزمن لا يكرر ذاته.
ومن خلال عملية الرسم يجيب الفنان على اليقظة الكونية التي يراها مجسدة بالطبيعة، فيجيب بيقظة بشرية مكثفة يجسدها مخزون مليء بالرموز والابعاد التي يحييها بارتعاشة الالوان والخطوط والمساحات التي يكونها بدوره على صفحات بيضاء لتشابه كوناً لا يمكن ان نقيس ابعاده الا بالاحلام والاشعار فتاتي النتيجة تشبه مدى، تحاول ان تطاوله بالاحساس، بالرموز بالكلمات بالخطوط المستقيمة.

سر الخلق
«اني احاول ان اتعلم من الطبيعة – يعترف الفنان – ومن جديد سر الخلق سر الابداع كأن العمل الفني طبيعة او كون لا تتكرر نقاطه وزواياه. العمل الفني لا يعيد نفسه انه طبيعة بشرية تحاول ان تجد طريقها في تكوين الشكل واللون والخطوط».
الا ان جميل ملاعب يقف متحيراً متسائلاً لانه حين يبحث عن الجديد في القديم، عن الصورة التي لا صورة بعدها،  لا يعرف ماذا يفعل بالفراغ  وكيف يعبر بالرسم عن اوقات ممتدة كالبحر والغيمة المهاجرة والطائر امام الافق لذا يحاول ان يتعلم من الطبيعة شكل ولون وحركة عمله كي يصير واقعاً آخر، وتصير حياته زمناً ليس له زمن، وانتظاراً ما بعده انتظار.
اننا حين نتأمل لوحاته نرى انها خارج المكان والزمان، تولد انطباعاً بالأزمنة والكونية اذ انه باسلوبه التجريدي يطلق العنان لتصوراته للمساحات التي  تأخذ المتلقي في رحلة تأملية لاكتشاف اسرارها والتعرف اليها بصرياً ونفسياً فيغوص فيها ومعها في فلسفة وجودية لا نهاية لها.
وتميز لوحاته خصوصية  وفرادة والسبب انه يرى بعين غير عادية لان عينه تسمع وتأكل وتشرب وتشم الاشياء وتقرأ تفاصيلها وتختبرها وتتخيلها وتنسجها مع احلام وصور مطبوعة سابقاً او مغروسة حديثاً في اعماق بصيرته، ويقول: «اني اشاهد الطبيعة بعين من يقف عاجزاً عن التقاط كل تفاصيل جمالها» لذلك يشرح «انه لا يرسم الطبيعة بل يحاول ان يختصرها، ان يكوّن طبيعة تلائمه، طبيعة تكون على قدر حلمه وجسده، طبيعة تستطيع يده ان تطاولها، ان تجسدها وان تبعثها في مادة طبيعية بحد ذاتها».
هذا وتكتسب لوحاته التي يفضلها كبيرة الحجم، شاعرية مؤثرة من خلال تلوينات مدروسة بنسب متفاوتة، ونلاحظ جرأته في اسلوب وضع اللون في مزاجية عالية  وفي اضفاء
حركة على المساحة اللونية يكسر بها صفاء اللون.

لوحة وجودية
مما لا شك فيه ان جميل ملاعب يشكل لوحته جيداً، من هنا ترى انها ذات قوة تركيبية هندسية صعبة يحاول فيها ان يوحد بين اللون والشكل والخط، بمعنى انه يحاول ان يبني كتلة متكاملة من احجام والوان وخطوط  ولا يتكل على المصادفة، فيتبع تفاصيل الحدود الى اخرها، ويترك هوامش للعفوية والسرعة والتلقائية، المتلقي يشعر بحلمه بلوحة بطريقة جديدة يخطط لها، يلتجىء اليها، فيخرج بلوحة بسيطة لكنها وجودية، تحمل كل تجاربه وخبرته مع تحولات الالوان والمواد. وعن علاقته بالمواد يقول: «اعترف ان للمواد فاعلية عظيمة في تشكيل اللوحة. فهي مادة اولاً ومن ثم معرفة باستعمالها وبامكانية فهم ابعادها وما يمكن ان ندفعه من خلالها لاعطائها بعداً جمالياً». ويأتي ذلك من خلال فهم تركيب هذه المواد وصناعتها وحسن اختيارها والطريقة التي يجب ان نستعملها وصولاً الى معرفة زمنها والاحساس بكيميائية مزجها وتعرضها للطبيعة والنور والماء والهواء وأهم من كل ذلك اعطاء المادة احتراماً زمنياً بمعنى احترام طبيعة المواد، فاذا كنا نستخدم مادة مثل الغواش فلا تحتمل الانتظار ومن هنا فان الرسام لا يمكن ان يستعملها الا بالسرعة المناسبة حسب حرارة الجو ونوع الورقة وكمية الماء وكثافة اللون ونوعيته ومعدل اضافة المواد الاخرى اليه.
وهو يصف لوحته بانها مرآة حاضره وبصمات حريته، وهي بوابة خاطره وسجله المباشر الذي فيه يمكن ان يضيف شيئاً ما او يلغي شيئاً آخر او يواصل مذهباً ما في تاريخ الرسم.
ويضيف جميل ملاعب: «اللون وسيلتي والخط حروفي والمرأة والرجل والطفل والطبيعة والطير والنبات والحيوان والبحر جنودي واصدقائي»

كوثر حنبوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق