الاقتصادمفكرة الأسبوع

منطقة اليورو امام الحقيقة المرة

يعتقد المراقبون ان الاوروبيين آن لهم ان يدركوا ان المستقبل بالنسبة اليهم قاتم في المدى القصير، وان النمو غير منظور، وان سيولة الدول الاوروبية آيلة الى التدهور. فهل تجرؤ منطقة اليورو على مواجهة الحقيقة؟

يقول باتريك ارتوس، احد ابرز الكتّاب في مجلة «لو بوان» الفرنسية ان سلطات منطقة اليورو في العديد من المجالات. وحكومات المنطقة لا تجرؤ على مواجهة الحقيقة، وتخبىء وراء نظرة تفاؤلية خادعة. ويعطي امثلة على ذلك سياسات دعم النشاطات والمراكز الاقتصادية، وتوهم السيولة النقدية، بالاضافة الى وهم دور السياسات النقدية التوسعية في اعادة التصنيع المرجوة من قبل دول جنوب منطقة اليورو.

سياسات الهيكلة
لنبدأ بمسألة تعويض الاثار السلبية لسياسات الهيكلة. لقد باتت دول منطقة اليورو بحاجة الى وضع سياسات لدعم النمو على المدى الطويل: اصلاحات سوق العمل (تسهيل الصرف من الخدمة لتشجيع اعادة التوظيف)، اصلاحات سوق السلع والخدمات (تقليص الريوع، وفتح المهن المغلقة)، اصلاحات التقاعد، الاصلاحات الضريبية (فرض رسم على الاستهلاك لتقليص رسم العمل). والحقيقة ان كل هذه الاصلاحات الهيكلية بينها نقطة مشتركة، اذ انها تحسن آفاق النمو في المدى الطويل، وتقلص الطلب والنشاط في المدى القصير (زيادة عدد حالات الصرف، خفض الوظائف والاستثمار في القطاعات التي تشتد فيها المنافسة، تقليص الاستهلاك اذا ارتفعت الضريبة على القيمة المضافة. ويؤكد ارتوس انه «لا اصلاحات بنيوية غير مؤلمة في المدى القصير. ويسود الاعتقاد في اغلب الاحيان ان خسارة النشاط في المدى القصير عائد الى الاصلاحات البنيوية  التي يمكن ان تعوض بسياسات ماكرو- اقتصادية محفزة. لكن هذه الحالة غير متاحة لان معدل الدين العام مرتفع كثيراً (مع نسبة دين عام تفوق سنة من الناتج الاجمالي في اسبانيا، وايطاليا، والبرتغال، واليونان، وبلجيكا)، ولأن معدلات الفائدة ضعيفة جداً، من هنا يقتضي القبول بأن فكرة دعم النمو في المدى الطويل في منطقة اليورو ستؤدي مبدئياً الى خسارة في النمو.

وهم السيولة
المسألة الثانية التي تهز اركان منطقة اليورو تكمن في توهم المحافظة على ملاءة موازنات دول منطقة اليورو، بحسب السلطات الاوروبية والحكومات. اليونان وحدها وقعت في الحفرة. وهناك بعض دول المنطقة لديها او سيكون لديها معدل دين عام عال جداً، مع ارتفاع العجوزات العامة، وضعف النمو. ويرى احد الخبراء الاقتصاديين، انه مع الاخذ في الاعتبار مستوى الدين والنمو، ينبغي تقليص العجز العام 8 نقاط في اسبانيا، و3 نقاط في الناتج المحلي الاجمالي في ايطاليا، و9 نقاط في ناتج البرتغال، و15 نقطة في ناتج اليونان، و4 نقاط في ناتج ايرلندا في العام 2013 من اجل تأمين استقرار معدلات الدين العام بالنسبة الى الناتج المحلي الاجمالي، وهذا ما يكشف اتساع مشكلة السيولة. وتقوم النظرية الرسمية في منطقة اليورو على ان كل الدول، ما عدا اليونان، مليئة على صعيد الموازنات، وستقوم باصلاحات هيكلية ستؤدي الى زيادة النمو في المدى الطويل.
غير ان الفوائض الاولية للموازنات ضرورية في المدى القصير لتأمين سيولة الموازنات: اكثر من 4 نقاط في ناتج اسبانيا وايطاليا، و8 نقاط في ناتج البرتغال، سيكون صعباً جداً، لا بل انه مستحيل تأمينها. يضاف الى ذلك اننا لا نلاحظ تحسناً في الانتاجية، باستثناء اسبانيا. والحقيقة، انه ينبغي الشعور بالقلق حيال سيولة الموازنات في دول منطقة اليورو الاخرى غير اليونان.

المشكلة الثالثة
تكمن المشكلة الثالثة في توهم دور السياسات النقدية التوسعية للبنك المركزي الاوروبي. ويعتقد بعض المحللين ان وضع سياسات نقدية توسعية، كما في اليابان، سيسمح بخروج منطقة اليورو من الازمة، لكن محللين آخرين يرون انه يجب تصحيح هذه النظرية لان المشكلة الاساسية في منطقة اليورو تكمن في غياب ارباح الانتاج، والتقدم التقني، الآتي من عدد قليل من المؤسسات المبدعة، وانحسار الصناعة. انتاجية العمل جامدة. اكثر من ذلك، فان توسعاً نقدياً كبيراً يمكن ان تكون له آثار غير مرجوة، كما نلاحظ اليوم في اليابان: ظهور تضخم متنام، وصعود في معدلات الفائدة الاسمية، فقاعات في اسعار الاصول (ارتفعت الاسعار في بورصة اليابان 60٪).
واخيراً، يعتبر آرتوس انه يمكن الشك في قدرة اعادة تصنيع دول الجنوب. وغالباً ما يطرح هذا الامل في اسبانيا واليونان والبرتغال، بفضل تحسين التنافسية، والسياسات الهيكلية. غير ان المرحلة الراهنة تكشف لنا خلافات اعادة التصنيع المتزايدة، بحيث يمكن القول ان الانتاج الصناعي، منذ بداية العام 2008، تراجع بنسبة 27٪ في اسبانيا، و30٪ في اليابان، و25٪ في البرتغال.
ويجب الا ننسى ان استحالة اعادة التصنيع في هذه الدول تتأتى من بعدها الجغرافي، وعدم كفاية مهارة سكانها، بخلاف ما هي الحال في دول شمال منطقة اليورو.

آمال خجولة
رغم هذه الصورة القاتمة لوضع منطقة اليورو فقد برز اخيراً بعض العلامات المطمئنة نسبياً، وفي مقدمتها عودة حد محدد من النمو في تموز (يوليو) بفضل تحسن النشاط الصناعي الذي يؤمل الخروج من الركود. ومن تلك العلامات ايضاً بلوغ مؤشر “PMI” المركب 50،5 نقطة في تموز (يوليو)، وهو اعلى مستوى منذ نحو سنتين، مقابل 48،7 نقطة في الشهر الذي سبق. مع العلم انه عندما يتخطى هذا المؤشر 50 نقطة معنى ذلك ان النشاط يتقدم، بخلاف ما هي الحال اذا هبط عن الـ 50 نقطة. وتعطي هذه الارقام بعض الآمال في امكان الخروج من الركود الذي عانت منه منطقة اليورو من دون ان تتمكن من تجاوزه. وقد سجلت المنطقة سادس فصل على التوالي من انخفاض الناتج المحلي الاجمالي في مطلع  السنة.
وشهدت منطقة اليورو ايضاً علامات مشجعة الى حد ما، كالتحسن الجديد في ثقة المؤسسات والمستهلكين، وارتفاعها الى اعلى مستوى منذ نيسان  (ابريل) 2012. بالاضافة الى تراجع طفيف في عدد العاطلين عن العمل للمرة الاولى منذ سنتين.
وفي التفاصيل، ان الانتعاش المتسارع في المانيا اكبر اقتصادات منطقة اليورو، مع ارتفاع مؤشر “PMI”  الى 52،1 نقطة، وانكماش النشاط في فرنسا (49،1 نقطة)، وفي ايطاليا (49،7)، واسبانيا (48،6)، بلغ اعلى مستوى منذ سنتين. تبقى هناك عقدة كبيرة، وهي ان سوق العمل تبقى نقطة الضعف الاساسية في منطقة اليورو، باعتبار ان ارتفاع البطالة يشكل كابحاً للنمو، ومحفزاً للتوترات السياسية والاجتماعية.


جدل حول سياسة البنك المركزي الاوروبي
الجدال يتصاعد حول سياسة البنك المركزي الاوروبي. ففي مطلع نيسان (ابريل) الماضي، تدخل رئيس وزراء اسبانيا سياسياً للاعلان عن توسيع دائرة الادوات في متناول المؤسسة. ووحده بنك مركزي كبير، لا يقبل على شراء الدين بكثافة، يبقى مؤملاً بنسبة 2٪ من التضخم سنوياً فقط. والحقيقة ان البنك المركزي الاوروبي ليس وحده من يأمل ذلك بل هناك في العديد من العواصم المالية من يحلم فعلياً بأن يرى البنك المركزي يتبع مسار البنك المركزي البريطاني، او مسار بنك الاحتياط الفيدرالي (البنك المركزي الاميركي)، او حتى مسار البنك المركزي الياباني.
يبقى القول ان العمل الصارم بات ملحاً من اجل تجنب انهيار النظام المالي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق