سياسة عربية

لبنان خارج ممر الفيلة!

تنتظر عواصم عدة معنية بالوضعين اللبناني والسوري التموضع الذي ستكون عليه الادارة الاميركية الجديدة على مستوى كل ما يتعلق بالتعيينات والترتيبات المتصلة بالوضعين، وخصوصاً في كل من وزارتي الدفاع والخارجية ومجلس الامن القومي التابع للبيت الابيض. وكل من المواقع الثلاثة معني بوضع، ليس فقط العناوين العريضة للسياسة الخارجية، بل تفاصيل تطبيقها.

تشير التعيينات التي يجريها الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى أن السياسة الخارجية ستكون من أولوياته الرئيسة في الولاية الثانية، سعياً الى ترك بصمات بأقل تكلفة ممكنة في عالم تتسارع خطى تغييره وتزداد وتيرة خطورته، وهو الذي اتبع القوة الناعمة، ومن ثم القيادة من الخلف والتي اثبتت انها تقدم له تراكماً في المكتسبات من غير ان يضطر لقاءها الى دفع اثمان اميركية باهظة.

السياسة الخارجية
يعتقد مراقبون ان تعيين دينيس مكدونو في منصب رئيس اركان موظفي البيت الأبيض، وهو بوابة الوصول إلى اوباما، دليل آخر على تقدم السياسة الخارجية، اذ ان مكدونو شغل سابقاً منصب نائب مستشار الأمن القومي، وساهم في بلورة خطط الانسحاب الأميركي من العراق وأفغانستان. وان كان التقليد يفترض ان يكون شاغل منصب المسؤول عن الموظفين في البيت الابيض متبحراً في القضايا الداخلية الاميركية، لكن خبرة مكدونو في الشؤون الدولية قد تعني دفع قضايا السياسة الخارجية قدماً. ومما يعزز هذا الاعتقاد بقاء توم دونيلون مستشاراً للأمن القومي، وهو الشخصية النافذة في الدائرة الرئاسية الضيقة، والذي يقوم بدور رئيسي في السياسة الخارجية.
ويرى المراقبون ان الدور المرتقب لوزير الخارجية الجديد جون كيري سيكون متقدماً، وربما يفوق الدور الكبير الذي ادته الوزيرة هيلاري كلينتون. فكيري ظل لصيقاً باوباما في ولايته الأولى وساعده في الكثير من الملفات والأزمات الدولية. وهو في الوقت عينه قريب جداً في الممارسة من استراتيجيتي القوة الذكية والقيادة من الخلف، اذ هو يغلّب التدخل السياسي لحل الازمات الدولية على التدخل العسكري، وسيكون له دور بارز في الملفات الشرق اوسطية، من ايران الى سوريا وغيرهما، نتيجة معرفته وتعمقه في سياسة الشرق الاوسط، وطبيعة التفكير في هذه المنطقة اللاهبة والمتغيرة بإستمرار، وهي بسبب ذلك تحتاج الى الافكار الاستراتيجية القريبة من الواقع، وليس تلك التي تصنع في المختبرات الفكرية، على غرار ما اعتمده المحافظون الجدد في اعوام حكم الرئيس السابق جورج دبليو بوش، وانتهت الى ما انتهت اليه من ازمات متسلسلة لا قعر لها في اكثر من اقليم، ولا سيما في العراق وافغانستان، وعموماً في ما عرف بـ «الحرب على الارهاب».
ويبدي المراقبون اهتماماً خاصاً بما ستكون عليه السياسة الخارجية الاميركية في سوريا، واستطراداً في لبنان حيث الجمر يكمن تحت الرماد نتيجة تراكض الاحداث السورية وغياب افق الحل على رغم الجهود التي تبذل في اكثر من عاصمة اقليمية ودولية.
وثمة اعتقاد بأن سوريا – واستطراداً لبنان – لن يكونا في رأس اولويات السياسة الاميركية، نتيجة ظروف عدة، اهمها ربما ان استراتيجية القيادة من الخلف تفترض بأن واشنطن ستكون على ما هي عليه من تورط الحد الادنى – وربما غير الملحوظ – في المسألة السورية، وستترك امر القيادة الامامية الى تحالف مقاولي الباطن، من عواصم عربية واسلامية، مع تشديد اميركي على امرين: استقرار الحد الادنى في لبنان، بما يجعله نسبياً خارج ممر الفيلة اي بعيداً عن التعرض للاهوال المحيطة به، واطفاء شعلة المجموعات الجهادية، من مثل جبهة «النصرة».

لبنان وسوريا
يرى تقرير صادر عن مجموعة الازمات الدولية، بعنوان «توازن هش: لبنان والصراع في سوريا»،  ان الصراع في سوريا تجاوز حدود البلاد وتسرب إلى الجوار، إلاّ أن مخاطر ذلك على لبنان لا يمكن أن تقاس بمخاطره على أي منطقة أخرى. والمسألة ليست مسألة تاريخ فقط، على رغم أن التاريخ لا ينبىء بالخير، إذ إن لبنان نادراً ما كان منيعاً على الاضطرابات في جارته. ويزيد من خطورة الوضع تأثير الأحداث الأخيرة التي كان أكثرها دراماتيكية اغتيال المسؤول الأمني الرفيع وسام الحسن في 19 تشرين الأول (أكتوبر) 2012، والذي يشكل مثالاً على هشاشة لبنان وقصر نظر سياسييه الذين لا يبدون رغبة في التصدي لهذه المسألة».
ويشير الى ان «الائتلافين الرئيسيين، 8 و١٤ آذار، ينظران إلى الأحداث في سوريا من منظورين متناقضين تماماً، إذ تشكل هذه الأحداث حلماً يتحقق بالنسبة إلى الفريق الأول، في حين تمثل كابوساً رهيباً للطرف الآخر. قد يكون من غير الواقعي أن يتوقع المرء أن يبقى اللاعبون اللبنانيون غير مبالين حيال التطورات الجارية في البلد الجار، إلاّ أنه من الضروري تحصين البلد إلى أكبر درجة ممكنة ومقاومة الجهود التي تبذلها أطراف أخرى – سواء كانت من حلفاء دمشق أم من خصومها – لجر البلاد في اتجاه خطر. وعليه، (كان) ينبغي، في أعقاب اغتيال الحسن، تأليف حكومة جديدة أكثر توازناً، والتزام اللاعبين المحليين والإقليميين بعدم استعمال الأراضي اللبنانية كحلبة للانخراط في الصراع في سوريا».

منأى
يتابع التقرير: «منذ الأيام الأولى للأزمة السورية، كان ثمة ما يبرر التوقعات بأن لبنان، الذي كان تقليدياً يخضع لنفوذ جارته القوية، لن يبقى في منأى عنها مدة طويلة. يتشاطر البلدان حدوداً بطول 365 كيلومتراً، غير مرسّمة وقابلة للاختراق في الاتجاهين. كما أن علاقات وثيقة جداً تربط السكان على جانبي الحدود. وللنظام السوري تاريخ من التصرف بنزق عندما يشعر بأنه محاصر، إضافة إلى تراث من التدخل العنيف في كثير من الأحيان في الشؤون اللبنانية. كثيرون شعروا بالقلق منذ البداية من أن دمشق ستسعى الى زعزعة الاستقرار في جارتها على الأقل لإضعاف خصومها عبر الحدود وتحذير العالم من التبعات المحتملة لاقتتال طويل. ثمة فئات لبنانية مهمة تشعر بالاستياء العميق إزاء سلوك النظام خلال العقود الماضية؛ وينطبق هذا خصوصاً على السنة في الشمال الذين يشعرون بالتضامن مع إخوانهم في سوريا. وللتوترات المذهبية داخل سوريا ما يوازيها في لبنان؛ ومع تصاعدها في سوريا، فإنها ستتصاعد أيضاً في لبنان».

رهانات
ويشير الى أن «الفصائل اللبنانية تعي الرهانات جيداً. ويراهن كل منها على نجاح أحد الطرفين في سوريا، وينتظر ترجمة التوازن الإقليمي الناشىء إلى توازن داخلي. ويصعب على حزب الله أن يتخيل مستقبلاً مع نظام سوري مختلف تماماً، وقد ربط مصيره أكثر من أي وقت مضى بمصير حليفه، ولن يبقى من دون حراك إذا أصبح الأسد في خطر حقيقي. في المقابل، فإن تيار المستقبل ذا الغالبية السنية وشركاءه لا يرون بديلاً إلاّ في نهاية النظام، مهما استغرق ذلك من وقت ومهما بلغت الكلفة. إنهم يعتبرون الانتفاضة السورية استراتيجية بشكل مزدوج، فهي تمثّل فرصة ذهبية للانتقام من نظام معادٍ وفرصة أيضاً لتحدي الهيمنة الداخلية لحزب الله. من الصعب توقع استمرار التوازن الهش في لبنان في ضوء مثل هذه العقلية التي تقوم على الغلبة. وباتت علامات انتقال آثار الصراع من سوريا إلى لبنان واضحة للعيان؛ فقد علقت المناطق الحدودية في الصراع، مع تدفق اللاجئين والهجمات ضد القرى اللبنانية الحدودية من هذا الطرف أو ذاك، بحسب الولاءات السياسية لسكان تلك القرى».

التضامن
ويعتبر التقرير ان لـ «تدفق اللاجئين تبعات إنسانية، لكن تترتب عليه تبعات سياسية وأمنية أيضاً:
أ- إذ شهد اللبنانيون السنة الوحشية المتزايدة لنظام الأسد وسياسة الأرض المحروقة التي يتبعها، وتالياً صعّدوا من انخراطهم في الصراع. لقد دفعهم تضامنهم مع إخوانهم المحاصرين إلى تحويل مناطق عدة إلى ملاذات آمنة (…). لقد كانت هذه هي الحال في الشمال، خصوصاً المناطق الحدودية في طرابلس وعكار، ولكن أيضاً – إلى درجة أقل – في البقاع الشرقي. بدأ تهريب الأسلحة إلى سوريا بشكل تجاري مرتجل، إلاّ أنه توسع بدرجة كبيرة، إذ يبدو أن (ثمة) من يستعمل تركيا كمركز لتقديم الدعم لمجموعات المعارضة المسلحة. وعلى نطاق أوسع، فقد ساعدت الانتفاضة السورية الجماعات الإسلامية في كلا البلدين على تعزيز مكانتها والعلاقات في ما بينها والتي كانت قد ضعفت إن لم تكن انقطعت في الثمانينيات.
ب- كما أن حزب الله دخل طرفاً في الصراع. كان عليه تحقيق التوازن بين اعتبارات متعارضة تتمثل في الدفاع عن النظام وفي الوقت نفسه الاحتفاظ بمكانته في لبنان ليس فقط في الوقت الحاضر، بل أيضاً في ظل توقعات بحدوث تغييرات في دمشق. ولهذا السبب رضخ، من جهة، لسياسات رئيس الوزراء نجيب ميقاتي حتى عندما كانت تتعارض مع مصالح النظام السوري، ومن جهة أخرى، قدم للنظام دعماً عملياً. ثمة الكثير من التخمينات حول نطاق هذا الدعم لكن من دون توافر أدلة ملموسة.  لقد ادعت المعارضة اللبنانية والمتمردون السوريون منذ وقت طويل أن قناصة حزب الله يساعدون قوات النظام ويقتلون المتظاهرين، كما يزعم المسؤولون الأميركيون أن سوريا وحزب الله وإيران تتعاون عسكرياً بشكل وثيق، وهي تشكل ميليشيات نخبة. ما يبدو واضحاً هو أن الحزب الشيعي صعّد من انخراطه على الأرض. يبقى من غير المؤكد مدى فاعلية ذلك في إنقاذ النظام، لكن في الحد الأدنى فإن الرسالة التي يرغب في إرسالها إلى العالم الخارجي هي أنه سيفعل كل ما هو مطلوب».

الحرب الاهلية
يضيف التقرير: «في الوقت الراهن، وعلى رغم هذه التطورات، فإن احتمالات تجدد الحرب الأهلية في لبنان تبقى بعيدة نسبياً. على رغم أن الأحزاب المختلفة لها مصالح متباينة، هي تصرفت بطريقة تحد من الضرر بشكل عام. ولا يزال حزب الله يتمتع بالتفوق العسكري، وهو ما يجبر خصومه على التفكير بعناية قبل أن يتحدوه. كما أن المواجهة لن تكون في مصلحة الحزب الشيعي أيضاً، لأنها ستجتذب المزيد من الإدانات والعزلة داخلياً وإقليمياً. لذلك بدا حزب الله مصمماً، حتى الآن، على المحافظة على الوضع الراهن. الأكثر أهمية هو أن أياً من الفرقاء السياسيين الرئيسيين في لبنان لا يريد اختبار أي سيناريو كارثي، وجميعهم يخشون التبعات التي لا يمكن التنبؤ بها أو إدارتها لأزمة متصاعدة. وحتى عندما وجد السياسيون اللبنانيون وسائل للتدخل في الصراع في البلد المجاور، فإنهم أظهروا قدراً ملحوظاً من ضبط النفس»


طلال عساف

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق