الأب سليم دكاش: العمل من أجل لبنان الرسالة فيه نفحات الربيع
منذ اكثر من قرن، تواجه بلدان الشرق الاوسط وشعوبها الأزمة تلو الأخرى… أزمات كبيرة وصغيرة، سياسية وغير سياسية، داخلية وخارجية، ومن كل نوع ولون… ومن الأزمات الخطيرة التي تواجهها المنطقة حالياً، تكمن في الأوضاع الأشد حراجة التي يواجهها مسيحيّو الشرق العربي، في التاريخ الحديث والمعاصر، منذ اقفال ملف «المسألة الشرقية» مع انهيار الامبراطورية العثمانية وبداية زمن الانتداب. انطلاقاً من هنا، نظم «مركز الشرق المسيحي للبحوث والمنشورات» التابع لكلية العلوم الدينية في جامعة القديس يوسف في بيروت، مؤتمراً دولياً، برعاية الرئيس ميشال سليمان، ممثلاً بوزير التربية والتعليم العالي الدكتور حسان دياب، تحت عنوان «خطاب الجماعات المسيحية في الشرق الادنى في زمن الأزمات» على مدى ثلاثة ايام. وهنا، بعض الآراء التي قيلت في هذا المؤتمر.
من خلال نظرة تاريخية، نعرف انه في أعقاب تأسيس الدول الوطنية في الشرق الاوسط في ظل الانتداب، وصوغ دساتير لها، مستلهمة في الكثير من موادها الدساتير الاوروبية، دخل المسيحيون الحقل السياسي والوطني بفاعلية الى جانب قوى اسلامية محلية اعتنقت الليبرالية، غير ان تلك التجربة انتهت الى فشل ذريع!
وفي الواقع، اضطلعت بدور سياسي رائد في تلك البلدان، طبقة سياسية ميسورة، تمثلت بحزب الوفد والحزب الوطني في مصر، وحزب العهد والحزب الوطني وحزب النهضة وزعماء قبائل في العراق، وحزب العهد والكتلة الوطنية وكبار التجّار في سوريا. ولكن هذه الطبقة الليبرالية افتقدت برنامجاً سياسياً ووطنياً يكسبها صدقية ويعزز المواطنية والديمقراطية.
أصل القلق الراهن
في ظل الاوضاع التي سادت، لم يوفر للمسيحيين المساواة والأمن والاستقرار تماماً، على الاقل في العراق ومصر. ففي مصر، بقي الاقباط يشعرون انهم مواطنون من درجة ثانية… وفي العراق، عرف المسيحيون حركات هجرة كبيرة منذ الحرب العراقية – الايرانية، الى اليوم، فكانت النتيجة مغادرة ما لا يقل عن نصف مليون مسيحي في ظل تقصير فاضح للقوى الامنية والمراجع الحكومية والقضائية.
وتكمن مأساة مسيحيي العراق في الواقع، في اصل القلق الراهن على المصير الذي يعتري الاوساط المسيحية العربية، والتي أتت نتائج الربيع العربي لتزيد من تفاقمه.
في زمن الازمات
افتتح المؤتمر، رئيس جامعة القديس يوسف البروفسور الأب سليم دكاش اليسوعي، مستهلاً كلامه بالترحيب، مشيراً الى ان «مصطلح «ترحيب» بحسب القاموس كالمحيط والمنجد، هناك معنى السعة والتعبير عن السرور، ولكن القاموس يضيف معاني اساسية اخرى فيصبح الترحيب مرادفاً لطول الأناة وانفتاح العقل والتسامح، وكذلك الحرارة وقبول طلب الآخر. ذكرت هذه المعاني لأقول ان انعقاد هذا المؤتمر ومعالجة موضوع خطاب الجماعات المسيحية يقتضي منّا جميعاً، بالاضافة الى حرارة المناقشة وتبادل الآراء في اطار المكان الاكاديمي العلمي، يقتضي منّا الكثير من انفتاح العقل والتسامح وقبول الآخر للاصغاء المتبادل والسعي الى الحقيقة المشتركة من دون لَبْس وتشويه».
واعتبر، «ان هذا المؤتمر هو خطوة من الخطوات الهامة والاساسية في اطار مشروع بحثي أقرّه ويدعمه مجلس البحوث في جامعة القديس يوسف، وذلك على ثلاث سنوات، بهدف دراسة الخطاب المسيحي في زمن الازمات، كماً ونوعاً، شكلاً ومضموناً».
وخلص الى القول، «فان العمل من اجل لبنان الرسالة، ومن اجل مشرق عربي فيه نفحات الربيع العربي، هو مهمتنا كل يوم، والارتقاء الى مستوى المواطنية هو واجب الجامعة والروح الاكاديمية».
عرب أقحاح
الدكتور كامل أبو جابر (وزير خارجية الاردن سابقاً، ورئيس مجلس أمناء المعهد الملكي للدراسات الدينية، ممثلاً الأمير الحسن بن طلال في المؤتمر) بدأ بالقول، «بأن أمتنا العربية بمسلميها ومسيحييها وغيرهم، تجد نفسها في ورطة مع نفسها ومع العالم، وأن جو الازمة الحضارية الذي يعصف بالأمة جمعاء جو خانق، ولكن يبدو ان هذه الجماعات المسيحية تعاني من تحديات وضغوط خاصة بها تفوق تلك التي تعاني منها الأمة جمعاء، ورطة يبدو وكأنها تفوق طاقتها بحيث انها لم تجد بعد المخرج المعقول منها».
وهو يرى، ان «هناك بالطبع اسباباً كثيرة لتزايد الضغوط الغربية المتصهينة على المسيحيين المشرقيين، بعضها ديني وبعضها غير ذلك، اما ما زاد من حدتها فهو انهم عرب اقحاح من طين البلاد وحضارتها من جهة، وكونهم عنصراً اساسياً من عناصر احياء الروح والثقافة والقومية العربية، منذ منتصف القرن التاسع عشر من جهة اخرى. ولعل تعلقهم الشديد واستماتتهم في الدفاع عن القدس الشريف ومقدسات الأمة، وعن فلسطين وشعبها وجغرافيتها وارضها المباركة، هو ما نبّه اسرائيل ومؤيديها من المحافظين الجدد في الغرب الى ضرورة تهجيرهم، الامر الذي تزامن مع ردّة فعل المدّ الاسلامي في المنطقة منذ سنة 1948. فالقدس التي تحتلها اليوم اسرائيل كانت على مدى التاريخ قبلة حج المسيحيين اليها».
انفتاح ومشاركة
ولفت الدكتور كامل ابو جابر، الى ان «الحركة الصهيونية وصلت الى قناعة، بعد حرب 1967، مفادها ضرورة تفجير التناقضات، ثم القضاء على التعددية التي تُعد من أبهى مظاهر الحضارة العربية الاسلامية، وأهم رموزها الوجود المسيحي في المنطقة، كي تتمكن من التأكيد على ضرورة يهودية الدولة العبرية…».
ويرى، ان «لا سبيل امام الجماعات المسيحية في تشكيل خطاباتها السياسية والثقافية الا بمزيد من التأكيد على هوياتها واصالتها العربية، وبمزيد من الانفتاح والمشاركة في مجتمعاتها الحضارية الواسعة».
ويرى ايضاً، «ان امام مسيحيي الشرق عقبات كثيرة وصعبة، بعضها لا شك في انه من صنعهم، اذ يتوجب عليهم توحيد جهودهم وتكثيفها للعمل الجماعي الهادف الى رفض الاستمرار في الهجرة والتهجير. واحسب ان لبنان قادر على التصدي لمثل هذه المهمة الجليلة نظراً لما يتمتع به من طاقات، ولانه على الرغم من جميع الصعاب التي مرّت به يبقى المثال الافضل للعيش المشترك والذي قد يتطور ليصبح الانموذج».
التعددية والتعايش
وخلص الدكتور كامل ابو جابر الى القول، «ان استقرار وراحة بال وطمأنينة مجتمعاتنا العربية والاسلامية، لن تتأتى الا عبر التعددية وقبول الآخر والتعايش الفعال بين جميع مكونات هذه المجتمعات، بحيث يشد بعضها من ازر بعض في وجه التحديات اللامتناهية للقرن الحادي والعشرين، وبحيث تشكل ما اراده اللّه تعالى لها، ان تكون لوحة فسيفسائية تعددية بهية لا توجد في اي بقعة اخرى على وجه هذه الأرض».
خطاب المحبة
اما الدكتور محمد السماك، فهو يعرف الكثير عن هذا الموضوع، ومن جوانبه كافة. وفي كلامه الكثير من الموضوعية والمنطق.
ويقول: «أعرف ان هناك تلازماً بين المسيحية والأزمة. واعرف ان المسيحية انتصرت على ما واجهته من ازمات ومحن، منذ اشراقاتها الاولى حتى اليوم… من الامبراطور الروماني نيرون الذي حكم على القديس بطرس بالموت صلباً ورأسه الى الاسفل، الى الامبراطور قسطنطين الذي اعتنق المسيحية وجعلها دين الدولة ورأسه الى الاعلى».
وتابع قائلاً: «ومنذ ان آمنت المسيحية بالمحبة ودعت اليها، وجدت فيها – وجعلت منها – خطاباً لفتح ابواب الازمات المغلقة. هكذا حدث في المجمع الفاتيكاني الثاني الذي قدّم خطاباً طوى صفحات ازمات عديدة: أزمة الكرسي الرسولي مع متغيرات العصر، وأزمة العلاقات مع الكنائس الاخرى، وأزمة الموقف من اليهودية والاسلام».
خطاب اسلامي – مسيحي مشترك
ومن ثم، يقول الدكتور محمد السماك: «واليوم، يعاني مسيحيو الشرق من الشعور بأن ثمة موجة صاخبة من التطرف الديني الاسلامي. وان هذه الموجة تستهدفهم، ان التطرف يفجر اكثر من ازمة. انه يصنع محنة. ومع هذه المعاناة، يعاني مسلمو الشرق من الشعور بأن مسيحيي الشرق غير مقتنعين بأن هذه المحنة تستهدفهم معهم ايضاً. وانها بالتالي محنة مشتركة اخرى تتطلب خطاباً مشتركاً وموقفاً مشتركاً. وفي هذه الحال فان اللاموقف ليس موقفاً».
من هنا، لفت الى انه «اذا كانت هناك ازمات مسيحية تتطلب خطاباً مسيحياً، فإن هناك ازمات مسيحية اخرى تتطلب خطاباً اسلامياً، وهناك ازمات مسيحية تتطلب خطاباً اسلامياً – مسيحياً. ان ازمة الهجرة المسيحية الواسعة من العديد من دول العالم العربي مثلاً، تُلقي على المسلمين مسؤولية مواجهتها والتصدي لها لأنهم سيكونون الخاسرين الكبار من تداعياتها السلبية…».
واضاف قائلاً: «لا تقتصر خسارتهم على تفكيك نسيج المجتمعات العربية وربما تفكيك دولها ايضاً، كما لا تقتصر على فقدان هذه المجتمعات لثروة من الكفاءات الفكرية والعلمية والاقتصادية والاجتماعية والوطنية، ولكنها اضافة الى ذلك كله، تشكل – الهجرة المسيحية – مضبطة اتهام للاسلام بأنه يرفض الآخر وانه لا يقبل التعايش مع غيره». مشيراً، الى انه «اتهام غير صحيح يشوه العقيدة الاسلامية، ويعرّض المسلمين للمعاملة بالمثل في الدول الاجنبية التي استوطنوا فيها، لذلك، ليست الهجرة المسيحية شأناً مسيحياً فقط، ولكنها شأن اسلامي ايضاً يتطلب خطاباً اسلامياً. وهي شأن اسلامي – مسيحي كذلك يتطلب خطاباً اسلامياً – مسيحياً مشتركاً».
وخلص محمد السماك الى القول، او بالاحرى، الى السؤال الآتي: «هل من خطاب يمكن اعتماده لمواجهة هذه الأزمة – المحنة، أفضل وأفعل من خطاب الحوار والتلاقي وبناء جسور التفاهم والثقة… وصولاً الى المحبة؟».
ويختم: «… لقد دلت التجربة الانسانية على انه لا خطاب اقوى من ضعف خطاب المحبة»
اسكندر داغر